التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٩
-الحديد

تفسير صدر المتألهين

وقُرئ: "لرؤف".
لمّا حث سبحانه المكلفين على المعرفة بالله وملكوته من جهة ما ركّب فيهم من فطرة العقول، وقرع أسماعهم من دعوة الرسول، أخبر بأنه لزمت دعوته وقبولكم إياها لما أيده الله به من المعجزات البينة التي أظهرها على يديه، أو الآيات الفرقانية خاصّة، ليخرجكم الله سبحانه بواسطة تلك الآيات من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والمعرفة.
أو ليخرجكم الرسول بدعوته، أو ليخرجكم المنزل بما فيه من الحجج المنيرة والبراهين الواضحة.
وإن الله بكم لرؤوف رحيم -، حيث بعث الرسول ونصب الأدلة، وهذا يدل على كمال الرأفة والرحمة، وللاشعار به اقترن الكلام بوجوه من التأكيد: منها الجمع بين لفظين مترادفين، وقيل: "الرأفة": النعمة على المضرور، و"الرحمة" النعمة على المحتاج.
قيل: في هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة، فإنه بيّن أن الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.
اقول: تحقيق هذا المقام يحتاج إلى طور آخر من اقتناص المعارف غير ما أكبّ عليه علماء الكلام، لكن يجب على كل عاقل متفكر، أن يفرّق بين الغاية الأخيرة والمتوسطة، وكذا بين الغاية بمعنى الداعي وما يسمى بالضروري الذي يلزم الفعل من غير أن يكون داعياً إليه، كقوله تعالى:
{ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص:8].
مكاشفة
إعلم أن الله تعالى، كما يُنزل على أشرف رسله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آياتٍ بينات ليُخرج الناس من ظلمة الغباوة والغواية إلى نور الدراية والهداية، فما من عبد من عباده المهتدين، إلاّ ويأتيه من قِبَله تعالى إشارات وتنبيهات، وتنزل منه على قلبه أنوار متتاليات ليخرج بها من ظلمة الحُجُب الدنيوية إلى نور المعارف الأخروية، ولكن الناس أكثرهم غافلون عنها لاشتغالهم بما يلهيهم عن ذكر الله، ويُنسيهم امر الآخرة، فلا يبعد أن تكون هذه الآية بياناً لأخذ الميثاق المذكور في الآية المتقدمة، فإن الله سبحانه خلق عباده على فطرة التجرد والنقاء عن علائق الأجرام، والتقدس والصفاء عن كدورات الآثام، والتهيؤ لقبول دعوة الحق والإلهام واستعداد الترقي بواسطة العلم والعمل إلى أرفع المنازل في دار السلام، ثم إذا أنشأهم في هذه الحياة الدنيا، ربّاهم واكملهم وأعطاهم العقل والتميز، وبعث إليهم الرسول مؤيداً بالمعجزات، فلا يزال ينزل على قلوبهم آيات بينات من أنوار معرفته، ويفتح عليهم أبواباً من فنون رحمته وهدايته، ليهديهم إلى صراط مستقيم، ويخرجهم من ظلمات الجحيم إلى أنوار النعيم.
وإنما ينسي الناس ذكر مواثيقهم الجِبِلّية مع الحق، وعهودهم الذاتية مع سكّان ملكوته، وسائر ما كانوا مفطورين عليه بطهارة ذواتهم المخمرة بيد القدرة أربعين صباحاً، واستعدادهم للمعرفة واليقين، تعلقاتُهم بمشاغل الكون لضرورة حياتهم الدنيوية، ويشغلهم عمّا يرد على قلوبهم من أنوار المعارف باطناً وظاهراً، ويلهيهم عن ألطاف الحق الواصلة إليهم داخلاً وخارجاً، ارتكابُهم الخطيئات، واقترافهم السيئات المبعدة لهم عن جوار الله وقربه، لان المعاصي تعمي أبصارهم، وتصمّ أسماعهم عن إدراك أنوار الحق وإلهاماته، فأعرضوا بها عن ذكر الله وسماع آياته البينات، واشتغلوا بما يلهيهم به الشيطان عما يلهمهم به الرحمان، لقوله تعالى:
{ { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف:36].
