التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٤
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ }
أصل الخلق: التقدير. والاستواء: الاعتدال والاستقامة، ونقيضه: الاعوجاج. والعرش: السرير، ومنه:
{ { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل:23]. والعرش: الملك، يقال: ثُلّ عَرْشُه. والعرش: السقف، ومنه قوله تعالى: { { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } [البقرة:259].
والمعنى: إنه لما ذكر أن جميع الموجودات تمجّده وتسبّحه وتعظّمه - كل منها على قدر وعاء وجوده، وحوصلة إدراكه وشعوره - لعظمته ومجده وجماله وجلاله، وبيّن ذلك بأن له التصرف في الجميع بالمالكية والإفادة والإحياء والإماتة، وأنه أول كل شيء وآخره وظاهره وباطنه، والمملوك لا محالة يكون خاضعاً ساجداً لربه ومطيعاً لخالقه، فأراد أن يشعر بأن كونه بحيث يخضع ويسجد له الجميع، ليس أمراً جزافياً أو اتفاقياً، أو حكماً إجبارياً من غير استحقاق، بل هو أمر يليق بشأنه، واقع في مقابلة لطفه وإحسانه وكرمه وامتنانه، حيث نظّم أمور العالم على أبدع نظام، وأفاد وجود كليّات الجواهر وعظائم الأجرام على أشرف وضع ونظام.
إذ أنشأ أعيان السموات وأبدعها لا من شيء يقتضيه، ولا على مثال يحتذيه، ثم أمسكها بلا عماد، وأنشأ الأرض وأوجدها بلا اعتماد، في ستة أيام، ولم يخلقها في لحظة واحدة - وإن كان مقدوراً له تعالى - لأن خَلْقها في هذه المدة أصلح وأليق بحال الكائنات وأنسب بنظام المخلوقات.
ورتبها على أيام الأسبوع، فابتدأ بالأحد وختم بالجمعة، فاجتمع له الخلق يوم الجمعة، فلذلك تسمى جمعة - عن مجاهد -.
وقيل: إن إيجاد الحوادث على إنشاء شيء بعد شيء على التدريج والترتيب، أدلّ على كون فاعله عالماً مدبراً يصرّفه على اختياره كيف يشاء، حريّاً بأن يعبده ويسجد له ويطيع أمره جميع عباده ومن كان في ملكه وملكوته.
وقوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي: استوى أمره إلى ملكه، لأن الأمور والتدابير تنزل منه.
وعن الحسن: يعني استقر ملكه واستقام بعد خلق السموات والأرض وظهر ذلك للملائكة.
وإنما أخرج هذا على المتعارف في كلام العرب كقولهم: "استوى الملك على عرشه" - إذا انتظمت أمور مملكته -، وإذا اختلّ أمر ملكه قالوا: "ثُلّ عرشه". ولعل ذلك الملك لا يكون له سرير أصلاً، ولا يجلس على سريره أبداً، قال الشاعر:

إذا ما بنو مروان ثُلّت عروشهم وأَوْدَتْ كما أودت إيادُ وحِمْيَرُ

وقيل: معناه: ثم قصد إلى خلق العرش، عن الفرّاء وجماعة، واختاره القاضي. ويلزم منه أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات والأرض، وليس بذاك، مع بُعده عن اللفظ.
وروي عن مالك بن أنس أنه قال: الاستواء غير مجهول، وكيفيته غير معلومة، والسؤال عنه بِدعة.
وعن أبي حنيفة أنه قال: أقرؤه كما جاء. أي: لا تفسروه.
مكاشفة
اعلم أنه خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير محكم، فأبدع الأفلاك ثم زيّنها بالكواكب مع نفوسها المجردة المحرّكة إيَّاها بأمر باريها طاعة وخدمة لمبدعها، وتشوقاً إلى جاعلها، كما أشار إليه بقوله:
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [فصّلت:12].
وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية، فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيآت المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال، وأشار إليه بقوله: خلق الأرض - أي: ما في جهة السفل - في يومين. ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولاً، وتصويرها ثانياً، كما قال بعد قوله:
{ خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصّلت:9]، وجعل فيها رواسي من فوقها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام - أي مع اليومين الأولين - لقوله في سورة السجدة: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [السجدة:4].
