التفاسير

< >
عرض

لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

"لا" في "لئلاّ يعلم" زائدة. و"أن" في "أن لا يقدرون" مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف وهو الشأن، أو ضمير راجع إلى أهل الكتاب أي: لأن يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء مما ذكر من فضل الله من الكِفلين والنور والمغفرة، ولا يتمكنون من نيل شيء منه، لأن جميعه مشروط بالاعتقاد الصحيح في حق الله ورسوله، وهم لم يؤمنوا برسول الله، فلا ينفعهم إيمانهم بغيره من الأنبياء بعدما فرقوا بين رسل الله، وليعلموا أن الفضل بيد الله وقدرته، ويؤتيه من يشاء بمشيّته السابقة، وارادته الأزلية المنبعثة عن علمه باختلاف القوابل وتفنن الماهيات - والله ذو الفضل العظيم -، بإفاضة نور الوجود على هياكل الممكنات.
وقيل: إن المراد بفضل الله ها هنا النبوة، أي: لا يقدرون على نبوة الأنبياء، ولا على صرفها عمن يشاء الله أن يخصّه بها، فيصرفوها عن محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى من يحبونه، بل النبوة كسائر الفضائل الموهبية بيد الله، لا مدخل لتعمّل الناس في استجلابها، يعطيها من يشاء ممن هو أهلها ومستحقها.
وقيل: "لا" ها هنا في حكم الثبات، والمعنى: لأن لا يعتقد أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين به لا يقدرون على شيء من فضل الله ولا ينالونه، فعلى هذا يكون الضمير في "يقدرون" للنبي والمؤمنين، ويكون "أن الفضل" عطفاً على "أن لا يعلم". أو لأن لا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون أن يؤمنوا، ويكون المراد: لكي يعلموا أنهم يقدرون على الإيمان وطلب الفضل والثواب.
وقرأ الحسن: "لَيْلا يعلم" - بفتح اللام وسكون الياء -، وروي بكسر اللام أيضاً - وتوجيهه على ما قيل، بأن حذفت الهمزة من "لان" لثقلها حتى صار "لن"، ثم أدغمت "النون" في "اللام" للمجانسة بينهما، فصار "لِّلا" - بالكسر - ثم أبدلت اللام الثانية المدغمة في الثالثة "ياء"، كإبدالهم الواو المدغمة وغير المدغمة ياء في "ديوان" و "قيراط"، فإن الانتقال من المضاعف إلى المعتلّ متعارف عند أهل اللسان.
وأما الفتح - كما في قراءة الحسن: فعلى أن أصل لام الجر هو الفتح، وقرئ: "لكي يعلم"، و"لكيلا يعلم"، و"ليعلم"، و"لأن يّعلم" - بادغام النون في الياء، "ولين يّعلم" بقلب الهمزة ياء، وإدغام النون في الياء، كما ذكر في الكشاف.
مكاشفة
إنما يستشعر من الآية الكريمة، أن لأهل الإيمان اقتداراً على استجلاب فضل الله وتمكناً من استدرار رحمته، ومفهوم الخلاف وان لم يكن معتبراً عند الأكثر، سيما في مثل هذا المقام حيث عقّب بقوله: { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [الحديد:29]، إلا أنه مما يمكن تصحيحه ها هنا بوجه عقلي، فإن الفضل وان كان كله من عند الله بحسب مشيئته بلا تأثير لغيره في الإجارة، وتوسيط لما سواه في الإفاضة، لكن لا بد من تعلق المشيّة بواحد دون واحد من مخصص، لامتناع الترجيح من غير مرجّح، - كما هو المذهب المنصور -.
فللعبد اختيار في اكتساب المرجّح بتحصيل المعارف الإيمانية والعقائد الحقة - أولاً -، ثم العمل بمقتضاها - ثانياً -، ثم الانتظار لهبوب رحمة الله وفضله - ثالثاً -.
فإن من حصّل المعرفة بالله ورسوله واليوم الآخر، والاعتقاد والثواب للمحسن، والعقاب للمسيء - وان كان على وجه التقليد والظن -، حَصَل لنفسه تشوّق إلى تكميل جوهره بتحصيل اليقين والوصول إلى ثواب الله والتقرب إليه، فيبعثه ذلك على قمع الشهوات الظاهرة عن النفس - أولاً -، ثم على قلع الصفات الذميمة الباطنة عن القلب - ثانياً -، ثم يختار العزلة والخلوة عمّا يشوّش ذكره ويوسوس طبعه، فيجلس للمراقبة والذكر والفكر، ثم يؤدي به ذلك إلى أن يجعل همومه ومقاصده وأغراضه واحداً - هو التشوق إلى طلب الحق -.
وإذا غلب ذلك على قلبه، فهو بعدُ ناقص محروم، ما لم يكن من المتفكرين وأهل العلم، فإن كان له مجال في التفكر، وحركة معنوية في الباطن، شغله ذلك عند التجرد عن محاربة الشيطان ووساوس الوهم، بإبداء الشبهات والشكوك في قلبه، حتى يضلّه ذلك عن الطريق، وان لم يكن له سير في الباطن، وحركة معنوية في الملكوت، فلا تنجيه الأوراد المتواصلة والصلوات المتعاقبة، بل يحتاج معها إلى تكليف الحضور لقلبه بالأفكار المعنوية، فإن التفكر في الباطن هو الذي يستغرق القلب ويسخّر النفس دون الأوراد الظاهرة.
