التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه إشراقات:
الإشراق الأوّل
في الإشارة إلى ما قيل فيه
قيل: إنّ الانتشار في الأرض ليس لطلب دنيا، ولكن مثل عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله.
وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول: المراد من الابتغاء من فضل الله: طلب العلم.
وروري عن أبي عبد الله (ع) انّه قال: الصلاة يوم الجمعة. والانتشار يوم السبت.
وروى عمر بن زيد عن أبي عبد الله (ع) انّه قال: إنّي لأركب في الحاجة التي كفاها الله تعالى، ما أركب فيها إلاّ التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال، أما تسمع قولا لله عزّ وجلّ: { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ }، أرأيتَ لو أنّ رجلاً دخل بيتا وطيّن عليه بابه ثمّ قال: "رزقي ينزل عليَّ" أكان يكون هذا؟ أمّا إنّه أحد الثلاثة الذين لا يُستجاب لهم.
قال: - قلت -: مَن هؤلاء الثلاثة؟
قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأنّ عصمتها في يده، لو شاء ان يخلّي سبيلها يخلّي سبيلها، والرجل يكون له الحقّ على الرجل ولا يشهد عليه فيجحده حقّه، فيدعو عليه فلا يستاب له، لأنّه ترك ما أمره به، والرجل لا يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتّى يأكله، ثمّ يدعو فلا يستجاب له.
وعن بعض السلف أنّه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظراً لهذه الآية.
الإشراق الثاني
في الإشارة إلى لبّ المعنى
إنّ الأمر بالانتشار في الأرض وابتغاء الفضل بعد قضاء الصلاة إشارة إلى الرجوع والمعاشرة مع الخلق بالإرشاد والتعليم، والانتشار في أرض الحقائق، ونشر الفضائل في أراضي قلوب المستعدّين، وإفاضة الصور الكماليّة على قوّة قابليّاتهم بعد العزلة عنهم والإنزعاج والتوحّش عن حصبتهم، والاختلاء مع الله والوقوف بين يديه بالصلاة الحقيقيّة.
فإنّ السالك في أوائل سلوكه وانزعاجه عن الخلق إلى الحقّ لا يحتمل الهمس من الحفيف، وأمّا بعد الوصول فإما له استغراق في الحقّ واشتغال به عن كلّ شيء وسير فيه ووقوف مع الجمع، فيكون أيضاً محجوباً بالحق عن الخلق، بل بالذات عن الصفات، وإمّا سعة للجانبين وانشراح صدر للطرفين، فالانتشار في الأرض هو السياحة في أرض الحقائق وإيفاء حقوق الخلائق بالمحبّة الأفعاليّة الناشية من محبّة الذات ومحبّة الصفات والأسماء، فيرى ذاته تعالى في مرائي الصفات، وصفاته في مظاهر الأسماء، فيقول بلسان حاله ومقاله - ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه أو معه -، فيحبّ الخلائق بمحبّة خلاّقهم، ويبتغي من فضل الله بطلب حظوظ التجلّيات الصفاتيّة والأسمائيّة، ويرجع من سماء القدس إلى أرض النفس، لتوفية حظوظها بالحقّ، ويهبط من جنّة المعارف الإلهيّة إلى عالم البدن، لتوفية حظوظ النفس التي هي بمنزلة زوجة العقل في جنّة الصفات
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف:189] كما أنّ حوّاء زوجة آدم في جنّة الأفعال { { يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة:35].
وكذلك الرجال البالغون، لهم أن يتصرّفوا في الدنيا وزينتها، والشهوات النفسانيّة ولذتها عند بلوغهم بنور المعرفة والتقوى إلى مرتبة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله بقوّة ربّانية وبصيرة روحانيّة، لا بشهوة حيوانيّة ولذّة نفسانيّة، فقد علم كلّ أناس مشربهم، ويكون لهم ذلك مَمَدّا في العبوديّة ومَجَداً في سلوك طريق الربوبيّة، كما قال تعالى:
{ { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } [الأعراف:32].