ثم لمّا تم عالم الملك بأمره عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبّر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتمزيج القوى والكيفيات ممّا يَلِجُ في الأرض وما يخرج منها، وإمدادها بما ينزل من السماء، وهدايتها بما يَعْرُجُ فيها، وهو أقرب إلى كل شيء من هذه الوسائط، لأن له التأثير والإيجاد، ومنها التهيئة والإعداد، فهو تعالى مع كل شيء أينما كان، وهو القائم على كل نفس بما كسبت.
مكاشفة
إعلم أن المكشوف عند ذوي البصائر؛ أن الحق سبحانه خلق السموات والأرض في ستة أيام من الأيام الإلهية التي كل يوم منها ألف سنة مما تَعُدّون، وهي من زمان آدم إلى زمان محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جميع دور خفاء الذات واحتجابها بالأسماء وظهور الأسماء في مظاهر الأشياء، كل يوم منها ميلاد واحد من الأنبياء العظام من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم أجمعين -.
ثم استوى على عرش الذات - وهو الروح الأعظم - باسم الرحمن في اليوم السابع، وهو يوم الجمعة، لحشر الخلائق فيه، وجمعهم وحسابهم وميزانهم لقوله تعالى:
{ { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [هود:103].
وقد اشتهر فيما بين الناس في جميع الأمصار، ان مدة الدنيا سبعة آلاف سنة على عدد الكواكب السبعة، فكل الف سنة يوم من أيام الله لقوله تعالى:
{ { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج:47].
فالستة منها هي التي خلق الله فيها السموات والأرض وما فيهما، لأن الخلق حجب الحق. فمعنى خَلَق: اختفى بهما فأظهرهما وبطن، ويوم السابع هو يوم الجمع، وزمان الاستواء على العرش، والظهور بالأسماء، وهذا الظهور يبتدئ في السابع مع ظهور محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما روي أنه قال:
"بُعِثْت أنا والساعة كهاتين - وجمع بين السبابة والوسطى -" .
ويزداد إلى تمام سبعة آلاف سنة من لَدُنْ آدم أول الأنبياء، إلى زمان خاتم الأولياء - المهدي صاحب الزمان (عليه السلام) -، وتنقضي الخفايا لظهور التام لقيام الساعة، ووقوع القيامة الكبرى، وعند ذلك يظهر فناء الخلق والبعث والنشور والحساب والميزان، ويتميز أهل الجنة والنار، ويُرى عرش الله بارزاً - كما حكى بعض العرفاء عن شهوده -.
وتمام ظهور هذه الأمور في الآخرة، وان كان العارفون يشاهدونها في مرآة الدنيا، فابتداء يوم القيامة - الذي قد طلع فجره - ببعثة نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فالمحمدّيون لكونهم خير أمّة أخرجت للناس، أهل الجمعة، ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صاحبها وخاتم النبيين.
واتفق أهل الملل كلها من إليهود وغيرهم على ان الله فرغ من خلق السموات والأرض في اليوم السابع، إلاّ أن إليهود قالوا: إنه السبت، وابتداء الخلق من الأحد. وعلى ما ذكر يكون هو الجمعة.
وإن جعلنا الأحد أول الأيام، ووقت ابتداء الخلق، كان جميع دَوْر النبوة دَوْر الخفاء، وفي السادس ابتداء الظهور، وازداد في الخواص كما ذكر أنه "يوم خلق آدم" - أي: الحقيقي - "ويوم الساعة"ويوم المزيد"، حتى ينتهي إلى تمام الظهور وارتفاع الخفاء في آخره عند خروج المهدي (عليه السلام)، ويعم الظهور في السابع الذي هو السبت.
ولزيادة توضيح هذا المقام، نمهد مقدمة من الكلام، فنقول:
إن ما أوجده الله تعالى بحكمته البالغة، ونَظَمَهُ بنَظْمِهِ البديع لا يخلو عن قسمين: إما أمور طبيعية جسمانية، وإما أمور إلهية روحانية.
أما الأمور الطبيعية الجسمانية، فحدوثها وانشاؤها لا يكون إلاّ على سبيل التدريج، وممر الدهور والأزمان، إذا المعنيّ بالطبيعي؛ هو ما يصدر عن الطبيعة بقدرة الله تعالى، والطبيعة بما هي طبيعة ليست حقيقتها إلاَّ منشأ الحركة والسكون في الجسم الطبيعي، - وهما زمانيان كما حقق في مظانه -، والطبيعي إذاً تدريجي لا محالة، فوجود العالم الجسماني - فلكياً كان أو عنصرياً - تدريجي، لأن حقيقتهما متقومة بالتغيّر.