وربما لم يسلم مع ذلك من الآفات الشاغلة له في بعض الأوقات من الفكر والذكر ضرورية كانت أو غير ضرورية، كمرض وخوف، أو إيذاء من مخاصم، أو طغيان من مخالط لضرورة المعيشة أو اشتغال بمطعم أو ملبس مما يُحْوِجُهُ إلى شغل تولاه بنفسه، فإن تيسر له قطع هذه العلائق لتسلم له أكثر الأوقات، فيصفو قلبه، وينشر فكره في عالم الملكوت، وينكشف له من أسرار الله ما لا يقدر على شيء قليل منه جملة الأذكياء المشتغلين بقلوبهم بالدنيا وعلائقها.
وهذا أقصى المقامات التي لاختيار العبد مدخلية في أن تنالها بالاكتساب والجهد، فأما مقادير ما ينكشف له من فضل الله، ومبالغ ما يرد عليه من رحمته، فهو خارج عن اختياره واقتداره، فإنه يجري مجرى الصيد، وهو بحسب الرزق والطالع الأسمائي، الذي طالع طالعه السمائي، فقد يقل الجهد ويحلّ الصيد، وقد يطول الجهد ويقصر الحظ، فالمُعَوّل بعد ذلك على جذبة من جذبات الحق التي توازي عمل الثقلين، وليس ذلك باختيار العبد، وان كان له اختيار في أن يتعرض لتلك اجذبة بالاكتساب من الرياضات الفكرية والعملية (العلمية).
وإليه الإشارة بقوله: إن لربكم في أيام دهركم نَفَحات، أَلاَ فَتَعَرّضوا لها.
وذلك بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا، فإن المجذوب إلى أسفل السافلين كيف ينجذب إلى أعلى عليين، وذلك لأن تلك النفحات والجذبات أرزاق معنوية بمنزلة الرزق الصوري، فلها أسباب سماوية رحمانية، كما أن للرزق الصوري أسباباً سماوية جسمانية، إذ قال:
{ { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات:22]. فإن هذه السماء الجسمانية مثال وظل لمبدء رحمانيته تعالى المنبعث عنها الأرزاق الصورية والمعنوية كلها، ولهذا وقعت الإشارة بقوله: { { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه:5].
وهذا الذي كلامنا فيه، من أجلّ مراتب الرزق المعنوي، فهو أيضاً من أسباب سماوية قدسية، والأمور السماوية غائبة عنّا فلا يُدرى متى يسّر الله أسباب الرزق، فما علينا إلاَّ تفريغ محل القلب والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أَجَله، - كالذي يصلح أرض الزراعة وينقّيها من الحشيش ويبث فيها البذر -، بأن يصفي المريد القلب عن ذمائم الصفات، ويبث فيه بذر المعارف الإلهية - وكل ذلك لا ينفعه إلاَّ بنزول المطر - ولا يدري متى يقدّر الله أسباب المطر، إلاَّ أنه يثق بفضل الله وسنّته في أن لا يخلي الأرض سنة عن مطر، فكذلك قل ما يخلو قلب المريد الصافي في شهر أو يوم عن جذبة من جَذبات الحق.
وبالجملة - فقد عُلم أن تطهير القلب عن حشيش الشهوات، والبَذْر فيه ببذر الإيمان بالله ورسله وملكوته، وجعله لمهابّ فضل الله مما لاختيار العبد مدخل فيه، إلاَّ أن يكون في غاية الجمود والقساوة لسبق الكفر المتمادي، أو الفسوق المتراكم كالجاحدين من أهل الكتاب.
وأما نزول أمطار الفضل، وهبوب رياح الرحمة، فلا اختيار للعبد فيه، بل كله بيد الله يؤتيه من يشاء.
فقوله: ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله، نعي عليهم وإبعاد ووَيْل لهم، حيث لا يمكنهم تطهير الباطن وتصفيته عن الرذائل لاستدرار رحمة الله وفضله، وذلك لجمود قرائحهم الجاسية، وفساد قلوبهم القاسية.
كما قال:
{ { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر:22].
خاتمة
هذه السورة مدنية، وهي تسع وعشرون آية، وقيل: ثمان وعشرون والاختلاف في قوله:
{ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد:13] و { { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } [الحديد:27].
وعدد كلماتها خمسمأة وثلاث وسبعون.
وحروفها ألفان وأربعمأة وتسعون.
وانتظام ختم الواقعة بافتتاحها أنهما في التسبيح.
وانتظام السورتين أن تلك السورة في ذكر السابقين وأصحاب اليمين والمكذبين الضالين، وهذه السورة في كيفية الارتقاء إلى درجة السابقين وأصحاب اليمين بالمعارف الحقّة والأعمال الصالحة، وفي حث الفائزين بالوصول إلى درجة المقربين والسعداء بسبب الإيمان، على تقويته وتوسيع دائرته وتكثير فوائده، ودفع المُطْفين لأنواره، والجاهدين لآثاره، من الكَفَرة الفَجَرة، وترغيب المؤمنين في مجاهدة الكافرين والإنفاق على المجاهدين.
فافتتحت السورة بتقديس الله عن النقائص وصفات الممكنات، وسمات الحادثات، بلسان كل من في سمٰوات عالم الملكوت، وما في أرض عالم الملك، وبذكر أن جميع ما وقع عليه اسم الوجود ملكه، وتحت تسخيره، جار عليه سلطانه، نافذ فيه حكمه، سار فيه أمره، يصرفه كيف يشاء بالإحياء والإماتة.
ثم ذكر أن منشئ مملكة السموات والأرض وبانيها - مع تمادي أزمنة بقائها، واتساع أمكنة أرضها وسمائها -، مما لا يغيب عنده زمان عن زمان، ولا يفوت لديه مكان عن مكان، بل جميع الأزمنة والزمانيات - لإحاطته القيومية - في حكم آن واحد في الحضور لديه، وكافة الأمكنة والكائنات بتمامية الإلهية في حكم نقطة واحدة في المثول بين يديه، من غير تطرّق تجدّد وتغيّر في ذاته، أو احتمال تجزٍ وتكثّر (تجبّر وتكسّر - ن) في صفاته، وذلك لأنه هو الأول في عين آخريّته، وهو الظاهر في عين باطنيّته، ولما كان هذا مستلزماً لشمول علمه بجميع الموجودات، وإحاطة شهوده بجملة الكائنات ذكر عقيبه:
{ { وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3] و [الأنعام:101].
