التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٣
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

الواوات الثلاثة للجمعية، لكن الأولىٰ للدلالة على أنه تعالى مجمع صفتي التقدم والتأخر، والثالثة للدلالة على أنه مجمع الظهور والبطون، والوسطى للدلالة على أنه الجامع بين ذينك المجموعين - مجموع الأوليّة والآخرية، ومجموع الجلاء والخفاء -.
وعن عبد العزيز: إن الواوات مقحمة، والمعنى: هو الأوّل الآخر الظاهر الباطن. لأن من كان منّا أولاً لا يكون آخراً، ومن كان ظاهراً لا يكون باطناً، وهذا يلائم القول بأن أوّليته عينُ آخريّته، وظاهريّته عينُ باطنيّته.
وعن ابن عباس: الأول قبل كل شيء بلا ابتداء، والآخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء، فهو الكائن لم يزل، والباقي لا يزال، والظاهر: الغالب العالي على كل شيء فكل شيء دونه. والباطن: العالم بكل شيء، فلا أحد أعلم منه.
وتوجيه هذا المنقول - وإن كان فيه عدول عن الظاهر المفهوم - أنه مأخوذ من بَطَنَ الشيء بمعنى علم باطنه، ولهذا أردف بقوله: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، لأن العالم بوجوه الشيء عالم بما سواه.
وعن الضحّاك: هو الذي أوّل الأوائل وأخّر الأواخر، وأظهر الظاهر وأبطن الباطن.
وقال البلخي: هو كقول القائل "فلان أول هذا الأمر وآخره وظاهره وباطنه" أي: عليه يدور الأمر وبه يتم.
وقيل: هو المستمر الوجود في جميع الأزمنة الماضية والآتية، الظاهر في جميعها بالأدلة والشواهد، الباطن عن إدراك الحواسّ والمشاعر الجليّة، فيكون حجة على من جوّز رؤيته تعالى في الآخرة بهذه الحاسة.
وقيل: إن الأول والآخر صفة الزمان بالذات، والظاهر والباطن صفة المكان كذلك، والحق تعالى وسع المكان ظاهراً وباطناً، ووسع الزمان أولاً وآخراً، وهو منزّه عن الافتقار إلى المكان والزمان، فإنه كان ولا مكان ولا زمان.
مكاشفة
الأوّلية: قد تكون بمعنى كون الشيء فاعلاً، والآخرية بمعنى كونه غاية مترتبة على وجود الفعل في العين - وإن كانت الغاية بحسب وجوده في العلم متقدمة أيضاً -، فالله سبحانه أول كل شيء، بمعنى أن وجوده حصل منه، وبمعنى أن الغرض في حصول ذلك الشيء منه هو علمه بالمصلحة، وكونه تماماً في الجود والرحمة فيّاضاً على الأشياء بلا عِوَض، وآخر كل شيء، بمعنى أن الغاية التي تطلبه الأشياء وتقصده طبعاً وارادة.
والعُرَفاء المتألّهون، حكموا بسريان نور المحبة له والشوق إليه في جميع المخلوقات - على تفاوت طبقاتهم -، فالكائنات السفلية كالمبدعات العلوية على اقتراف شوق من هذا البحر الخضيم، واعتراف شاهد مقر بوحدانية الحق العليم:
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [البقرة:148]، فهو الحق الأول الذي منه ابتدأ أمر العالم، وهو الآخر الذي إليه ينساق وجود الأشياء سيّما بني آدم، إذ منه صدر الوجود، ولأجله وقع الكون.
وهو الآخر أيضاً بالإضافة إلى سير المسافرين إليه، فإنهم لا يزالون مترقّين من رتبة إلى رتبة حتى يقع الرجوع إلى تلك الحضرة بفنائهم عن ذاتهم وهويّتهم، واندكاك جَبَل وجودهم وآنيّتهم، فهو أول في الوجود وآخر في المشاهدة، والله - عزّ اسمه - حيث أنبأ عن غاية وجود العالم قال:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56] أي: ليعرفون: وقوله: كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقْتُ الخَلْقَ لأِعْرَف. فدلّنا على أنه الغاية القصوى لوجود العالم معروفاً، كما أنه الفاعل له موجوداً، ودلّنا أيضاً على بعض الغايات المتوسطة الضرورية بقوله: لولاك لما خلقت الأفلاك.
فالمبدأ والغاية لوجود العالم ولقاء الآخرة هو الله سبحانه، ولذلك بنى العالم، ولأجله نظّم النظام.