المطلع العاشر
في قوله سبحانه: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
إنّما أمر الله عباده ووصّاهم بإكثار الذكر حتّى لا يلهيهم شيء من تجارة ولا بيع ولا أكل ولا شرب ولا غيرها عن معرفة الله وعبوديّته، ولا تكون هممهم مصروفة عن الترقّي إلى عالَم الربوبيّة، ونفوسهم منغمرة في طلب الأغراض الحيوانيّة، لأنّ فلاحهم في الخلاص عن النشأة السافلة الدنيويّة وفوزهم منوط بالارتقاء منه إلى النشأة العالية الأخرويّة، ولذلك قيل معناه: أذكُروا الله في تجارتكم وأسواقكم.
كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:
"مَن ذكر الله في السوق مخلصاً عند غفلة الناس وشُغلهم بما فيه، كتب الله له ألف حسنة، ويغفر له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر" .
واعلم أنّ المداومة على تذكّر شيء ومعاودة اسمه، توجب وصاله، ولهذا قيل: العبادة باعثة للمحبّة، والمحبّة باعثة للرؤية.
وعن أبي عبد الله (ع): إنّ العبد يرفع رغبته إلى مخلوق، فلو أخلص نيّته لله لأتاه الذي يريد في أسرع من ذلك.
ومن علامة المحبّة ذكر المحبوب: من أحبّ شيئاً أكثر ذكره.
وقيل: المراد بالذكر هنا الفكر، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
"تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ سنةٍ" وروي: سبعين سنة - أيضاً -.
وذلك يُشبه أن يكون حقّا، فإنّ الفكر بالحقيقة هو الذكر الحقيقي القلبي، لأنّ حقيقة الإنسان وروحه هو باطنه وسرّه، لا بدنه وهيكله المحسوس، فالذكر الحقيقي منه ما يقع من لسان قلبه وإحضاره وإخطاره صورة المذكور في باله، ولهذا ورد في الحديث القدسي:
"أنا جليس من ذكرني" . والله سبحانه أجلّ وأرفع من أن يكون جليس البدن حاضراً عنده، ولكن مع تجرّده وتقدّسه ممّا يحضر في قلب العارف ويقع عليه نوره.
واعلم أنّي لا أظنّ أحداً من الناس أوفى بعهد الله وعمل بمقتضى هذه التوصية منه في باب إكثار ذكر الله والمداومة عليه بالحقيقة إلاّ الحكماء العارفين بالله، لأنّهم هم الذاكرون الله كثيراً، وهم الذين يذكرون الله قياماً وقُعوداً وَعَلى جُنوبهم، ويتفكَّرونَ في خُلْق السمواتِ والأرضِ، وهم كالمشغوفين بهذا الأمر، والذين آمنُوا أشَدُّ حُبّاً لله. وذلك لأنّ كل أحد سواهم له دوام شغل بغير الله وآياته وأفعاله من صنايعهم العلميّة والعمليّة.
مثلاً: النحويّ أكثر اهتمامه بحفظ قوانين النحو، لأنّه الغالب على طبعه، وكذا اللغويّ، والشاعر وما يجري مجراهم، وهمّة المنجّم طول عمره مصروفة في ضبط حركات الأفلاك وتقاويم الكواكب واستنباط الأحكام من حركاتها وأوضاعها وانتقالاتها وارتباطاتها، وإلاّ لم يكن منّجماً بارعاً فائقاً على الأقران، وكذا الطبيب لو لم يكن مشغوفاً بعلمه، مستفرغاً جهده في طلبه، ثمّ في حفظه وضبطه قوانين العلاج ومعرفة الأدوية المفردة والمركّبة على أبلغ وجه وآكده، لم يكن من البارعين في فنّه، وكذا الفقيه الحاوي لفروع الفقه، المستحضر لمسائله، المدقّق في وجوه الاستنباطات الدقيقة وتفريع الاحتمالات البعيدة مع جلوسه في مسند الفتوى والحكومات، لا بدّ له من استغراق القلب وصرف العمر واستيعاب الخاطر وبذل الوسع والطاقة فيه، حتّى يكون فائقاً على الأقران، مشاراً إليه بالأنملة والبَنان، وكذا المحدّث في استعمال أوقاته في علم الرواية أعني في سماعة الحديث، وجمع الطرق الكثيرة، وطلب الأسانيد العالية الغربية، فهمّته أبداً مصروفة في أن يحصل عنده ما لم يحصل عند كثير من الناس، ولهذا يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول: "أنا أروي عن فلان"، "ولقد لقيت فلانا"ومعي من الأسانيد العالية ما ليس مع غيري".