ثم أشير إلى أن عمله بكل شيء بنحو العلم بأسباب ذلك الشيء وعلله، - الذي هو أجلّ مراتب العلم وأوثقها وأتقنها -، ليعلم أن عالميّته بالأشياء بأي نحو من ضروب العالِميّة وليعلم أنه ليس باحساس ولا بانفعال، وإلاَّ يلزم استكمال الكامل بالناقص، وانفعال العالي عن السافل، فذكر أنه مبدع الأشياء وخالق الأرض والسماء في أقل من عدد كامل - هو السبعة - أعني الستة.
ثم لمّا كان أسباب وجود الكائنات وشرائط حفظها وبقائها: من الأرزاق والآجال، ينزل من عنده بواسطة السمٰوات وقواها المحرّكة لها شوقاً إلى طاعة بارئها فنون الحركات، وصنوف اختلاف الأوضاع والنسب التي تنشأ منها الكائنات، وينبعث منها الحيوان والنبات على ما جرت عليه سنّة الله التي لا تبديل لها، وجملة المتحركات السماوية والأكر الكوكبية في فلك واحد عظيم مشتمل على الجميع اشتمال الشخص الإنساني على أعضائه وجوارحه وأركانه، هو المحدد بجسميّته للجهات والأبعاد، وبمقدار حركته للأزمنة والحركات، فهو بنفسه وعقله يدبّر الكل، ويَسُوس الجميع بإذن مبدعه ومحرّكه ومدوره وموجد نفسها ومحركها، تحريكاً شوقياً بالحركات النفسانية، والأوراد والأذكار القدسية، والانتقالات العلمية، والطاعات الملكية، كل ذلك تشوقاً إلى جنابه، وتقرباً إلى طاعته، وامتثالاً لأمره، وتضرعاً وابتهالاً نحوه وتشفعاً لديه لإنجاح مقاصد الملهوفين، واستغاثة عنده لإغاثة المحتاجين، واصلاح أحوال الهابطين إلى معدن الظلمات، وإعلاء مرتبة النازلين في مهوى عالم الجهالات من أهل الاستعداد، وإصعادهم عن رتبة السافلين إلى أوْج العليّين بالهامهم معرفة المبدأ والمعاد، وتوسطاً لجبر كسير وخلاص أسير، فاريد التنبيه على أن هذه الوسائط، مما لا مدخلية لها في الإيجاد والإعطاء، بل هي مظهر الرحمة ومستوى الرحمن، وهو الذي استوى على العرش لانتظام ما في الكون، وتسبيب الأسباب، وتهييج الأشواق، وانشاء الدواعي، وتوسيط القوى الفعّالة، ووضع القوابل المنفعلة، كل ذلك على سبيل العناية بالسافلات، وترشيح الخير الدائم على المنفعلات الكائنات بوساطة عالم الحركات العاليات، الصادرات بأمره تعالى عن الملائكة المدبّرات، وعباده الساجدات الراكعات، كما أشير إليهم بقوله تعالى:
{ { غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6].
ثم عاد إلى بيان علمه بالجزئيات، بزيادة استيضاح على هذا الوجه المذكور من سبيل أخرى، فأشار إلى أن من هو شأنه هكذا، لا بد وأن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، بل يعلم الوالج في الأرض من أسباب قابلية الوجود للكائنات - كالبذور والنُطَف وغيرها من المقادير والكيفيات الاستعدادية -، والخارج منها -، كاجساد المواليد الثلاثة وأبدانها، من الجماد والنبات والحيوان -، والنازل من السماء، - كقواها وصُوَرها ونفوسها وما يتحصّل ويتقّوى به أعضاؤها وأحجامها كالأمطار والثلوج وغيرهما -، والعارج فيها من العقول الصافية الإنسانية التي صارت طيوراً سماوية طائرة إليها من أقفاص الأبدان بجناحَي العلم والعمل، بخلاف النفوس المتعلقة المقيدة بشهوات هذا العالم، التي تكون أبدانهم بالقياس إلى نفوسهم البهيمية اسطبل الدواب لا أقفاص الطيور، فليس لهم قوة الارتقاء إلى ملكوت السماء، ولا لهم سبيل إلى عالم التقديس وعالم المعنى.
ثم لمّا تقدم أنه سبحانه مما لا يتجدد عليه شيء بالغيبة والحضور، والوجود والدثور، ولا يفوته شيء من الأشياء، بل الماضي والمستقبل بالنسبة إليه كالآن في الحضور لديه، ومع ذلك هو القائم على كل نفس بما كسبت بيديه، لاستوائه برحمانيته على عرش وجود الحوادث والكائنات، واستقلاله بالإفاضة والإيجاد على الموجودات من غير تأثير لغيره إلاَّ في الإعداد. فظهر أن لا واسطة بينه وبين كل موجود، ولا تفاوت فيها عنده، ولا تعاقب لوجود على وجود لديه، بل هو بوحدته مقَوّم ذات الجميع، وبفردانيّته مقرّر ماهية الكل، أثبت معيّته لنا أينما كنّا ومتى كنّا، عالين أو سافلين، سابقين أو لاحقين، فإذا كان كذلك، كان علمه حضورياً شهودياً، إشراقياً نورياً، فعبّر عن ذلك بأنه
{ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد:4].
