التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه إشراقات:
الإشراق الأوّل
فيما قيل في معنى الآية
قالوا: أخبر الله عن جماعة عادلين قابَلوا أكرم الكرمَ بألومَ اللوم، وباعوا أنفس النَفيس بأخَسّ الخسيس، فقال: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً } - أي إذا عاينوا ذلك، أو علموا بعلامة وهي الطبل - عن مجاهد، - أو المزامير - عن جابر -.
{ ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } - أي تفرّقوا عنك خارجين إليها. وعن الفرّاء: مالوا إليها. والضمير للتجارة، وإنّما خصّت بإرجاع الضمير إليها لأنها كانت أهمّ إليهم وهم بها أسرّ وأفرَح من الطبل، لأنّ الطبل إنّما دلَّ على التجارة.
وقيل: عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاءً به، وكأنّه على حذف، والمعنى: وإذا رأوا تجارة انفضُّوا إليها، وإذا رأوا لهواً انفضّوا إليه، فحذف "إليه" لأنّ "إليها" دالٌّ عليه.
وروي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقدم دِحْية بن خليفة بتجارة من زيت الشام، والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلاّ يسير، قيل: ثمانية - عن الكلبي -، وقيل: أحد عشر - عن ابن كيسان -، وقيل: إثنا عشر -
"عن جابر بن عبد الله، قال: أقبلت عير ونحن نُصلّي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجمعة، فانفضَّ الناسُ إليها، فما بقي غير إثنا عشر رجلاً أنا فيهم. وقيل: أربعون، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفس محّمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده، لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً" .
وكانوا إذا أقلبت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، فهو المراد باللهو، فعلى هذا تعيّن إرجاع الضمير إلى التجارة لأنّها كانت مقصودهم الأصلي، وكان الطبل طريق اطّلاعهم عليها.
وعن قتادة ومقاتل: فعَلوا ذلك ثلاث مرّات في كلّ يوم لعير تقدم من الشام، وكلّ ذلك وافَق يوم الجمعة.
"وقال المقاتلان: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي، ثمّ أحدُ بني الخزرج، ثمّ أحَدُ بين زيد بن مناة بتجارة من الشام، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة إلاَّ آتيه، وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو بُرٍّ أو غيره، فينزل عند أحجار الزيت - وهو مكان في سوق المدينة -، ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر يخطب، فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلاّ اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء، وأنزل الله هذه الآية" .
وروي عن أبي عبد الله (ع) إنّه قال: انصرفوا إليها وتركوه قائما يخطب على المنبر.
وقال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب إلاّ وهو قائم فمن حدّثك أنّه خطب وهو جالس، فكذّبه.
وسُئل عبد الله بن مسعود: أكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب قائماً؟ فقال: أما تقرأ وتركوك قائماً؟ وقيل: أراد قائماً في الصلاة.
الإشراق الثاني
إيمان الأكثرين عادة وتقليد
اعلم أنّ الغالب على الخلق حبّ التلذّذ بالدنيا، والتمتّع بطيّباتها التي هي خبائث العالَم الأعلى، لأنّ التجسّم غالب على طباع الناس إلاّ الأقلّين، كما أشار إليه قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [العصر:2 - 3].
وقلّ من الإنسان من آمن بوجود المبدأ والمعاد إيماناً حقيقيّاً، وصّدق بالله واليوم الآخر إذعاناً يقينيّا، وأكثر الذين يدّعون الإيمان لهذه الأركان إذا فتّشت عن إيمانه يكون مرجعه إمّا القول باللسان فقط، وإمّا هو مع التقليد المحض للمشايخ والآباء من غير برهان ولا حجّة إقناعيّة، كالعميان، وامّا التعصّب لمذهب نشأ فيه مع الأصحاب والرفقاء والخلاّن، وإلْف وعاده حصلا لَهُ بسبب المعاشرة مع المسلمين، أو التشبّه بأهل العلم واليقين بصور أعمالهم وألفاظهم الدائرة على ألستنهم، من القول بوجود الإله المَلك، والنبي والإمام، والكتاب والوحي والقبر والبعث، والحشر والنشر للصحائف، والتطاير للكتب، أو مجرّد الظنّ والتخيّل لهذه المسموعات على سبيل التجويز العقلي، من غير وصول إلى حقيقة الأمر، أو حصول طمأنينة قلبية توجد للنفوس السليمة عن الأمراض الباطنية، كما للسعداء من أصحاب اليمين.