وكذلك سائر العلوم والصناعات، إلاّ الحكيم الإلهي والعالم الرّباني، فإنّ موضوع علمه ومادّة صناعته هو الموجود المطلق والإله الحقّ - جّل مجده - فتمام عمره مشغول بالحقّ، وجميع همّه مصروف بالكشف عن توحيده وتقديس صفاته، وأحكام أفعاله، ومعرفة نعوته وأسمائه وآياته، فلا شغل له إلاّ ذكر الله وذكر آلائه، وله علمان شريفان نوريّان: علم المبدأ وعلم المعاد، وله في الأوّل بابان شريفان، أحدهما أشرف وأنور من الآخر، وهو العلم بوجوده ووحدانيته وتقدّس صفاته وأسمائه، وسكّان جبروته من المفارقات والربوبيّات، والآخر، العلم بأفعاله من السماوات والأرضين والبسائط والمركّبات.
وإلى الأوّل أشير بقوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } [آل عمران:191].
وإلى الثاني بقوله تعالى:
{ { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:191]
وإلى علم المعاد أشير بقوله:
{ { سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:191].
وكذا أشير إلى أحد المنهجين في معرفة المبدأ بقوله:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت:53] وإلى الآخر بقوله: { { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت:53].
قال بعض الفضلاء في تفسيره الكبير: القرآن مشحون بذكر هذه العلوم الثلاثة، فإنّ للإنسان أيّاماً ثلاثة - الأمس؛ والبحث عنه يسمّى بمعرفة المبدأ، واليوم الحاضر؛ والبحث عنه يسمّى بالعلم الأوسط، واليوم الآخِر؛ والبحث عنه يسمّى علم المعاد.
وقد وقعت في آخر سورة البقرة إشارة إلى العلوم الثلاثة، فقوله تعالى:
{ { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة:285]. إشارة إلى علم المبدأ. وقوله: { { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة:285]، إشارة إلى علم الوسط، وقوله: { { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة:285] أشارة إلى علم المعاد.
وكذا قوله تعالى:
{ { رَبَّنَا } [البقرة:286] - إشارة إلى الأوّل، وقوله: { { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة:286] إلى قوله تعالى: { { مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا } [البقرة:286]. إشارة إلى الأوسط، وقوله: { { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا } [البقرة:286]. - الخ - إشارة إلى علم المعاد.
وقال في آخر سورة هود إشارة إلى هذه المعارف الثلاثة:
{ { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ } [هود:123]. إشارة إلى أوّلها.
وأما علم الوسط، وهو علم يجب اليوم أن يشتغل به، فله أيضاً مرتبتان، البداية والنهاية. أمّا البداية، فعلم النفس والاشتغال بالعبوديّة، وأمّا النهاية، فقطع النظر عن الموادّ والأسباب والتجرّد التامّ، والاتّصال بالمبدأ الفعّال، وتفويض الأمور إلى مبدأ المبادئ ومسبّب الأسباب، وذلك هو التوكّل، فذكر هذين المقامين فقال:
{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود:123].
وأمّا علم المعاد فهو مشار إليه بقوله:
{ { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود:123] أي: إنّ ليومك غداً ستصل إليك فيه نتائج أعمالك وثمرات أفعالك.
وفي كلام أمير المؤمنين ويعسوب الدين - عليه أزكى تسليمات المصلّين - إشراة إلى هذه العلوم الثلاثة للإنسان لإصلاح الأيّام الثلاثة له حيث قال: "رحِم الله امرئ أعدَّ لنفسه واستعدّ لرمسه، وعلِم من أين وفي أين وإلى أين".