قال بعض الحكماء: ولو أن أحداً من الخلق عَرَف الكمال الذي هو الخير الأقصى، ثم كان ينظّم الأمور التي صدرت منه على الوجه الذي صدرت هي عليه وعلى مثاله، حتى كانت الأمور على غاية من النظام والتمام، لكان غرضه بالحقيقة هو ذات الباري، فهو الأول والآخر بهذا المعنى أيضاً.
تتميم
قد انكشف أن الموجودات العالية كلها بحسب فطرتها التي فطرها الله عليها متوجهة نحو غايات حقة، وأغراض صحيحة، بل الغاية في الجميع أمر واحد، هو الخير الأقصى، إلاَّ أن هاهنا غايات وهميّة زيّنت لطوائف من المكلّفين، فهم سالكون إليها في لبس وعماية من غير بصيرة ودراية، فهذه الطوائف مع وليّ الوجود ومنبع الرحمة والجود في شقاق، واتباعها ليسوا عباد الله في الحقيقة، ولا الله مولاهم الحق، وحيث ما يتولّونه فلهم لا محالة وليّ، وهو شيطان من الطواغيت، ولما كان فعل الشيطان الوسوسة والإضلال، ولا يطيعه الإنسان إلاّ بقوته الوهمية التي هي من جنود الشيطان، فإن شئتَ سَمّهم عَبَدَةَ الهوى، وإن شئتَ سَمّهم عَبَدَةَ الطاغوت، فقد نزل لكل ذلك القرآن.
فمن تولي الله وأحب لقاءَه، وجرى على ما أجري عليه النظام فقد تولاّهم و
{ { مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } [الأنعام:62] { { وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ } [الأعراف:196]. من كان لله كان الله له، و { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } [العنكبوت:5].
ومن تعدّى ذلك وطغى، وتولى الطواغيت، واتّبع الهوى، فلكل نوع من الهوى طاغوت، فَشَخَصَ كلٌ إلى معبوده ووجه إليه كما في قوله تعالى:
{ { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23].
وإنك لتعلم أن النظامات الوهمية والغايات الجزئية تضمحل وتبقى، فكل من كان إلهه هواه، ووليّه الطاغوت - والطاغوت من جوهرة هذه النشأة الدنيوية التي هي دار الغرور وموطن الزوّر -، كلما أمعنت هذه النشأة في العدم، ازداد الطاغوت اضمحلالاً فيذهب به ممعناً في وروده العدم، منقلباً به في الدركات حتى يحلّه دار البوار.
عصمنا الله وإخواننا في اليقين من متابعة الهوى، والركون إلى زخارف الدنيا، وجعلنا من عباده الصالحين الذين يتولاّهم برحمته يوم الدين.
وأما كونه ظاهراً: فلكونه نور السموات والأرض، والنور حقيقته الظهور، لأن ما ليست حقيقته النور فإنما يظهر بالنور، والنور بنفسه ظاهر وبذاته متَجَلّ.
وأما كونه باطناً - أي مختفياً -: فلشدة ظهوره وغاية وضوحه، ولأجل ذلك يختفي على الضمائر والأنظار، ويحتجب عن العقول والأبصار، فذاته بذاته متجل للاشياء ولأجل قصور بعض الذات عن قبول تجلّيه يحتجب، فبالحقيقة لا حجاب إلاَّ في المحجوبين.
والحجاب هو القصور والضعف والنقص، وليس تَجَلّيه إلاَّ حقيقة ذاته، إذ لا معنى له بذاته، إلاَّ صريح ذاته، لان صفاته ليست زائدة على ذاته كما أوضحه الربّانيون.
أَوَ لاَ ترى الشمس التي هي أشد الأنوار الحسية، وأقوى الأضواء البَصَرية، كيف احتجبت لفرط ظهورها على الحاسة البصرية، حتى لا يمكن للبصر لأجل ضعف قوته ملاحظتها إلاّ من وراء الحجاب، كالمرآة أو الماء أو السحاب الرقيق، كما قال الشاعر:

كالشمس يمنعك اجتلاؤك وجهها فإذا اكتست برقيق غَيْم أمكنا

فكذلك الحق سبحانه، فإنه وإن لم تُحط بحقيقته العقول والأفكار، ولم تدرك ذاته البصائر والأبصار، إلاَّ أنه ليس لوجهه نقاب إلاَّ النور، ولا لذاته حجاب إلاَّ الظهور، ولم يمنع القلوب من الاستنارة والاستجلاء بعد تزكيها عن كدورات الشهوات إلاَّ شدة الإشراق وضعف الأحداق.
فسبحان من اختفى عن بصائر الخلق نوره، واحتجب عن عقولهم لفرط الوضوح ظهوره، وهو بكل شيء عليم، لأنه بنور ذاته يظهر جميع الأشياء على ذاته، إذ العلم بالشيء ليس إلاَّ ظهوره عند شيء آخر، ومثوله بين يديه، والله خالق كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، إذ بيده ملكوت الأشياء، ومنه تنشأ حقائق الأنباء.