ولما علم مما ذكر سابقاً كونه مبدأً فاعلياً للجميع، أراد التنبيه على أنه المبدأ الغائيّ أيضاً للكل، وحيث كان الأول كاشفاً عن الثاني مستلزماً له، ذكر رجوع الأمور إليه بعدما أعاد ذكر نسبة ملك السمٰوات والأرض إليه، ليعلم أنه الغاية القصوى للكل، كما أنه المبدأ الأعلى للجميع بتوسط (بتوسيط - ن) المنافع والغايات الجزئية، وتسبيب (تسبب - ن) الأسباب المتوسطة لوجود الأشياء على الوجه الذي أراد وشاء.
ثم لما مرت الإشارة إلى الأسباب القابليّة الأرضية والفاعلية السماوية لخلق المركبات العنصرية، أراد أن يشير إلى أن تأثير الأسباب العالية في القوابل السافلة متوقف على الحركة المتجددة، ليقرب المعلول إلى علّته - فإن الأمور مرهونة بأوقاتها الحاصلة من حركات أسبابها وتغيّراتها، فاختلاف الحركات والأوقات سبب لاختلاف الحوادث والكائنات، كما يشاهد تبدل الفصول الموجب لتخالف الليالي والأيام، المستلزم لاختلاف أحوال الخلائق والأنام -، عبّر عن تفاوت الليل والنهار على الوجه المشاهد المستلزم لاعتدال الكائنات بولوج كل منهما في صاحبه، مومياً إلى المنافع والغايات المترتبة على تفاوتهما في المقدار واختلافهما في الآثار، وبيّن أن الجاعل لهما على هذا الوجه المقرر، والمولج لكل منهما في الآخر: - هو سبحانه -، لتدبير الكائنات ومصلحة الموجودات. فإنه سبحانه لو لم يجعل الأنوار الكوكبية ذات حركة سريعة مشتركة، واخرى بطيئة مختصة، ولم يجعل دوائر الحركات البطيئة مائلة عن دائرة الحركة السريعة، لَمَا مالت إلى النواحي شمالاً وجنوباً، فلم تنتشر منافعها على بقاع الأرض.
ولولا أن حركة الشمس - خصوصاً - على هذا المنوال، من تخالف سَمْتها لسَمْت الحركة السريعة، لَمَا حصلت الفصول الأربعة التي يتم بها الكون والفساد، وتنصلح بها أمزجة البقاع والبلاد، ولما كان القمر نائباً للشمس خليفة لها في النضج والتحليل، والإصلاح والتعديل، وإذا كان قوي النور جعل مجراه يخالف مجراها، فالشمس تكون في الشتاء جنوبيّة والقمر شمالياً لئلا ينعقد السببان، وفي الصيف بعكس ذلك لئلا يجتمع المسخّنان، ولما كانت الشمس في أيام الصيف الطوال شمالية الحركة، وفي أيام الشتاء القصار جنوبيّتها، ولها أوْج وحضيض متقابلان بينهما نصف دور، جعل الله تعالى بحكمته البالغة أوجها في الشمال وحضيضها في الجنوب، لينجبر قُرْب المَيل عن سَمت الرأس ببُعْد المسافة لئلا يشتد التسخين بالتنوير، وينكسر بعده بقربها لئلا تضعف القوة المسخنة عن التأثير، كل ذلك لحكمة العليم القدير، الحاصلة من تخالف الليل والنهار وتفاوتهما في المقدار.
ولما كان بيده وجود الأسباب المؤديّة إلى خلقة الإنسان بدناً ونفساً، صورة ومعنى، كان عالماً بصفاته الظاهرة البدنية وملكاته الباطنة النفسانية، فذكر أنه عليم بذات الصدور، ليعلم أنه ناقد بصير لا يخفى عليه قليل ولا كثير، فيجازي على كل عمل قلبي، كما يجازي على كل حركة بدنية.
ولما بيّن أنه سبحانه متصف بغاية العظمة والجلال، منعوت بكونه مبدأً أعلى وغاية قصوى للكل، يتضح لذوي البصيرة أن الكل محتاجون إليه في الوجود، وخصوصاً المعلول الذي تضاعفت فيه وجوه الحاجة، وكثرت عنده جهات الإمكانات الذاتيّة والاستعدادية، ولا شبهة في أن مَن هو موصوف بغاية الفقر والفاقة، من شأنه التشبث بمن هو منعوت بالكرم والإفضال، ومَن دَأبه التضرع والابتهال وطلب التخلّص عن القصور والوبال، ممن هو على غاية التمام والكمال، واستدعاء الاستمداد والاستكمال ممن هو في نهاية العظمة والجلال، متبرّئ الذات عن النقص والعدم والزوال، كائناً بذاته الفردانية الأحدية، منبع كل صورة وكمال، ومنشأ كل خير وجمال.
ثم لا يخفى إن كل ناقص يسوغ له الانتقال من حدود النقص إلى ذروة الكمال، فله طريق خاص ومنهج معيّن في الترقي إلى أوج الترفع والإقبال، فللأجسام - بما هي أجسام - الحصول في مطلق الحَيْز والفضاء وللعناصر في الحركة نحو المكان الأسفل والأعلى، وللنبات في الاغتذاء والنماء، وللعُجْم من الحيوان في حياته الدنيوية بأنفاسه وحركته بإرادته وإحساسه، وما من دابة فما دونها إلاَّ ومن شأنه البلوغ إلى أقصى ما لها في ذاتها ما لم يعقها عائق، ولنوع الإنسان كمال يخصه هو الإيمان بالله وأفعاله القريبة بحسب جزئه العلمي، والتجرد عن الدنيا واللذات البهيمية بحسب جزئه العملي، ولهذا وقع له الأمر بالإيمان بالله ورسوله والإنفاق مما زاد على ضرورات بقائه الكوني.
