التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

قرأ أبو عمرو: "أُخِذ" بضم الهمزة، و "ميثاقُكُم" بالرفع، والباقون بصيغة المعلوم، ونصب "ميثاقكم" على المفعولية، والضمير يعود إلى الله تعالى، وجملة: "لا تؤمنون" حال من معنى الفعل في "مالكم".
حاصله: وما تصنعون كفّاراً بالله - مع وضوح البراهين على وحدانيته -، والحال ان الرسول يدعوكم للايمان بقواطع الحجج والبينات، ويتلو عليكم الكتاب الناطق والآيات المبينات؟ ففي الكلام حالان متداخلان.
وقرئ: ومالكم لا تؤمنون بالله ورسوله والرسول يدعوكم، أي. وأي عذر لكم في ترككم الاعتقاد بوحدانية المبعود، وما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أقيمت البراهين على ما تؤمرون به سمعاً وعقلاً؟
أمّا الأول: فلأن الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم، والعقل السليم عن الأمراض، والآفات النفسانية، مجبول على الاعتقاد بصدق قوله، بما أظهره الله على يده من المعجزات التي هي خارجة عن طَوْق البشر.
وأمّا الثاني: فلنهوض البراهين القاطعة الدالة على الإيمان بالله والرسول، وكون الغريزة الإنسانية مرتكز فيها التصديق بحقائق مفطورة عليها، كما أشار إليه بقوله تعالى: وقد أخذ ميثاقكم.
والحاصل أنه: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان بعد ما أزيحت عنكم العلل، وأوضِحَت لكم السُبُل، بما ركّب فيكم من غرائز العقول، ونصب لكم من دعوة الرسول المؤيدة بالدلائل والآيات التي ينبه لكم بها على الإيمان بمن هو ربكم، دون من هو مربوب مثلكم؟ إن كنتم مؤمنين -، أي ممن يهمّكم التصديق بما يقوم البرهان الواضح على صحته، فقد قام ذلك عقلاً وسمعاً، وهما فطرة العقول ودعوة الرسول.
هذا إذا جُعل خطاباً للمشركين، فإن جعل خطاباً للمؤمنين فمعناه: أي سبب يزيلكم عن الإيمان، والرسول بين أظْهُرِكُم يدعوكم إلى الثبات عليه، وقد أخذ هو عليه ميثاقكم إن كنتم مؤمنين موقنين بشرائط الإيمان؟ وهو كقوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [آل عمران:100] وعلى التأويل الأول، أخْذُ الميثاق من الله على عباده هو ميثاق الخِلقة، وقيل هو أخذ ميثاق الذرية.
مُكاشفة
يحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: إن كنتم مؤمنين: إن كنتم ممن تتمشى منه المعرفة والإيقان، لا من الذين انحطّت درجتهم عن هذا وقيل فيهم: أولئك كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً، ولا من الذين طُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، فالبراهين والدلائل العقلية والسمعية ليست نافعة في حق الأشقياء الناقصين بحسب الفطرة، لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم رأساً، ولا لأهل الجحود والإنكار، لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلّية لفساد اعتقادهم، فهم أهل الخلود في النار إلاّ ما شاء الله.
فالخطاب في هذه الآية، إمّا لأهل الفضل والثواب، سواء كانوا من المقربين والسابقين، أو من أصحاب اليمين، على تفاوت طبقاتهم، أو كانوا من أهل الرحمة الباقين على سلامة نفوسهم وصفاء قلوبهم، المتبوئين درجاتِ الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم، أو كانوا من أهل العفو الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، سواء كان العفو عنهم لقوة اعتقادهم وعدم رسوخ سيئاتهم، أو لمكان توبتهم عنها وإنابتهم إلى الله - فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات -.
أو لأجل نجاتهم من الجحيم بعد أن زال عنهم دَرَنُ ما كسبوا من السيئات، كالسبيكة من الذهب التي تخرج من النار خالصة، وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيّئات ما كسبوا، لكن الرحمة الإلهية تتداركهم وتنالهم بالآخرة.