فقد اشتملت هذه الآية على العلوم الثلاثة، ونظيرها أيضاً قوله تعالى:
{ { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الصافات:180] إشارة إلى علم المبدأ، وقوله: { { وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الصافات:181] إشارة إلى علم الوسط، وقوله: { { وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الصافات:182] إشارة إلى علم المعاد، ولهذا قال في صفة أهل المعاد: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس:10].
وهذه العلوم الثلاثة مع أجزائها وأبوابها وفصولها، من علم الكليّات وأحكام الماهيّات، والعلم بالعلل الأربع، والأسباب القصوى لوجود الأشياء الكائنة، فاعلها وغايتها ومادّتها وصورتها، والعلم بمبادئ الحركات الكليّة وغاياتها، وعلم المفارقات، وعلم النبوّات، وعلم السماء والعالم، وعلم الروحانيّات، وعلم النفس وأحوالها بعد الموت، وعلم انبعاث الرسل وكيفيّة الوحي والتنزيل، والكتاب والتأويل، وعلم النبوّة والرسالة، وعلم الإمامة والسياسة، كلها ذكر الله وذكر صفاته وأسمائه وآلائه ونعمائه.
فالحكماء الأفاضل سيّما الأنبياء والأولياء منهم - سلام الله عليهم - كلّهم مشتغلون بذِكْره، مشغوفون بمناجاته ومخاطباته، فهم الذاكرون الله كثيراً دون غيرهم، إذ ليس عشق المبدأ الأعلى ومعرفة ذاته داخلاً في موضوعات علوم غيرهم وصنايعهم، ولا مقوّما لمطلوباتهم - من حيث هي مطلوباتهم ومسائلهم -، ولا غاية لأنظارهم وأفكارهم، وثمرة لأفعالهم وأعمالهم القلبيّة إلاّ بوجه من التكلّف والتجوّز البعيد، والتمحّل الشديد، فأولئك تحرّوا رشَداً دون غيرهم.
فهم أحقّاء بأن يكونوا عباد الله الصالحين، واولياء الله المتقين، وأنّ الحقّ جليسهم ورفيقهم حسبما ورد من قوله:
"أنا جليسُ مَن ذكرني" . وبأن يكون الحقّ حاضراً عندهم مشاهداً لهم بمقتضى قوله: "أنا عند المنكسرة قلوبهم، أنا عند المندرسة قبورهم". إذ لهم قلوب منكسرة وأبدان كقبور مندرسة، لتوحّشهم عن الناس، وتفرّدهم عن الخلق بالموت الإرادي، وتضرّرهم بها للمنافاة والتضادّ بين سلوكهم وسلوك غيرهم، فإنّ الرجل بقدر إمعانه في العلوم الباطنيّة، يتوحّش عن الخلق، ويتأذّى عن صحبة أهل الظاهر، وعلى مبلغ عرفانه بالحقّ يتناكر عن الناس.
ولهذا قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أعرف العرفاء بالحقّ:
"ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" .
وأما غير العالم الربّاني، فليس له هذا التوحّش عن أهل الدنيا والخوف والخشية والموت الإرادي عن مرغوباتها، والرياضة البدنيّة بالأعمال والعبادات، والنفسية بالأفكار والتأمّلات، لاشتغال هؤلاء بما يوجب تقوية القوى، ومماشاة الهوى، والركون إلى أهل الدنيا، والإخلاد إلى الأرض السفلى، والإنسراح إلى مراتع الحظوظ النفسانيّة بالحكومة والفتوى، والاغترار بظواهر الرخص الشرعيّة حيث لم يقفوا على كُنه الأمر، ولا لهم الخوض والإمعان في غرض الشارع منها بحسب الغاية القصوى.
فأكثر الخلق كما أخبر الله عن حالهم بقوله:
{ { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } [الجمعة:11] - { { يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً } [الفرقان:27] فلم يبق منهم مع خطيب الأنبياء إلاّ قليلاً، وأهل الله في غاية الندرة والقلّة. وهم العارفون بأن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ومن الدنيا ومستلذّاتها ومن الجنّة ومشتهياتها، وهم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة، لعلمهم بأنّ ما عند الله خير لأولي الألباب.