ثم بيّن سبحانه عِظَمَ أجْر الإنسان الذي سلك مسلك المعرفة والتجرد بقوله:
{ { لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } [الحديد:7]، لأنه بهذين الأمرين يقرب من الملكوت ويتخلّص عن الناسوت.
ثم أظهر سبحانه الاستنكار والتعجب ممن لم يتفطن بالمعرفة بالله عند تحقق الرسول - المعلّم للبشر الداعي إلى طريق الحق -، مع قابلية الذوات ومناسبتها لمعرفة الحق بحسب الفطرة الأصلية المعبّر عنها "بأخذ الميثاق".
ثم بيّن عظم رتبة هذا المعلم البشري وكيفية ارتقائه إلى مرتبة الرسالة ودرجة التبليغ، وهو إنما يكون بتنزيل الله سبحانه على عبده المستجمع للفضائل والملكات البشرية الآيات البيّنة والمعارف الحقّة، لتتنور ذاته بالأنوار القيوميّة، ويستشرق عقله المنفعل بالأضواء الأحَدية، وتستضيء نفسه التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار بالإشراقات الصَمَدية، ويصير عندما مسّته نار الأنوار والشعلات الجبروتيّة نوراً على نور، ليتنور بنور ذاته المستضيئة بأنوار الله المنتكسينَ في دياجير الجهل والظلمات، الهابطين إلى مهوى الغفلة والشهوات، المتزحزحين لضعف الأحداق عن عالم الإشراق، ويخرجهم من ظلمات الأجسام إلى نور عالم الأرواح ومرجع نفوس السعداء والكرام.
ولما كان إرسال الرسول وانزال الوحي وتنزيل الآيات إلى قلبه منه تعالى على وجه لطيف، حيث صار موجباً لنظم أمور الدنيا، وتَعَيّش الإنسان على أبلغ نظام مع تحصيل الأهبَّة في سفر الآخرة له، وأخذه الزاد وربح التجارة في المعاد، والفوز بأرفع مقام ومراد - فقد كان فيه نفع العاجل مشفوعاً بسعادة الآجل -، أشار إلى هذا التلطف في الهداية والتكميل والإخبار عن تعلّق صفتي الرأفة والرحمة بالعباد لترتبهم في الوجود والبقاء من جهتي المعاش والمعاد.
ولما أمر أولاً بالإيمان والإنفاق اللذين هما خلاصتا الكمال العلمي والعملي. ثم أخذ يسأل شبه المتعجب المستفهم عن التاركين للإيمان في تركهم إياه مع دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخذ الميثاق - أي وجود المعلّم وقابلية المتعلّم -، وتأييده سبحانه هذا المعلّم بصنوف أسباب الهداية والتعليم، فعاد ثانياً شبه المتعجب المستفهم عن التاركين للإنفاق في تركهم إيّاه، محتجاً عليهم في استقباح هذا البخل والإمساك منهم بأن ما في تملّكهم ليس باقياً لهم، بل في معرض الزوال، هو عنهم وهم عنه، وأن الجميع بالحقيقة ملكه يعود إليه، وله ميراث كل شيء، سواء في ذلك المال وذو المال.
ثم ذكر تفاضل المنفقين والمجاهدين قبلَ الفتح وبعدَه، وتفاوتهم في درجة الجزاء والثواب، فإن أفضل الأعمال أحْمَزُها، مع أنه وعد الجميع بالحسنى لاشتراكهم في أصل الفعل الحَسَن، وذكر أنه خبير بمراتب الإخلاص في العمل وحسن النيات، كما أنه خبير بظواهر الأعمال وبواعث الأفعال.
ثم وعد الأجر الكبير مع المضاعفة في مقدار الثواب لمن يقرض الله قرضاً حسناً.
ثم بيّن الموضع الذي تتحقق فيه المجازاة على الأعمال، وتتبيّن فيه الدرجات والأحوال، ويتميّز فيه السعداء عن الأشقياء، فذكر شيئاً من أحوال المؤمنين، وشيئاً من أحوال المنافقين في ذلك اليوم، وذكر تخلّف المنافقين عن المؤمنين في سلوكهم طريق النجاة بنور المعرفة والسداد، وتمنّيهم الاقتباس من نور معرفة المؤمنين مع استحالة ذلك ببطلان استعدادهم الفطري، وزوال قابليّتهم الجِبِلّيّة. وذكر ردّ المؤمنين ملتمسهم ومقترحهم بالتنبيه على فقدان القبول لهذا الاقتباس، والإشعار بما يوجب لهم الخذلان واليأس.
ثم ذكر أنّه وقع عند ذلك حاجز ذو باب باطنه يلي عالم القدس والرحمة والنعمة، وظاهره يلي عالم الظلمة والغضب والنقمة.
ثم أشار إلى نداء أهل الجحيم لأهل النعيم، وسؤالهم إياهم بسبب علوّ مرتبتهم وانحطاط مرتبة مرتبتهم مع الاتفاق بينهم في ظواهر الأعمال البدنية، والتساوي في مزاولة العلوم الدينيّة، وبطلان ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، فحكى الجواب لهذه الشبهة الواهية التي هي أوهن من بيت العنكبوت من قِبل البارعين في العلم من أفاضل المؤمنين: إن ملاك التقرب إلى الله تعالى، والصعود إلى معارج القدس، إنما هو بالإخلاص في النيّات، والسير المعنوي في الملكوت، والتفكر في بدائع الفطرة مع صدق الطويّات، وأنتم سلكتم مسالك الأمانيّ والشهوات، والاغترار بالدنيا واللذّات، بتسلط الغارّ المغوي عليكم، وإراءة الشيطان لكم الباطل في صورة الحق، حتى ترسخت فيكم ذمائم الصفات، وتراكمت في قلوبكم ريون المعاصي والشهوات.