فكل عاقل لبيب، إذا فكّر في كيفية إيجاد الأجسام الطبيعية وعوارضها وصفاتها الطبيعية، يعلم ويتحقق أنها واقعة في مقدار من الزمان، ويتيقن أن هيولى الكل قد أتى عليه دهر طويل وأمد مديد إلى أن تمحّض وتميز اللطيف منها من الكثيف، والعالي منها من السافل، والفلكي منها من العنصري، والنيّر من المظلم، وتقبل الكرات الفلكية والأنوار الكوكبية وتحيط بعضها ببعض، وإلى أن استدارت الأجرام الكليّة والكرات الكوكبية وركزت على مراكزها، وإلى أن تميزت الأركان الأربعة وترتبت مراتبها ومزّجت فنون تمزيجاتها لينتظم الكل كأنها شخص واحد متعاون بعضها مع بعض، منتفع بعضها من بعض، كأبعاض بدن واحد إنساني في مدة العمر. والدليل على ذلك قول الله سبحانه:
{ { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [السجدة:4]، { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج:47].
وأما الأمور الربّانية والأشعة الإلهية، فهي كأنها من مراتب علمه الأزلي وعالم قضائه وأمره السرمديّ، وحجب ربوبيته وسرادقات عزته، لا يبلغ عقول البشر كنهها، وقد يعبر عنها في لسان الشريعة بعبارات ورموز لا يفهم مغزاها إلاَّ من أيّده الله بتوفيق خاص، وهي المشار إليها في قوله تعالى:
{ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [القمر:50]، تنبيهاً على عدم تجددها وتغيرها وارتفاعها عن عالم الزمان والتغيير.
وقد وقع في بعض شرايع السابقين وملل الأقدمين، إشارة إلى كيفية حدوث الأفلاك وما في جوفها من أمر الله سبحانه على سبيل الرمز:
انه قد أتى دهر طويل على النفس الكلي - أي الملك الأعظم الحامل للعرش الرئيس على جملة الحملة والمدبّرات السماوية -، قبل تعلقها بالجسم ذي الأبعاد، وكانت في عالمها الروحاني ومحلها النوراني مقبلة على مفيضها ومبدعها ومكملها، تقبل عنه الفيض والفضائل الكثيرة، وكانت منعمة ملتذة مستريحة فرحانة بتلك الفضائل والخيرات، فأخذها شبيه المخاض، فأقبلت تطلب ما تفيض عليه من تلك الخيرات، وكان الجسم بحسب هيوليته فارغاً قبل ذلك من الأشكال والصور والنقوش، فأقبلت النفس على الهيولى لتميز الكثيف من اللطيف، وتفيض عليه تلك الفضائل والخيرات.
فلمّا رأى الباري جل ذكره ذلك منها، ومن الجسم تهيؤ لها، فخلق من ذلك الجسم عالم الأفلاك وأطباق السموات من لدن العرش إلى قرار الأرضين على أحسن نظام وترتيب ممّا هي عليه الآن، وهكذا يفيض تلك الفضائل والخيرات من الصور والكيفيّات متجددة متعاقبة في أزمنة متطاولة ودهور كثيرة، لاستحالة الجمع بين الصورتين في زمان واحد.
فمهما استوفت إفاضة الصور والكيفيات المقدّرة في قضاء الله وقدره على المواد الفلكية والعنصرية، سكنت الأفلاك عن الدوران، والكواكب عن السير، والأركان عن الاختلاط والمزاج، وكلّت القوى الجسمانية والآلات، وبلي الحيوان والمعادن والنبات، وخلع الصور والأشكال والنقوش، وانفطرت السموات وانشقت، وهدمت الجبال وبُسَّت، وتبقى فارغة كما كانت بَدِيّاً.