وشيء من تلك الأمور لا يؤثر في قلب الإنسان اثراً يوجب انتزاع نفسه عن الدنيا، وحسم مادّة الميل إلى شهواتها، بحيث ينزجر بلا زاجر خارجي، ويرتدع من غير رادع يجبره بحكومة عرفيّة أو شرعيّة، فمتى وقعت مسامحة أو توهّمت من طرفهما، أو انبعث داع مجدّد يحرّك سلسلة الحرص والهوى، فيرجع مسرعاً إلى ما اقتضته طبيعته وآدميته، وينقلب إلى ما يميل إليه ذوقه وهواه، كالحجر المستكنّ في الهواء قسراً إذا خلّي وطبعه يميل إلى أسفل السافلين، وأمّا المؤمن الحقيقي العارف بالحقّ، المصدّق لما أتى به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشاهدة لليوم الآخر كشفاً، والموقن بأنّ الآخرة خير له من الأولى، فهو في غاية الندور، وقد وقع التصريح به في كثير من الآيات القرآنيّة بأنّ أكثر المتّسمين بالمؤمنين كافرون ضميراً وقلباً، منافقون بالله ورسوله، مثل قوله تعالى:
{ { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [السناء:136] وقوله تعالى: { { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [يوسف:106]. وقوله تعالى: { { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف:103] وقوله: { { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس:30] وقوله تعالى: { { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [النحل:83]. وقوله تعالى: { { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف:105].
الإشراق الثالث
النور الفائض على القلب
اعلم أنّ كلام الرسول الخارجي لا يسمعه مَن لم يكن له في الباطن رسول قلبي بوارد من واردات الحقّ سحبانه، ويكون القلب به حيّاً كما قال تعالى:
{ { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل:80] وقال: { { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [يس:70]. فالقلب الحي بنور وارد الحق، يسمع بذلك النور كلام الرسول الخارجي ويفهمه ويقبله، فسرّ القلب الذي هو قابل لفيض نور وارد الحقّ يكون الرسول بين الحقّ والعبد، فيأخذ الأسرار والمعاني والحِكَم والمواعظ من نور وارد الحقّ، ويبلّغها إلى قواه الداخلة والخارجة، وسائر الأمّة المسلمة من الأوصاف والأخلاق الحسنة.
كما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
"واعظ في قلب كلّ مؤمن" .
وقال بعضهم: حدّثني قلبي عن ربّي.
وتحقيق ذلك: أنّ كلّ إنسان يلاقي الأمور الغيبيّة والشهاديّة بما في نفسه وطبعه، بل كلّ قوّة تدرك وتنال شيئاً إنّما تدركه وتناله بما في ذاتها، فالبصر مثلا إنّما يدرك الأضواء والألوان لأنّه من جنسها، لكونه شفّافاً نورانيّا، والسمع يدرك كيفيّة تموّج الهواء الحاصل من المقروع والمقلوع، لأنّ من شأنه أن ينقرع وينقلع حامله بتموّج ما يجاوره من الهواء الراكد، وكذا القوّة الشميّة القائمة بعصب اللسان، تنفعل بالمذيقات بسبب تكيّف آلتها التي هي رطوبة لعابيّة بكيفيّة المطعومات، ونسبة تلك الرطوبة إلى كيفيّة الطعوم كنسبة الجرم الشفّاف إلى كيفيّة الضوء واللون، وهكذا قياس سائر الحواس الظاهرة والباطنة.
فالوهم يدرك الموهومات، والعقل الذي هو جوهر مفارق يدرك الحقائق المجرّدة عن الغواشي الماديّات، فالإنسان بكلّ قوّة وبكلّ نشأة يكون له وفيه حصّة منها يدرك ما في تلك النشأة من الأمور الغريبة.
ولهذا قال بعض الحكماء: العقل نور الله، ولا يهتدي إلى النور إلاّ النور، ولا تظهر صورة فرادنيّة إلاّ في مرآة فردانيّة، والنفس مرآة العقل، ومرآة العقل لا تشبه مرآة الأجسام، ومرآة الله لا تشبه مرآة غير الله - انتهى.
وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40].
فإذا علمت ما ذكرناه -، فاعلم أنّ من جملة القوى المودعة من أمر الله العالَم الإنساني، هو نور فائض من الله على قلب المؤمن المجاهد في سبيل الله، وهو إنّما يجيء إليه من عالَم الملكوت، ويقذف في قلبه بعد استكماله بمراتب الحسّ والخيال والوهم والعقل بالعلوم الرسميّة والآداب الشرعية، وطور ذلك النور فوق أطوار سائر المدارك والمشاعر والعقول الجمهوريّة، وهو من أنوار النبوّة والولاية.