الإشراق الثاني
مراتب الذكر والذاكر
قال الله تعالى لنبيّه:
{ { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمّل:8]. وقال نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "ألا أُنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الوَرِقِ والذهب، وخير لكم من أن تلقوا أعداءَكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذلك - يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -؟ قال: ذكر الله عزّ وجلّ" .
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: "سبق المفردون، سبق المفرِدون.
قيل: ومَن هم - يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: المستهترون بذكر الله تعالى، وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً"
.
واعلم أنّه قد انكشف لأرباب البصائر المتسنيرة بنور المعرفة، أنّ ذكر الله أفضل الأعمال الروحيّة والقلبيّة والنفسيّة والبدنيّة، ولكن له مراتب بعضها قشور وبعضها لُباب، وللذاكر أيضاً مراتب بحسبه، ولكلّ ذكر نتيجة أيضاً، فإنّ نتجية ذكر العبد لله ذكر الله له، كما قال تعالى: { { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152].
وقيل: في هذه العبارة تقديم وتأخير، لأنّ الله أمرهم بالذكر مع فاء التعقيب، كقوله:
{ { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]. وقوله تعالى: { { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [المائدة:119]. وذلك لأنّ ذكر العبد لله نتيجة ذكر الله له، كما أنّ محبّتهم له ورضاهم عنه تعالى نتيجة محبّته إيّاهم ورضوانه عنهم.
والحقّ، أنّ لكلّ من القولين وجهاً وجيهاً، لأنّ التقدّم في الأول على سبيل الإعداد والتهيئة، وفي الثاني على سبيل العليّة واللزوم، لأنّ جميع حالات العبد تابعة لما في علم الله وقضائه الإجمالي، ثمّ التفصيلي، فذِكْرُنا له تعالى مسبّب عمّا في اللوح المحفوظ والذِكْر الحكيم، فافهم هذا.
وأيضاً -، فإنّ ذكر العبد لله ومحبّته له ورضاه عنه، وسائر صفاته الحسنة وأعماله الصالحة، مؤديّة له إلى أمثال هذه النتائج على وجه أكمل وأعلى، فإنّ لكلّ شيء حادث، كما لَه مبدأ، كذلك قد يكون له غاية، والمبادئ للأشياء ذوات الغايات هي نفس الغايات بالذات، وغيرها بالاعتبار - كما حقّق في مظانّه -، أوَ لاَ ترى أنّ تصوّر كلّ فاعل مختار لنتيجة فعله وكماله عمله متقدّم علماً على ثبوت تلك الغاية، وهي متأخّرة عنه عيناً.
فإذا كان هذا هكذا، فنقول: لمّا كان الله سبحانه مبدأ كلّ شيء وغايته، وأوّل كلّ فكر وذِكْر ونهايته، وظاهر كلّ موجود وباطنه، فالأوّل فيه عين الآخر، والباطن عين الظاهر، والعلم هناك عين العين، فقد صحّ كلّ من الوجهين في الذكر له، وهذا أيضاً من العلوم المختصّة بأحبّاء الله ومشتاقيه المجذوبين إليه - هذا.
ولنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان مراتب الذكر والذاكر، ونتيجة كلّ مرتبة، فنقول:
أمّا مراتب الذكر والذاكر: فذكر اللسان، وذكر الجوارح والأركان، وذكر النفس، وذكر القلب، وذكر الروح، وذكر السرّ.
وأمّا تعيينها وتعيين نتائجها:
فذكر اللسان: الإقرار ونتيجته احتقان الدم والمال بالأمان، فاذكُروني بالايمان أذكركم بالأمان.
وذكر الأركان: باستعمال الطاعات والعبادات للوصول إلى المثوبات، فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمثوبات.
وذكر النفس: بالاستسلام للأوامر والنواهي للفوز بنور الإسلام، فاذكروني بالإستسلام أذكركم بنور الإسلام.
وذكر القلب: تبديل الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الكريمة، للتشبّه بالحقّ، والإنخراط في سلك أحبّائه والاتّصال بجنابه، فاذكروني بالأخلاق أذكركم بالاستغراق.