فرجعت النفس المدبّرة الكلية إلى عالمها الروحاني، ومحلها النوراني، وحالتها الأولى، وأعرضت عن شغلها الذي كان، وأقبلت نحو علتها المفيضة ولحقت بها. لان مثل النفس في إقبالها على الجسم، واشتغالها بتدبيره واصلاحه - بعد ما كانت مقبلة على مبدعها مستفيدة منه الفيض - كمثل الرجل الخيّر العاقل المقبل أولاً على أستاذه المحب لعلمه، الحريص في تعليمه للعلوم والحِكَم والمعارف، المتخلق بأخلاقه الجميلة وآدابه الصحيحة برهة من الزمان، حتى امتلأ من الخيرات والفضائل والعلوم والحِكَم، أخذه عند ذلك شبه المخاض، واشتهى وتمنى وطلب من يفيض عليه من تلك الخيرات والفضائل ويفيده إياها، فإذا وجد تلميذاً يعلم أنّه يقبل منه ويفهم عنه علمه وحكمته، أقبل عليه بالفيض والإرشاد والإفادة - طمعاً في إصلاحه وحرصاً على تعليمه وتأديبه تشبهاً بأستاذه الأول -، فإذا فرغ من تعليمه وتأديبه، أقبل عند ذلك على عبادة ربه، وطلب الخلوات بمناجاته وتمنى اللحوق بأسلافه وأقاربه، والدخول في زمرة الملائكة.
وهكذا كانت سيرة الأنبياء (عليهم السلام)، وكذلك كانت سيرة الحكماء المتقدمين الذين أخذوا الحكمة من مشكاة النبوة، كل ذلك تشبّهاً بالله في إظهار حكمته وفيض فضائله على بريّته وإغداق نعمته على خليقته.
كلام من الحكماء شبه رمز
ذكروا أن ملكاً عظيم الشأن، عزيز السلطان، واسع المملكة، كثير الجنود والعبيد، ولد له ولد ذكر كان أقرب الخلق به شبهاً وإلى والده (والديه - ن) طبعا وخلقاً، فلمّا تربّى ونشأ وكمل، ولاّه أبوه بعض مملكته، وأمر أجناده وعبيده بطاعته، وأوصاه بحسن سياستهم، وأباحه جميع النعم - غير أنه نهاه عن مرتبته -.
فمكث ذلك الابن زماناً طويلاً قدر نصف يوم متنعماً متلذذاً، إلاَّ أنّه كان ساهياً، فحسده بعض عبيد الملك ممن كان متيناً قبله، فقال: "انّك لا تعرف نعمة، ولا تجد لذّة، لأنك ممنوع من أرفع نعمة، منهي عن ألذ شهوة".
فاغترّ بقوله، وطلب ما ليس له أن يتناوله قبل حينه، فسقطت مرتبته وانحطت درجته عند أبيه، وبدت له سوأته وخسّته، واستبانت خطيئته، فهرب خوفاً من أبيه ذاهباً في مملكته شبه المستتر، فأصابه العناء ولقيه البأساء والضرّاء والجهد والبلاء، فتذكر يوماً ما كان فيه من نعمة أبيه، فحزن على ما فاته وبكى أسفاً، ثم نعس فنام، فحُمل إلى أبيه. فقال: "دعوه نائماً إلى يوم الجمعة".
ثم إنّه ولد في اليوم الثاني ابن آخر أشبه الناس بأخيه، فتربّى ونشأ وكمل ونما، وكان حكيماً وقوراً صبوراً شكوراً، فولاّه أبوه بعض مملكته، وأمرهم بطاعته، وأوصاه بسياستهم. فدعاهم وأمرهم ونهاهم. فلم يسمعوا ولم يطيعوا له أمره، لأنه كان شبيه زحل، بل آذَوْهُ، فصبر زماناً ثم شكى إلى أبيه، فغضب عليهم ورمى أكثرهم في الماء.
فلمّا رأى ما أصابهم اغتم وحزن ونعس فنام وحُمل إلى أبيه، فقال: "اتركوه نائماً إلى يوم الجمعة".
ثم إنه رزق في اليوم الثالث ابن آخر، وكان أشبه بأخويه اللذين تقدم ذكرهما، وكان خيّراً فاضلاً نجحا، فولاّه أبوه مكان أخويه، وأمرهم بطاعته، وأوصى إليه بما أوصى إلى أخويه من قبل، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا ولم يطيعوا لأنه كان يشبه المشتري وفزّعوه بالنار، فذهب إلى أبيه وبنى له هيكلاً ونذر له قرباناً وعلّم مناسكاً. ونادى في الناس: "تعالوا لتروا ما لم تَرَوا، وتسمعوا ما لم تسمعوا".
ثم نام وحُمل إلى أبيه فقال: "اتركوه نائماً إلى يوم الجمعة".
وبقي نداؤه في مسامع النفوس يتوارثونه من غير أن يسمعوا، ويذهبون إلى هيكله فيرون ظاهره - ومرماه مما لا يبصرون -، ويفعلون شبه مناسكه، ولكن أكثرهم لا يفهمون لأنهم صم بُكم عُميٌ فهم لا يعقلون.