وتمام التحقيق في هذا المرام، أن قلب الإنسان ذو وجهين:
وجه إلى عالم الملكوت - وهو عالم المعرفة، وعالم الآخرة، وعالم الإلهام -، ووجه إلى عالم الحس - وهو عالم الجهل وعالم الدنيا وعالم الوسواس -، ثم إن الخواطر التي ترد على قلبه وتبعثه على الأفعال والحركات إما أن تنبعث من الجَنَبة العالية وتدعوه إلى الخير - كالعبادة والمعرفة -، أو تنبعث من الجَنَبة السافلة وتدعوه إلى الشر، - كالمعصية والغفلة -، فهما خاطران مختلفان، فافتقر إلى اسمين مختلفين - أيضاً - وهما حادثان، فاحتاجا إلى سبببين مختلفين، لان اختلاف المعاليل الحادثة يدل على اختلاف عللها القريبة، وان كان المؤثر في فيضان الوجود مطلقاً هو الله لبراءته عن شوائب الإمكان والدثور.
فسبب الخاطر الداعي إلى الخير، يسمى في عرف الشريعة "مَلَكا"، وذلك الخاطر "إلهاماً"، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى "شيطاناً"، والخاطر "وسوسة". والله تعالى خالق كل شيء، فخلق الملائكة لصفة رحمته ولطفه، وخلق الشياطين لصفة قهره وغضبه، وكما أن الجنة أثر من آثار رحمته ونور من أنوار لطفه ورأفته، فكذلك النار أثر من آثار غضبه وشعلة من شعل قهره، فالإنسان متى اشتغل بعبادة ربه ومعرفة خالقه، انخرط في سلك رحمته ودخل في زمرة الملكوتيين، ومهما اشتغل بالمعاصي والشهوات ومتابعة الهوى والشيطان، استعد لمقته وغضبه، وعُدّ من جملة الشياطين، فالإلهامات من جانب الحق بواسطة المَلَك لعباده الصالحين، في مقابلة الوساوس من جانب الشيطان.
وإنما يسلط الشيطان على قلب ابن آدم بواسطة "الخذلان" الحاصل له من مخالفته الحق، والعصيان، وإلاَّ فليس له في ذاته هذا التسلط على الإنسان، وإنما يدفع كيده عنه بواسطة "التوفيق" الذي يجلبه الإنسان بفعل الطاعة والعبادة، فإذا زال كيده ودفع وسواسه عن القلب، استعد لقبول الإلهامات الداعية إلى الخير والنور، الصارفة له عن الشرور والظلمات، فأهل الرحمة مآلهم إلى الجنة والنعيم، وأهل السخط مآلهم إلى النار والجحيم، وكل جنس يحنّ إلى جنسه، وكل طائر يطير إلى عشّه الأصلي ومعدنه الفطري، إما من جهة التوفيق والهداية، أو من جهة السخط والخذلان، والكل بمشية الله وقدرته.
وقوله سبحانه: هو الذي ينزّل على عبده آيات بينات - يمكن أن يكون إشارة إلى الواردات التي ترد من جانب الرحمن على قلوب السالكين من عباده بواسطة ملائكة الرحمة، من الإلهامات والمعارف الحقة الواضحة لديهم أنها من جانب الحق.
وقوله: { لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [الحديد:9] -، إشارة إلى ثمرة هذه الألطاف والأنعام في حقهم وفي حق غيرهم، إذ بها تنتقل النفوس الإنسانية من القوة الهيولانية الظلمانية إلى العقل بالفعل المتنور بأنوار المعرفة والإيمان بالله وآياته واليوم الآخر، أو من ظلمات الصفات الشيطانية إلى أنوار الأخلاق المَلَكية، أو الجمع بينهما ليكون بها للعبد الخروج من القوة إلى الفعل بحسب كلتا قوتيه - العلميّة والعملية -.
وكما أن الإنسان، بالتأمل في أسرار معرفة الله وسماع آيات ملكوته، والتفكر في امر الآخرة يخرج من ظلمات الجهل والنقصان إلى نور المعرفة والكمال، فكذلك في ارتكاب شهوات الدنيا، ومتابعة الهوى والشيطان، يخرج من نور الإدراكات الحسية إلى ظلمات العمى والحرمان عن مشتهيات الدنيا، لفقد (لفتور - ن) الآلات عند الفساد والبطلان، ويدل عليه قوله تعالى:
{ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [البقرة:257]. والله أعلم بأسرار كلامه.