وذكر الروح: بالتفريد والمحبّة لحصول المعرفة والحكمة، فاذكروني بالتفريد والمحبّة، أذكركم بالتوحيد والقربة.
وذكر السرّ: ببذل الوجود لوجدان المعبود، فاذكروني ببذل الوجود والفناء، أذكركم بنيل الشهود والبقاء.
وهذا حقيقة قوله في الحديث القدسي:
"وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" . وهذا هو لبّ الألباب، وهو الذكر الحقيقي والغاية الأخيرة لما في الخطاب، وهو يجعل الذاكر مذكوراً، والمذكور ذاكراً، بل الذكر والمذكور والذاكر واحداً، كما قال سبحانه: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر:16].
كما قال قائلهم:

رقّ الزجاج ورقّت الخمر فتشابَها وتشاكل الأمر
فكأنّه خمر ولا قَدَح وكأنّها قَدَح ولا خمرُ

فافهمه واعلم قدره.
فإذا تقرّر ذلك فقوله: "واذكُروا الله كَثيراً" يحتمل الجميع، وكذا قياس ما هو نتيجة له بحسب الأقسام من قوله: "لعلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فلكلّ ذكر من أقسام الأذكار فلاح يناسبه معناه، فاذكروا الله باللسان لعلّكم تفلحون بالاطمئنان والأمان، وبعمل الأركان لعلّكم تفلحون بالوصول إلى مثوبات الجنان، وبالنفس بالاستسلام لعلّكم تفلحون بنور الإسلام، وبمحبّة القلب لعلّكم تفلحون بمعرفته وحكمته، وبالسرّ من جهة الفناء فيه لعلّكم تفلحون بنيل شهوده وجماله، والبقاء به بعد الفناء فيه.
هداية عرفانية
المراتب المختصة بهذه الأمة من الذكر
اعلم أنّ مراتب الذكر كمراتب الحكمة، إمّا متعلّقة بذات الله أو صافته أو أفعاله. فنقول: ذكر الذات فضيلة مختصّة بفضلاء هذه الأمّة دون غيرهم، وكذا جزاء الذكر بالذكر المستفاد من قوله:
{ { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152] فضيلة مختصّة بهم دون سائر الأمم، والدليل عليه قوله تعالى: { { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة:122] فقد أمر هذه الأمّة بذكر الذات، كما أمر الله موسى (ع) بذكر النعماء.
وذلك لأنّ معارج الفكر والذكر والشهود لم تتجاوز في الأمم السابقة من طبقات الأفلاك وما فيها، ومثوبات اقتصرت على نيل درجات الجنان، وأمّا فضلاء هذه الأمّة - رضوان الله عليهم - فلهم أن يتّخذوا مع الرسول سبيلا، ويتجاوزوا بمتابعته عن عالَم الخلق، بل الأمر، ليكون هاديا لهم ودليلا.

بهمراهى خواجه انس وجان توان برشدن تابأقصى الجنان

فافهم وتدبّر.
الاشراق الثالث
أعلى مراتب الذكر
لمّا قرع سمعك مراتب الذكر ودرجات الذاكر، ونتيجة كلّ مرتبة، وأنّ بعضها فوق بعض فوقيّة الشرف والذات، إلى حيث يصير الذكر والذاكر والمذكور شيئاً واحداً، فاعلم أنّ ذلك إنّما يتصوّر بأن يتمكّن المذكور في القلب تمكّناً شديداً، وحصولا مشرقا نوريّا، بحيث ينمحي الذكر أو يخفى، ولا يلتفت القلب إلى الذكر أصلاً، ولا إلى الذاكر - أي القلب نفسه - بل تستغرق جملته في المذكور، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر يكون ذلك حجاباً عن المقصود وهوّيته بالنسبة إلى الغاية الأصلية، وذلك بأن يغيب عن نفسه حتّى لا يحسّ بشيء من ظواهر جوارحه ولا من العوارض الباطنة فيه، بل يفنى عن جميع ذلك، ويغيب عنه جميع ذلك ذاهباً إلى ربّه أوّلاً، كما قال الخليل - على نبيّنا وعليه السلام - فيما حكى الله تعالى عنه:
{ { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } [الصافات:99] - ثمّ ذاهباً فيه كما يومئ إليه قوله: { { سَيَهْدِينِ } [الصافات:99] فإنْ خَطَرَ له في أثناء ذلك أنّه ذهب إلى ربّه وفني عن نفسه، وغاب عن ذاته، فذلك سكون عن الذهاب في الجملة ووقوف مع النفس، فهو شوب وكدورة، بل الكمال في أن يفنى عن نفسه، ويفنى عن الفناء أيضاً، فالفناء عن الفناء غاية الفناء ونتيجته البقاء. والغيبة عن الغيبة كمال الغيبة وفائدته الحضور.