فلن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم، ولا يسمع منكم معذرة، ولا يؤخذ منكم فدية ولا من الكفار، النار مأواكم، والجحيم مولاكم، إذ كل شيء يصير إلى أصله، وكل مريض يداوى بعقاقير بلده، ومأواكم بئس المأوى (وموليكم بئس المولى - ن)، ومصيركم بئس المصير.
ثم لما ذكر حسن أحوال المخلَصين، ووخامة عاقبة المنافقين لأجل اغترارهم بالدنيا، عاتب المؤمنين المشتغلين باكتساب الدنيا وقلّة التشوق إلى دار الآخرة، حيث تطرقت فيهم قساوة القلوب لتطاول الأمد، كما في بني إسرائيل، ونهاهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلب.
ثم تداركهم باللطف بعد هذا التوبيخ بأن قلوبكم وان قست وقصرت عمّا كان في سابق الإسلام، وماتت بنسيان المعرفة وقلّة تلاوة الآيات والذِكّر الحكيم، لكن الله يحييها بنور المعرفة والتلاوة والذكر، لبقاء قابليتها بثبوت أصل الإيمان فيها، كما يحيى الأرض بعد يبسها، لبقاء جوهرها، وان عدمت عنها الطراوة التي هي بمنزلة تذكر الآيات في الإنسان.
والقلوب التي لم يبق فيها أصل الاعتقاد، بمنزلة الأرض التي فسدت ذاتها وأرضيّتها، وانقلبت سبخة أو رماداً أو ملحاً، لا يمكن إحياؤها بأنوار المعارف الحقّة، ومياه الأعمال الصالحة، كما لا تنصلح المملحة للعشب بأضواء الشمس ومياه المطر.
ثم رجع إلى الترغيب والحث للإنسان على اكتساب العلم والعمل، بحكاية حال العاملين والعالمين، بذكر الوعد للذين تصدّقوا واقرضوا الله قرضاً حسناً، - بتضعيف جزائهم وكرامة أجرهم -، وبذكر الفضيلة للمؤمنين بالله ورسله إيماناً حقيقياً، بأنهم هم الصدّيقون والشهداء عند ربهم، والوعد لهم بأجر ونور مخصوصين بهم لمزيد شرفهم ومنزلتهم عند الله، لمكان المعرفة اليقينية والعمل المنبعث عن محض المعرفة، والإخلاص الذي لا يوجد مثله في غيرهم، أما الأجر ففي مقابلة أعمالهم الخالصة، وأما النور فمن لوازم معرفتهم المحضة بلا شوب غرض ورياء في الأول، ولا تطرّق شبهة وريب في الثاني.
ثم ذكر لتوضيح هذه المنزلة في الاعتقاد والعمل وشرافته، بذكر ضدها فيهما، وهو الكفر الذي هو أفسد مراتب الجهل - بازاء فضيلة المعرفة بالله -، والتكذيب بآيات الله الذي هو أقبح القبائح العملية - بازاء فضيلة العمل الصالح -، وذلك لأن الأشياء تُعرف بأضدادها.
وأخبر بأنهم أصحاب الجحيم بحسب غريزتهم الأصلية، كما أنهم من أهل هذه الدنيا بحسب طبيعتهم الفطرية، إذ الجحيم من سنخ هذه الدار الفانية الهالكة الباطلة، ولهذا وقع الاشتراك بينهما في الخصائص والأحوال.
أما ترى أن شأن كل منهما الإحالة والتحليل، ودأبهما الإماتة والتبديل، أشخاصهما أبداً في الذوبان والانتقال، وأجسامهما دائماً في الحركة والارتحال، حال الساكنين في الدينا نظير ما حكى الله عن حال سكّان الجحيم بقوله:
{ { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [النساء:56]. فاشتركوا في الاستحالة والذوبان، وكذا حال أهل الدنيا في تضاد عناصرهم في الكيفيات المحسوسة، وتباغض نفوسهم في الأغراض الخسيسة النفسانية، والدواعي القبيحة الدنيّة، وتخالف مذاهبهم الناشئة عن المخاصمة والعناد، والمناقشة في الحسد واللداد، كحال أصحاب الجحيم فيما ذكره سبحانه بقوله: { { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف:38]. وبقوله: { { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [ص:64]. إلى غير ذلك من الخصائص الجامعة للدنيا والجحيم، والصفات المشتركة بينهما، التي تدل على أن الدنيا بعينها صورة الجحيم، والجحيم بعينها حقيقة الدنيا.
وعلى هذا الرأي شواهد عقليّة، ومؤيدات نقليّة، وإشارات قرآنيّة، ورموزات نبويّة، ونصوص الهاميّة، وبراهين حدسيّة، يستيقنها من يعرفها، ويستنكرها من ينكرها.
وإذ قد ثبتت جهة الاتحاد بين الجحيم والدنيا، وان أصحاب الجحيم هم بأعيانهم من أصحاب الدنيا أشار سبحانه إلى بيان ماهية الدنيا ليعلم كيفية استتباعها للنار، واستلزام التلذذ بشهواتها للتعذب بعقوبات الجحيم، فأمر بمعرفة ماهيّتها وخصائصها، وحقيقة زهراتها ولذاتها، بكونها لعب ولهو، وما ينبعث منها كالتفاخر في الأمور الخسيسة والتكاثر فيها، وهي أمور باطلة وهمية لا حقيقة لها، كما لا حقيقة للنار إلاَّ كونها قطّاعة نزّاعة مفرّقة للاتصال، معدمة للكون والحياة، وجميع ما ذكرناه أمور عَدَمية لا حقيقة لها.