ثم إنه رزق في اليوم الرابع ابن آخر، فنشأ وكمل ونما وكان جلداً قوياً مِقداماً، فولاّه أبوه مكان اخوته وأمرهم بطاعته، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا ولم يطيعوا، لأنه كان يشبه المرّيخ. وبارزوه وبارزهم، وناوشوه وناوشهم ونازعهم، وكان مؤيداً بقوة أبيه، فغلبهم وبدد شملهم وفرّق جمعهم وشتّت ألْفَهُم، ورمى بهم في البر والبحر، ثم بقي وحيداً كالغريب يدعو فلا يجاب ويأمر فلا يهاب، فاغتم وحزن ونعس فنام وحُمل إلى أبيه، فقال: "دعوه نائماً إلى يوم الجمعة".
ثم إنه رزق في اليوم الخامس ابن آخر، أشبه الناس بأخيه الأول، فتربّى ونشأ وكمل ونما، وكان هادياً رشيداً طيباً رفيعاً، فولاّه أبوه مكان اخوته، فدعاهم وأمرهم ونهاهم، فلم يسمعوا له إلاَّ قليلاً، ولم يطيعوه إلاَّ يسيراً، لأنه كان يشبه الزُّهْرَة، ثم وثبوا عليه فأخذوا قميصه الذي ألبسته أمه إياه، فذهب إلى أبيه فاستفز عليهم بجنوده وأيدهم بروح منه، فسرى في نفوسهم وتحكّم في لاهوتهم بَدَلاً وقصاصاً لمّا تحكّموا في ناسوته، وأراد أن ينزل من الرأس، فقال أبوه: "اصبر إلى يوم الجمعة".
ثم قال الملك في اليوم السادس للمنجمين: "اختاروا لابني الذي يشبه عطارد يوماً لينزل إلى عالم الكون والفساد فينبه إخوته النيام، ويناديهم إلى ربهم، فقد رضيتُ عنهم، ويأمرهم بالاستعداد للصلاة فإن غداً هو يوم العيد - يوم الجمعة - فيبرز للقضاء ويحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون".
فاجتمع سادة النجوم ورؤساء الكواكب في بيت المرّيخ، وتشاوروا بينهم، فقال رئيس الكواكب وملكها: "أنا أختار له من قوتي وازوّده من فضائلي: العظمة والجلالة، والرئاسة والسلطان، والعز والرفعة، والبهجة والبهاء، والمجد والثناء، والبذل والعطاء".
وقال شيخهم كيوان: "أنا أختار له من قوتي وازْوّده من فضائلي: الحلم والوقار، والصبر والثبات، وبُعْدَ الغور وعُلُوّ الهمّة، والحفظ والأمانة، والفكر والرَّوِيَّة".
وقال برجيس القاضي العادل: "أنا أختار له من فضائلي وازوّده من قوتي: الدين والورع، والخير والصلاح، والعدل والإنصاف، والصدق والصيانة والمروّة".
وقال بهرام صاحب الجيوش: "أنا أختار له من قوتي وازوّده من فضائلي: العزم والصرامة، والنجدة والشجاعة، والهمة والنشاط، والظَفَر والغلبة، والبذل والسخاء، والتيقظ والأنفة".
وقالت ناهيد أخت النجوم: "أنا أختار له من قوتي وأزوّده من فضائلي: الحُسْنَ والجمال والكمال، والرأفة والرحمة، والزينة والنظافة، والحب والمودة والسرور واللذة".
وقال أخوهم الأصغر - وهو أخفاهم منظراً وأجلّهم مخبراً الذي صَنْعَتُهِ أظهر وعلومه أكثر وعجائبه أشهر -: "أنا أختار له من قوتي وأزوّده من فضائلي واؤيده من مناقبي: النطق والفصاحة، والتميز والفطنة والقراءة، والعلوم والحكمة".
قالت أمّ النجوم: "أنا أُرْضِعْهُ وأربّيه، واختار له من قوتي وأزوّده من فضائلي: النور والبهاء، والزيادة والنماء، والحركة في الأقطار، والتنقّل في الأسفار، وبلوغ الآمال، والسير والاختبار، وعلوم مواقيت الآجال".