فبذلك النور يقبل الأحكام النبويّة، ويفهم الأسرار الإلهية، وينال الحظّ الوافر من العلوم الربّانيّة، فيتبع الرسول الخارجي والمبلغ العيني بالرسول الداخلي والمبلغ الغيبي، فالبرسل يدرك الرسول، وبالنور ينال النور، كما أنّ بالعقل يعقل العقل والمعقول، وبالحسّ يحسّ الحسّ والمحسوس، فمن لا يكون له وارد من الحقّ، ولا نصيب من نوره، لا يفهم لسان النبي الوارد من الحقّ إلى الخلق، ولا يدرك النور الذي معه، والكتاب الذي أنزل إليه،
{ { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40].
وهكذا حال أكثر الناس
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [يونس:36]. ولذلك لم يبق مع الرسول من العدد الكثير لأصحابه في ألطف وقت من أوقات صحبته، وأنور ساعة من ساعات خدمته معدّة لمرافقتهم إيّاه، وصحبتهم. له (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعروجهم معه إلى العالَم الأعلى، وهو وقت ذكر الله، والصلاة التي هي معراج المؤمن، وعمود الدين، ومناجاة العبد للربّ، فخلّوه وتركوه قائماً إيثاراً لهذا الخسيس الدنيّ على الشريف العليّ.
نظير ذلك ما وقع لهم في ترك النجوى مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أوجبت عليهم الآية صدقة يسيرة - حبّة أو شعيرة -، ففوّتوا ذلك الأمر العظيم بإمساك هذا التراب الرميم، لما روي أنّهم أكثروا مناجاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يريدون، حتّى آلموه وأبرموه، فنزلت:
{ { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } [المجادلة:13]. وأمروا بأنّ من أراد أن يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة.
"وعن أمير المؤمنين (ع): لمّا نزلت، دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: كَم؟
قالت: حبّة أو شعيرة. قال: إنّك لزهيد. فلمّا رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا وكفّوا عن النجوى حتّى نسخت"
.
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي. كان لي دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم" .
فانظر في هذه الحكاية بنظر التأمّل، حتّى تعلم أنّ أهل المودّة الأخرويّة في غاية القلّة والندرة بالنسبة إلى أهل المودّة الدنيويّة، وأنّ عدد طالبي الحقّ بالنسبة إلى طالبي الهوى كعدد الشعرة البيضاء في جلد البقرة السوداء.
في قوله سبحانه:
{ قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }
وفيه إشراقات:
الإشراق الأوّل
إجمال معنى الآية
{ قُلْ } - يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) - لهذه النفوس المحجوبة عن عالم الربوبيّة وما يليه من سكّان عالم الجبروت والملكوت، وهي مبادي الصوَر الفائضة على موادّ هذا العالم بعد نزولها ومرورها على المراتب، وينابيع اللذات والخيرات النازلة منها على قوابل الأجساد وطبائع الأجرام، بعد تكدّرها بالشوائب، ومفاتيح خزائن النعمة والرحمة والايمان، وأبواب الوصول إلى الجنّة والرضوان: إنّ ما عند الله أحمد عاقبة وثواباً، وأجلّ مرجعاً ومآباً من اللهو والتجارة، وهما هوسان زائلان، والله خير الرازقين يرزقكم من حيث لا تحتسبون، وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة - وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلاَّ عَلَى الله رزْفهَا -، فمن ابتغى زاد الآخرة كان له نعمة الدنيا والآخرة، ومن ابتغى تحصيل الدنيا حرم عن الآخرة.
قال الله تعالى:
{ { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا } [النساء:134] -الآية -.
أي: من كان دنيّ الهمّة قصير النظر خسيس الطلب حتّى يطلب من الله الدنيا الدنيّة، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، فللإنسان أن يطلب منه ما هو أعظم من الدنيا، فإنّ الله من سعة كرمه وبسطة جوده، وفيض وجوده الذي هو ينبوع ينابيع الخير والرحمة، ومفتاح مفاتيح الجود والنعمة، يحبّ أن يسأل العبد منه عوالي الأمور، ومعالى الأشياء، ويبغض أن يطلب منه دنيّاتها وسفسافها، فلا يرضى أن يقتنع منه بالدنيا لأنّها دنيّة، بل لا شيء لأنّ وجودها وجود تبعي ظلّي، وعند الله ثواب الدنيا والآخرة، لأنّ إحداهما من أشعّة ذاته وأضواء جماله وجلاله، والأخرى من ظلال أنوار كماله، فمن تكون منزلته عند الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فقد وجد الله ووجد ما عنده من الدنيا والآخرة، وكان الله عطوفا رحيماً على عباده، سميعاً لحاجات طالبيه ومناجاة مشتاقيه، بصيراً بمصالح دينهم ودنياهم، فلكمال رأفته ورحمته، أمرهم بالرجوع إليه في الأمور، ونهاهم عن الانكباب إلى عالم الدثور، والانخراط في سلك أصحاب القبور.