وهذأ الإشراق والنورية، والتلوّن الذي يتراءى من هذه النار الدنيوية ليست داخلة في حقيقة ناريّتها، لأنها ليست ناراً صرفة، بل نار مخلوطة بنور، ولها مرتبة في الكون والتحصّل، وأما النار الصرفة الأخروية فهي ليست إلاَّ إهلاكاً وإيلاماً، ولذلك قيل: "هذه النار الدنيوية غسلت بسبعين ماء عند مراتب تنزّلها إلى هذه الدنيا"، ليمكن الانتفاع بها رحمة من الله تعالى، والنار الأخروية مخلوقة من عين غضبه تعالى على من يستحقه.
ثم ذكر مثالاً مناسباً لدثورها وزوالها، ثم أشار إلى أن المتوغلين فيها، المطمئنين إليها مآلهم إلى الجحيم، حيث عقّب ذكر التمثيل في فنائها وفسادها واعجاب الكفار بزينتها بقوله:
{ { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [الحديد:20]، ولما كان من عادة القرآن أن لا يتجرد ذكر الغضب والعذاب فيه عن ذكر الرحمة والمغفرة، عطف عليه قوله: { { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٌ } [الحديد:20].
ثم رجع إلى تأكيد ذم الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور.
ثم أكّد في بيان الاجتناب عن الدنيا بأن أمر بالمسارعة في التباعد عنها للوصول إلى المغفرة والجنّة، كمسارعة السابقين في المضمار، وذكر تشويقاً للعباد في هذه المسارعة بوصف عظمة الجنّة وسعة ملكها بما يتصور من البسطة والسعة، وأنها معدّة للعارفين بالله ورسله، وأنها من مراتب فضل الله ودرجات تجلّيه على الأفعال والآثار وتطوره بالأطوار، وذكر أنه ذو الفضل العظيم، فإن جميع العوالم والنشآت من فضائل ذاته المتعالية عن الشَبَه والنظير، ومن رشحات فيضه المتعالي عن القصور والتقتير، وهذه الفضائل الأفعالية زائدة على شؤونات ذاته وتجلّيات وجهه في غيب غيوبه التي لا يحيط بها العدّ والإحصاء، ولا يمكن لها النعت والثناء.
ولهذا ذكر عقيبه بأن كل ما يوجد في هذا العالم، سواء كانت أموراً خارجية أو ذهنية، آفاقية أو أنفسية، فهي مما كانت قبل خلقها في كتاب من علمه تعالى الذي هو من مراتب شؤونه الصفاتية تفصيلاً، أو الذاتية إجمالاً.
وذكر أن من نتائج هذ المعرفة عدم الأسىٰ على الفائت ونفي الفرح عن الآتي.
ومن نتائج الجهل بها الخيلاء والفخر المبغوضان له تعالى المنهيّات بنهيه.
وينبعث عنهما كثير من الصفات الذميمة والأخلاق الردية، كالبخل وحمل الناس عليه، وجميع ذلك مما يورث البعد عن الحق، والتولي عنه إلى الأمور الباطلة، ويضر في معاد الشخص من غير نقصان في سلطانه تعالى وملكه، ولذلك عقّب ذلك بقوله: ومن يتولّ فإن الله غني - في ذاته - حميد - في صفاته.
وحيث يمكن أن يختلج لأحد في قلبه أن صفة الغناء المطلق تنافي طلب الصدقات والطاعات وسائر حقوق الله على العباد بألسنة الرسل والكتب، أشار إلى دفع هذا التوهم، بأن الغاية في ارسال الرسل بالمعجزات وإنزال الكتب، وقانون العدالة في الأفعال والصفات، ليس إلاَّ استقامة الناس واصلاح نفوسهم بمَلَكة العدالة، وحصول المعاملة بينهم بالقسط والإنصاف، من غير تعد وجَوْر، وتفريط ونقص لتدوم معيشتهم الدنيوية وصولاً إلى سعادتهم الأخروية.
وكما انه ليس المقصود في خلق أسباب الهداية من الرسل والكتب والقوانين إلاَّ تبقية الناس بحسب الدارين، لا منفعة تعود إلى ذاته - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - كذلك في خلق الأسباب الجسمانيّة من أدوات الحروب وغيرها ليس المقصود منه إلاَّ منفعة العباد لا غيرها، ولذلك عقّب ذكر المقصود من الأولى بذكر المقصود من إنزال ما هو من قبيل الثانية، وذكر أن في إنزال الحديد وخلق آلات الحروب وآلات الصنائع، ليس الداعي فيه إلاَّ ما يرجع إلى الخلائق، إذ الفائدة فيه بأس شديد ومنافع للناس، ولأن في استعمال الأسلحة المتخذة منه تبيّن رتبة حال المجاهدين في سبيل الله، والناصرين له ولرسله حين الغيبة عنهم، لا لحاجته - تعالى عن ذلك - إلى الناصر له في إهلاك أعدائه، لأن الله إذا أراد إهلاكهم، قوي على ذلك، عزيز لا نقص في قدرته ولا قصور في عزته.
وللإشعار بأن المقصود من إيجاد الممكنات وهدايتهم طريق الحق بارسال الرسل ونصب الأدلة والآيات، ليس غرضاً يعود إلى ذاته، بل إنما هو مجرد عناية بالقياس إليهم، وفيض رحمة عليهم على سبيل الرشح، ونظم للأمور وترتيب للأسباب وصولاً إلى المسببات، مترتبة عليها الغايات الجزئية، ومصالح للعباد، من غير التفات من جنابه العالي إلى السافل، أخبر سبحانه أنه قد خلق الأنبياء وأرسلهم وذريّتهم إلى الخلق، مع تأييده إياهم بجنود لم تروها من الملائكة، وتنويره قلوبهم بالوحي والكتاب، والحال أنهم مع ذلك لم يقع الاهتداء بهم إلاَّ من بعض الناس دون بعض، وكثير منهم فاسقون.