ثم إنه دارت الأفلاك وتمخّضت قوى الروحانيات - أهل السموات -، فنزل إلى عالم الكون والفساد في ليلة القدر قبل طلوع الفجر صاحب النشور، لينفخ في الصُّور، فمكث هذا المولود في الرحم أربعين يوماً من أيام الشمس، وعشرين يوماً في الرضاع، حتى تربّى ونشأ وكمل ونما، وكان أشد الناس شبهاً بأخيه الثالث، لأنه كان يشبه عطارد الذي هو أخو المشتري.
فصار هذا المولود من بين اخوته أتمَّهم بنية وأكمَلَهم صورة، وكان أديباً عالماً حكيماً ملكاً عزيزاً رحيماً إماماً عادلاً نبياً مرسلاً، فولاّه أبوه مملكة اخوته كلها، فظهر وقهر من خالفه، ورفع واعز من وافقه، وحكم في مملكته نحو ثلاثين يوماً من أيام الشمس، ثم أصابته العين فاعتلّ وبقي على الفراش نحو يوم من أيّام القمر، مريض الجسم عليل النفس، ثم تحول إلى دار أخرى، ونهض قليلاً ومشى، ونشط وانبسط، ودخل إلى كهف أبيه ونام مع اخوته.
فمكثوا زماناً، فلمّا انقضى دَوْرُ الرقاد، وتقارب الميعاد، ناداهم الملك: "ألم يأْنِ لكم أن تنتبهوا من نومكم، وتستيقظوا وتتذكروا ما نسيتم من أمر مبدأكم، وترجعوا معادكم من أسفاركم، وتأووا إلى دار مقامكم من غربتكم؟ فقد تمّ خلق السموات السبع في ستة أيام، وغداً الجمعة، يستوى بكم على العرش ويحمله يومئذ ثمانية".
فانتبه لذلك الأخوة الذين قيل:
{ { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف:22] بعد رقدتهم ثلثمائة وأربعة وخمسين من أيام الشمس بحساب القمر، يتذاكرون { { كَم لَبِثْتُمْ } [الكهف:19] في كهفكم؟ فقال أبوهم لأخيهم: - { { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } [الكهف:22].
فأخفى أمرهم، وكتم أسرارهم لأنه
{ { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [المجادلة:7]، وهو يوم جَمْع الخلائق كلهم للجزاء.
وكما أن للملك مدينة فيها جنوده وممالكيه، ولأهل تلك المدينة عمّال وصنّاع لهم أجرة وأرزاق، وفيها تجار وبُياع يتعاملون بموازين ومكائيل، ولهم مظالم وخصومات، ولهم فيها قضاة وعدول، ولهم فقه واحكام وفصول، وان من سنّة القضاة البروز والجلوس في كل سبعة أيام يوماً واحداً: فهكذا يجري حكم النفوس الكليّة وملائكة الله تعالى العمّالة بإذنه في الأنفس الجزئية في كل سبعة أيام - كل يوم ألف سنة -، لعرض الخلائق لدى العزيز الجبار، الواحد القهّار، لفصل القضاء بينها باستخدام الملائكة العمّالة بإذنه:
{ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47].
وروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنه قال:
"عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بُعِثُتُ في آخرها ألفاً" .
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "لا نبي بعدي على هذه الأمة" .
تقوم القيامة وهو يوم العرض الثاني، كما أن يوم العرض الأول ما أشار تعالى إليه بقوله: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف:172].
وبين اليومين مدة سبعة آلاف سنة.
وكما أن لأهل المدينة فيها جنان وميادين وأنهار وبساتين، وفيها مجالس ومضائق ومساجن - فالأولى لنزاهة النفس وبهجتها وسرورها ولذتها ونعيمها، والثانية لعقوبتها وعذابها على قدر جرائمها وذنوبها - فهكذا في طبقات الوجود ومراتب الكون، فسحة وسعة - أهلها في جنات النعيم ورَوْح وريحان ونعمة ورضوان - ومجالس ودركات - أهلها في عذاب أليم وعقاب شديد وغُصّة عظيمة - كما ذكره الله في التوراة والإنجيل والفرقان في مواضع كثيرة من نعت الجنان ولذّاتها، ووصف النيران وآفاتها.
هذا تلخيص ما وجدنا من كلام الأكابر العظام، فأوردناه توضيحاً للمقام، وليعذرني بعض أعلام الأنام من أولي الدراية والأفهام، في الخروج عن طورهم لبعد المرام، والله ولي الهداية في البداية والنهاية.
قوله عز وجل:
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
أي: يعلم ما يدخل في جوف الأرض ويستتر فيها من البذور وغيرها، وما يبرز من الأرض وما يتكوّن منها.