وهذا يظنّه الفقيه الرسمي أنّه مجرّد ألفاظ بلا طائل، أو طامّات غير معقولة - وليس كذلك - بل هذه الحالة للعرفاء الكاملين - بالإضافة إلى مقصودهم - كحالته بالقياس إلى أكثر مطالبه ممّا يحبّه كثيراً من جاه أو مال، أو تقرّب من سلطان، أو تفوّق في البحث على مشارك أو غير ذلك، فإنّه قد يصير مصروف الهمِّ مستغرَقاً لشدّة الغضب بالفكر في عدوّ أو منازع له في علمه أوجاهه عند الناس، أو مسغرقاً لشدّة الشهوة بالفكر فيما هو معشوقه، حتّى لا يكون فيه متّسع لإدراك آخر، فعند ذلك الحال ربما يخاطب ولا يفهم، ويجتاز بين يديه غيره فلا يراه وعيناه مفتوحتان، ويتكلّم عنده ولا يسمع وما باذُنه صمَم وهو في هذا الاستغراق غافل عن كلّ شيء، وعن الاستغراق أيضاً، فإنّ الملتفت إلى الاستغراق غافل عن المستغرق فيه.
وإنّما سمّوا هذه الحالة فناءً - وإن كان الشخص والظلّ باقياً - لأنّ الأشخاص والأظلال بل سائر المحسوسات ليس لها حقيقة الوجود، بل وجودها كحكايات المرائي والظلال، وإنّما الوجود الحقيقي لعالم الأمر والملكوت، والقلب من عالم الأمر، قال الله تعالى:
{ { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85]. والقوالب من عالم الخلق، وليس هذا إشارة إلى قِدَم الروح وحدوث القالب، بل هما جميعا حادثان، وإنّما أعني بعالَم الخلق ما يقع فيه التقدير والمساحة وهي الأجسام وصفاتها، وبعالَم الأمر ما لا يتطرّق إليه التقدير والمساحة.
ونحن خاصّة قد بيّنَا ذلك وبرهنّا على أنّ المقدار الاتّصالي - جوهراً كان أو عَرَضا - غير موجود في نفسه، وعلى أنّه مناط الجهالة والنسيان، كما أنّه مناط العدم والفقدان، لزوال كلّ جزء، وغيبة كلّ بعض عن كلّ بعض، وعن الكلّ أيضاً، فالعالم الجسماني ليس وجوده إلاّ كوجود الظلّ، فهو من العالَم العقلي كالظلّ من الشخص، فكما ليس لظلّ الشخص حقيقة الشخص، فليس للشخص - أي الجسم - حقيقة الوجود، بل هو ظلّ حقيقة الوجود، والكلّ من صنع الله
{ { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [الرعد:15] وسجود عالم الأمر لله طوع، وسجود الظلال كره، وتحت هذا سر بل أسرار يحرّك أوائلها سلسلة المجانين والحمقى فضلا عن أواخرها.
الإشراق الرابع
أحوال الذكر ومراتب سلوكه
إذا فهمت معنى مراتب الذكر والذاكر، وفناء الذاكِر بحسب المرتبة الأخيرة في المذكور، فإيّاك والاستنكار والتكذيب بما لم يحط به علمك، ولم تحط بعلمه، كما قال سبحانه:
{ { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [يونس:39]. وقال أيضاً: { { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } [الأحقاف:11].