ولو كان له تعالى ارادة جزافيّة، وأغراض جزئيّة، ومقاصد سفليّة - كما يتصوره العامة -، لم يتصور ذلك، ولما كان أولياء الله وأحباؤه ممتحنين بيد الأعادي، مقهورين بقهر الكَفَرة الفَجَرة، ممنوعين عن ارشاد الخلق معوقين عن هدايتهم مدة مديدة بسبب كيد المنافقين وافساد الظلمة.
ثم أكّد هذا المعنى بالإخبار عن اتّصال سلسلة الرسل والمصطفَين الأخيار على ما هو مقتضى حكمته البالغة، من عدم تخلية العالم عمن يوحّده، ويمجّده ويعظّمه، ويعرّفه، ويصفه بصفات العظمة والجمال، ويثني عليه بنعوت الكبرياء والجلال من الأنبياء والأولياء والعرفاء، ثم الأمثل فالأمثل، إلى أن بلغت نوبة الإجادة والإفضال إلى الأداني والأرذال، من غير تعلّق قصد بوجود هذا القسم إلاَّ على سبيل الاستجرار والاستتباع، كما ان الصانع الحاذق والنجّار المحدق إذا تمت صنعته في موضوع معيّن لها كالخشب مثلاً للسرير أو الباب، وبقي من الموضوع شيء، لا يضيع حق قابليّة هذه الفضالة، بل يصنع منه ما هو أدون منزلة من الأول، وهكذا، كالوتد والخلال، إلى أن يبقى شيء من الموضوع الجسماني، فهكذا الباري تعالى - وهو أشرف الصانعين -، يقع من صنعة وجوده الأشرف فالأشرف إلى الأخس فالأخسّ، حتى ينتهي إلى وجود الأشرار والفَسَقة والكَفَرة، فكان الغرض المقدم في إيجاد المكونات (الممكنات - ن) خلقه أشراف نوع الإنسان، فخلق من فضالته سائر الأكوان، لئلا يفوت كل ذي حق حقّه، ولا يضيع عن القابل مستحقّه، كل ذلك على سبيل الحكمة والعناية الخاليتين عن النقص والشَّين.
وذكر أنه عقّب الرسل بالرسل، وقفّى بعضهم على أثر بعض، مؤيداً بالآيات من لدن نوح وابراهيم إلى عيسى بن مريم (عليه السلام)، وكان في كل أمّة الغلبة للفساق والنجاة للمهتدين - وهم الأقلّون عدداً من المتوسطين والهالكين -، وكذا في أمّة عيسى (عليه السلام) كان بعضهم ممن آمنوا به واتبعوه، وكان في قلوبهم رأفة ورحمة فأُتوا أجرهم، وكثير منهم فاسقون.
ولما أخبر تعالى عن ارسال الأنبياء متّصلين إلى عيسى، وذكر حال قومهم وقومه الغابرين، شرع في ذكر نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحال قوّته الظاهر الحاضر، مخاطباً إياهم، آمراً لهم بالتقوى والإيمان، واعداً لهم كِفْلين من رحمته ونصيبَيْن من فضله وجوده، لشرافتهم وفضيلتهم على سائر الأمم، لقوله:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]. جاعلاً لهم نوراً يمشون به يوم القيامة - وهو نور المعرفة - جزاء إيمانهم بالرسول، وجزاء تقواهم المغفرة لذنوبهم السابقة، لأن العلم شرف وتحلية، والعمل نجاة وتخلية.
وهذه المراتب السنيّة لهم فوق سائر الأمم، لأجل استحقاقهم الذاتي، وصفاء قرائحهم الفطرية، فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، بعضهم أصفى وبعضهم أكدر، ولهذا أشار سبحانه تنبيهاً على تفاوت طبقات الخلق في الكمال بحسب الجواهر والاستعدادات بقوله: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ }، لخسّة جوهرهم ونقصان قابليّتهم، والفاعل الفيّاض وان كان متشابهاً في فيضه وجوده، كما أشار بقوله: { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }، لكن تختلف آثاره باختلاف القابليات:
{ { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [البقرة:26].
أما ترى أن الماء حقيقة واحدة متشابهة لكن تختلف آثاره حسب اختلاف الأراضي كما في قوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل:10 - 11].
والشمس ذات واحدة وفعلها الخاص بها الإضاءَة والإشراق، ومع ذلك يكون لفعلها الوحداني أثران متضادان كتبييض ثوب القصّار وتسويد وجهه.
فهذا ما خطر ببالي المنكسر، وحضر في ذهني الفاتر والقاصر، من النكات المتعلقة بهذه الكريمة، مع تضيّق المجال وتعسر الحال وفشوّ داء الجهل والوبال في الأطراف والأكناف، وترفّع حال الجهلة والأرذال، وتصدّرهم على الأخيار والأشراف، وخلو البقاع والبلاد عمن يعرف قدر المعارف والأسرار، الفائضة على قلوب العباد من خبايا علوم المبدأ والمعاد، والى الله المشتكى من زمان شاع فيه الجهل والعناد (والفساد)، وكثر فيه الحسد واللّداد، وانسد طريق المعرفة والسداد، واستكبر الناس عن تعلم الحق بحسب ما حصّلوه بالوسواس، وسمّوه علم المذهب لتوصلهم به إلى مراجعة الخلائق إليهم والاستيناس.
وله الشكر فيما أخرجنا الله به عن مضائق ظلمات الأبحاث الجدلية والكلامية، إلى أفضية الأنوار الإلهية القرآنية، ولرسوله الهادي إلى طريق التوحيد بأسرار كلماته ورموز آياته - محمد وآله - الصلاة والدعاء، كفى ارشادهم للخلق وافضالهم، وجزاء هدايتهم للناس وإكمالهم أولاً وآخراً.