أو يعلم ما يتربّى في الأرض من المعادن والنبات والحيوان، وما يخرج منها ويكون على ظهرها من هذا، فيعلم أعيانها وأطوارها، وتقلباتها وأحوالها - من القوة والفعل، والكون والبروز -، ومدة بقائها ووقتُ فنائها. ويعلم ما ينزل من السماء - من مطر ومَلَك وغير ذلك -، حتى القوى والكيفيات ومباديها، وفواعلها وأرزاق الخلق، إذ الجميع ممّا ينزل من السماء لقوله تعالى:
{ { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات:22]، وما يعرج فيها - أي يصعد إليها -، من الملائكة الحَفَظَة وما يكتبون من أعمال الخلائق كلها.
وهو معكم، أي: عالم بكم أينما كنتم، وفي أي أحوال من أحوالكم وصفاتكم التي أنتم عليها، وأفعالكم وأقوالكم التي فعلتموها وقلتموها.
والله بما تعملون - من خير وشر - بصير، أي: شهيد، فيجازيكم على وُفْق أعمالكم.
مكاشفة
يعلم ما يلجُ في أرض العالم الجسماني التي هي تحت عوالم الأمر من الصور النوعية، لأنها من صور معلوماته، وما يخرج من الأرواح التي تفارقها، والصور التي تُزائِلها عند الفناء والفساد، وهي بعينها التي تنزل من سماء عالم الغيب إلى أرض عالم الشهادة، وتعرج فيها بعد الاستكمال، وتطير إليها بجناحي العلم والعمل. أو ما ينزل من سماء الروح الكلي من العلوم الكليّة والأنوار العقلية الفائضة على القلب، وينزل منه إلى أرض النفس جزئية، وما يعرج فيها من الكليات المنتزعة من الجزئيات المحسوسة، وهيآت الأعمال المزكية.
والأول: إشارة إلى العلوم الموهبيّة التي تفيض أولاً على القلب فتتمثل في الخيال حكايتها وتنزل إليه مثالها.
والثاني: إشارة إلى العلوم الكسبية التي ترتقي إلى العقل بعد أن يقع الإحساس بالجزئيات الجسمانية، وتنتزع منه الكليّات لأجل المشاركات بينها والمبائنات.
والأول: طريق الأبرار: والثاني: مسلك النظّار.
وهو معكم أينما كنتم؛ لأن موجوديّة أعيانكم الثابتة بظهوره في مظاهرها وتجلّيه في مرائيها.
والله بما تعملون بصير؛ لكونه مشهوداً له حاضراً عنده منقوشاً في الألواح العالية وملكوتها بحضرته.
لَمْعَةٌ إلهية
ان معيّته تعالى للاشياء، ليست كمعيّة جسم لجسم، أو جسم لعرض، أو عرض لعرض، وبالجملة، ليست تلك المعيّة معيّة في الوضع والمكان، ولا في الزمان والآن، ولا في المحلّ والحال، ولا في الفعل والانفعال، ولا في الحركة والانتقال: لتعإليه عن هذه الأوصاف والأشباه والأمثال.
وليست أيضاً معيّة في الوجود، لكونه قبل كل موجود، وقبليّته لا تنقلب إلى المعيّة التي يقابلها. بل معيّته تعالى نحو آخر من المعيّة مجهولة الكُنْه.
وإنما يعرف الراسخون في العلم لمعة منها، ويشمّون رائحة من كيفياتها، وإذا أردوا أن يفيضوا على غيرهم من المستعدّين شيئاً منها، مثّلوا لهم مثال المرآة وقالوا: إن الله تعالى يتجلّى للاشياء كما تتجلّى صورة الشخص في المَرائي المتعددة المختلفة صغراً وكبراً، واستقامة واعوجاجاً، وصفاءاً وكدورة، وغشّاً وخلاصاً، وان التجلّي من قِبَله حاصلة دائماً لجميع الأشياء - لأنه نور، والنور من حقيقته التجلّي والظهور على المجالي والمظاهر -، لكن عدم ظهور هذا التجلّي إما لضعف فيها وصغر في مرآة ذاتها، لا تطيق احتمال النور العظيم الباهر - كما لا تطيق نور الشمس أبصارُ الخفافيش وعيونُ العمشان إلاَّ ظلالاً ضعيفة منه -، وهذا مثال الأجسام والنفوس الناقصة كالجماد والنبات، وغير الناطق من الحيوان والناقص من الإنسان.