واعلم: أوّل الأمر هو الذهاب إلى الله، وإنّما الهدى بعده كما مرّ ذكره في قوله تعالى حكاية عن الخليل (ع):
{ { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات:99]، فأوّل الأمر ذهاب إلى الله، ثمّ ذهاب في الله تعالى، وذلك هو الفناء والاستغراق به، ولكن هذا أوّلاً يكون كالبرق الخاطف قلّما يدوم ويثبت، فإن دام وصارت مَلَكة راسخة وهيئة ثابتة عرج به إلى العالم الأعلى، وطالع الوجود الحقيقي للمولى، وانطبع فيه نقش الملكوت، وتجلّى لذاته قدس اللاهوت.
وأوّل ما يتمثّل له من ذلك العالَم جواهر الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء (ع) في صوَر جميلة يفيض بواسطتها عليه بعض الحقائق، وذلك في البداية إلى أن تعلو درجته عن المثال، فيكافح بصريح الحقّ في كلّ شيء، فاذا ردّ إلى العالم المجازي وجواهره التي هي كالظلال، ينظر إلى الخلق نظر مترحّم عليهم لحرمانهم عن مطالعة جمال حضرة القدس، ويعجب من أصحاب الفهوم الفكريّة وأرباب العلوم والعقائد الجزئيّة وقناعتهم بالظلال، وانخداعهم بعالَم الغرور والخيال، مع ما كان لهم أوّلاً من الاستعداد لطلب الكمال والارتقاء إلى عالَم الحقّ المتعال، فأفسدوه بانكبابهم على أغراض هذا الأدنى، وإعراضهم عن الطريق المثلى، وانحرافهم عن مطالعة آيات الله الكبرى، ومع ذلك فيعاشرهم ويخالطهم بالظاهر، ويكون البُعد بينه وبينهم بحسب الباطن كما بين المشرق والمغرب، فيكون معهم حاضراً بشخصه غائباً بقلبه، تعجّب هو من حضوره ويتعجبون من غيبته لو تفطّنوا.
فهذه ثمرة لباب الذِكر، وإنّما مبدؤها ذِكر اللسان، ثمّ ذكر النفس تكلّفاً ثمّ ذكر القلب طبعاً، ثمّ استيلاء المذكور على الروح، ثمّ انمحاء الذكر عن السرّ حقيقة. وهذا سرّ قوله: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
وسرّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"من أحبَّ أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله" .
بل سرّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضل الذكر الخفيّ على الذكر الذي يسمعه الحَفَظة سبعين ضِعْفاً.
فإنّ كلّ ذلك يشعر به قلبك فيسمعه الحَفَظة، وذلك لأنّ شعورهم يقارن شعورك كما يعلمه الراسخون في الحكمة، حتّى إذا غاب ذكرك من شعورك بسبب ذهابك في المذكور بالكليّة، فيغيب ذكرك عن شعور الحَفَظة، وما دام القلب يشعر بالذكر ويلتفت إليه، فهو معرض عن الله، وغير منفكّ عن شرك خفيّ حتّى يصير مستغرقاً الواحد الحقّ، فذلك هو التوحيد، كذلك المعرفة إذ هُما واحد كما علمت.
قال بعض العارفين في مقاماته: من آثر العرفان للعرفان فقد قال الثاني، ومن وجد العرفان كأنّه ما وجده، بل وجد المعروف به فقد خاض لجّة الوصول، أي هو الذي استمكن من حقيقة الوِصال، وحلّ بحبوحة القُدس.
فهذه أمور نبّهت عليها لتكون متشوّقا إلى أن تصير من أهل الذوق والمحبّة بها، فإن لم تكن، فمن أهل العلم بها، فإن لم تكن، فمن أهل الإيمان بها إيماناً بالغيب:
{ { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11].
وإيّاك وأن تكون من المنكرين لها فتلقى العذاب الشديد إذا كوشفت بالحقّ عند ملاقاة سكَرات الموت الذي كنت منه تحيد، وقيل: لك:
{ { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق:22].