التفاسير

< >
عرض

آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
٧
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

خاطب سبحانه ذوي العقول كافة من الآدميين، دون الملائكة لكونهم مفطورين على العلم بالله ورسوله، مقدّسين عن مزاولة الخبائث ليحتاجوا إلى التزكية بالإنفاق، دون سائر الحيوانات وما هو أدون منها من الجماد والنبات، لانحطاط درجتها عن استماع هذا الخطاب، فقال: معاشر العقلاء المكلّفين: - آمنوا بالله - أي: اعتقدوا بوجود الحق الأول، وكونه آله الخلق، وأقرّوا بوحدانيته وتنزيهه وتمجيده. - ورسوله - أي: بكونه مرسِلاً إياه، أو صدّقوا رسوله واعترفوا برسالته، لاتصافه بخصائص الأنبياء من خوارق العادات والعلم بالمغيّبات. - وانفقوا - تقرّباً إلى طاعته، وتخلصاً عما يلهيكم عن معرفته، ويبعدكم عن جواره، - مما جعلكم مستَخْلفين فيه - أي: من مال الله وغيره الذي خلقه لمصالح عباده، وإنما مولّيكم إياه لتكونوا خلفاء من قبل الله في صرفه لوجوه المنافع والمحاويج، وخَوَّلكم الاستمتاع والانتفاع.
فليست الأموال بالحقيقة إلاَّ لمن خلقها، لا لمن كان متصرفاً فيها بنقلها من موضع إلى موضع، أو مضافة هي إليه، فإن مجرد الإضافة إلى شيء لا توجب التسلط لأنها نحو ضعيف من التعلّق، وإنما يكون التعلق القويّ والتسلط التام على شيء بالقدرة على إيجاده واعدامه، والقادر على ما يشاء إنما كان هو الله تعالى دون غيره، فالأموال كلها عارية في يد المتولّين لها، إلاّ أن الله جعلهم برهة من الزمان بمنزلة وكلاء مستخلفين فيها.
وإنما أوضح الله سبحانه كون المال عارية بيد صاحبه ليهون على الناس الإنفاق منه، كما يهون عليهم النفقة من مال غيرهم إذا كانوا مأذونين فيه مأمورين به.
وعن الحسن: أنفِقوا من المال الذي استخلفكم الله فيه بوراثتكم إياه عمن قبلكم. وفي هذا تنبيه على أن المال حيث انتقل وصار اليكم ممن قبلكم، وسيصير منكم إلى من خلفكم، ينبغي أن تعتبروا بحال من سبقكم وعدم انتفاعه به نفسه، وأن تنتفعوا أنفسكم بالإنفاق منه، وأن تستوفوا حظوظكم البدنية والعقلية الدنيوية والدينية منه قبل أن يخرج الأمر من يدكم وينتقل المال إلى غيركم.
مكاشفة
واعلم أن هذا الحكم كما يشمل النعم الخارجية، كذلك يشمل النعم الداخلية؛ من الأعضاء والحواس والقوى التي أنعم الله بها علينا، وخوّلنا الاستمتاع بها في الدنيا وللانتفاع بها لأجل الآخرة، بأن نصرفها في عبادته ومعرفته، وستزول وتتخلف عنّا عن قريب، بل النعم الداخلية البدنية كالنعم المالية الخارجية في كونها مبائنة لأرواحنا، خارجة عن ذواتنا، عارية في تصرفنا، إلاَّ أن بعضها نعمة طبيعية متصلة بالبدن موجودة له، وبعضها نعمة خارجة عن البدن مبائنة له كما للروح، وسيهلك البدن ويفنى كل ما عليه وفيه من القوى والآلات والمشاعر، وتبقى الروح وحيدة منفردة عنه عائدة إلى ربها إمّا شاكرة وإمّا كافرة.
قوله عز وجل: { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } أي: جزاء عظيم وثواب جسيم، لا تكدّره آفة ولا ينقصه زوال، وإنما يكون كذلك، لان كمال الإنسان منوط بالعلم والعمل، لتتزيّن ذاته العقلية بالمعارف الحقة والإلهيات، وتتخلص نفسه العملية عن التعلق بالشهوات المؤذيات، باقتناء الفضائل، والاجتناب عن الرذائل، ولا شك أن أفضل المعارف: معرفةُ الحق الأول وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي المعني بالإيمان، وأفضل الأعمال المزكّية للقلب: الإنفاقُ للمال الذي هو الوسيلة إلى جميع اللذّات الحيوانية والشهوات البهيمية.
ويمكن أن يكون الإيمان كناية عن العلوم الحقة الحقيقية مطلقاً، والإنفاق كناية عن الزهد في الدنيا مطلقاً، إذ بهذين الأمرين، يطير القلب بجناحيه إلى حظائر القدس، ولعل في قوله تعالى: لهم أجر كبير، إيماءً إلى أنَّ أجر الآخرة جزاء لازم وثمرة ضرورية مترتبة على اقتناء المَلَكات العلمية والعملية، بحيث لا يحتاج حصولها إلى جعل مستأنف وتأثير جديد، كما أشير إليه بقوله:
{ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } [الذاريات:6]، يعني أن الجزاء لازم، كما أن الآلام والعقوبات الأخروية لواحق ضرورية لفعل المعاصي والشهوات، الموجبة لرداءة الأخلاق والمَلَكات، كما يدلّ عليه قوله تعالى: { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [الأنعام:139]، { { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [التوبة:49].