وإمّا لكدورة في المرآة - كالأبصار التي عليها غشاوة -، وهذا مثال نفوس العصاة من الناس، الذين على قلوبهم وعلى أبصارهم غشاوة. أي على عقولهم وعلى أبصارهم التي بها تحصل معرفة الله وملكوته غشاوة المعاصي والشهوات التي بها يقع الحجاب عن شهود معرفته تعالى.
وإمّا لاعوجاج وانكسار في المرآة، تقع الصورة فيها على خلاف ما هو الواقع، - كما في الحَوَل وغيره من الأمراض العينيّة التي يقع بسببها الغلط في رؤية ما يتنوّر بنور الشمس من حقائق الأجسام -، وهذا مثال نفوس الجاحدين للحق، المتعصبين لمذاهب تقليديّة رسخت في نفوسهم من أول الأمر، بحيث لا يمكن زوالها أصلاً، فتظهر لبصيرتهم الحَوْلاء، وفطنتهم العوجاء، صورُ الحقائق المستنيرة بنور الله تعالى على خلاف ما هي عليها، وإلاَّ فالحق مُتَجلّ على كل شيء.
كقوله - وهو أصدق القائلين -:
{ { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق:16].
وفي الحديث النبوي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"أنه تعالى فوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقد ملأت كل شيء عظمته فلم تخلُ منه أرض ولا سماء، ولا بحر ولا برّ ولا هواء، هو الأول لم يكن قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، فلو دُلِّي على الأرض السفلى لهبط على الله" .
وفي طريق أهل البيت (عليهم السلام) أحاديث كثيرة متقاربة المعنى قريبة من معنى هذا، وكذا حديث قرب النوافل.
وقد روي عن موسى - على نبينا وآله وعليه السلام -: أَقَريبٌ أنت فأُناجيك، أم بعيد فأُناديك؟ فانّي أحسّ حُسْنَ صوتك ولا أراك فأين أنت؟
فقال الله: أنا خلفك وأمامك، وعن يمينك وشمالك، أنا جليس من ذكرني، وأنا معه إذا دعاني.
فما عليك - أيّها المتقي عن المعاصي البدنية والقلبية، إلاّ أن تنفي عن عين عقلك كدورته بالتخلّي عن الرذائل، وتقوّي حدقته بكُحل الطاعات والعبادات والقيام في الليالي والأوقات، مع استقامة الفهم والتدبّر في المعاني العقلية والآيات، فإذا هو فيه، إذ ليس هناك ما ينافيه، فإذا غافصك تجلّيه، ولم تثبت هناك فبادرت وقلت إنه فيه - كما نقل عن المحجوبين بالحق عن مراتب مظاهر الآلهية، ولوازم الأسماء ما قالوا - إلاَّ أن يثبّتك الله بالقول الثابت فتقول: إن الصورة ليست في المرآة، ولا المعيّة بينهما كمعيّة الحالّ للمحلّ، ولا المتمكن للمكان، ولا غيره من أنحاء المعيّة، بل تجلّت لها وظهرت فيها، ولو حلّت لما تصوّر أن تحلّ صورة واحدة لمرائي كثيرة مختلفة في حالة واحدة، بل كانت إذا حلّت في واحدة ارتحلت عن الأخرى، وهيهات، فإنه يتجلّى لجملة من العارفين دفعة واحدة.
نعم، يتجلّى في بعض المرائي أصح وأظهر وأقوم وأوضح، وفي بعضها أخفى وأميل إلى الاعوجاج عن الاستقامة، وذلك بحسب صفاء المرائي وصقالتها، وصحة استدارتها واستقامة بسيط وجهها.
وكما يتجلّى حقيقة الحق لجملة من العارفين من الملائكة المقرّبين، وعباد الله الصالحين، كذلك يتجلّى بوجه ظِلّي للأشياء جميعها - على تفاوت درجاتهم في الضعف والقصور -.
ولهذا المعنى قال واحد من الحكماء المتقدّمين: "إن المحسوسات كلّها تشتبّه بالحقّ، إلاّ أنها لكثرة قشورها، وقلّة نورها، لا تقدر على حكاية الحقّ من وصفها".
وبالجملة: لا تخلو ذرة من ذرات الكائنات من نور الحق وتجلّيه وظهور فيه، لكن تحصيل هذه المعرفة، والوصول إلى مشاهدة هذا التجلّي هو الإكسير الأحمر المستفاد من بحر عميق من بحار القرآن.