الاشراق الثاني
أقسام الرزق ومستحقيه
إعلم أنّ للإنسان أرزاقاً مختلفة سوى رزق المعدة، وهي رزق القلب ورزق الروح، ورزق السرّ، وكلّ إنسان في هذا العالم يستحقّ بجسميّته رزق القالب، لأنّ هذا أدنى درجات الحيوان - بما هو حيوان -، والإنسان بحصّة حيوانيّته يكون من أهل استحقق الجحيم، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم:71]. لأنّ معدة الإنسان تنور، وجاءت حرارته من فوح نار جهنّم التي قيل لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد. وهي التي وَقُودُهَا النَاس والحجَارَة أعدَّت للِكافرين المجرمين.
ولبعض الناس رزق القلب -
{ { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } [النحل:75] والى هذين الرزقين أشير بقوله: { { يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ } [النمل:64]. ولقوله: { { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [المائدة:66].
وأمّا رزق الروح فلقوله تعالى:
{ { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [طه:131].
وأمّا رزق السرّ فكقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"أبيتُ عند ربّي يطعمني ويسقيني " .
فقوله تعالى: { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } -، يحتمل الجميع، فإنّ الرزاق الحقيقي في كلّ رزق إنّما هو ذاته، وأمّا في القسم الأخير فدرك معناه يحتاج إلى لطف قريحة - فافهم -.
الإشراق الثالث
الرزق المخصوص بالإنسان
إعلم أنّ الرزق والنعمة وما يجري مجراهما وقد يعبّر بها عن كلّ مطلوب ومستلذّ، والمطالب والمستلذّات للإنسان على ثلاثة أجناس، لأنّها إمّا عقليّة، وإمّا نفسيّة وإمّا بدنيّة والأول: كلذّة العلم والحكمة، والثاني: كلذّة الجاه والسلطان، والثالث كلذّة الأكل والمجامعة.
وفي الأخيرين يقع الإشتراك بينه وبين سائر الحيوانات.
وأمّا المطالب العقليّة، فهي أقلّها وجوداً وأشرفها رتبة، أمّا قلّتها فلأنّ المعرفة لا يتسلذّها إلاّ العلماء، والحكمة لا ينالها إلاّ الحكماء، وما أقلّ أصحاب العلم والحكمة، وما أكثر المتسمِّين بإسمهم والمترسّمين برسمهم، وأمّا شرفها، فلأنّها لذّة لا تزول أبداً - لا في الدنيا ولا في الآخرة -، ودائمة لا تملّ، والطعام والشراب يشبع منه، وشهوة الوقاع تفرغ وتستثقل، ومن قدر على الشريف الباقى أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني أقرب الآماد، فهو سفيه في عقله، محروم بشقاوته وإدباره.
ثمّ العلم لذيذ ونافع وجميل في كلّ حال، والمال والأولاد تارة تجذب إلى الهلاك، وتارة تجذب إلى النجاة، ولهذا قال تعالى:
{ { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن:15].
وأمّا قصور أكثر الخلق عن إدراك لذّة العلم، فإمّا لعدم الوجدان والذوق، فمن لم يعرف لم يذق، ومن لم يذق لم يشتق، إذ الشوق تابع للذوق. وإمّا لفساد فطرتهم الأصليّة، ومرض قلوبهم بسبب اتّباع الشهوات، كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مرّا، وإمّا لقصور فطرتهم، إذ لم يخلق بَعْدُ لهم الغريزة التي بها يُستلذّ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذّة الطعوم اللذيذة إلاّ اللبن.
فالقاصر عن لذّة المعرفة والحكمة ثلاثة: إمّا من لم يحي باطنه، كالجنين بل كالمني، وإمّا من مات بعد الحياة باتّباع الشهوات، وإمّا من مرض بسبب الصفات المكتسبة مثل العصبيّة والعناد واللجاج والعُجب وسوء الظنّ والتكبّر وحبّ الرياسة.
وقوله تعالى:
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [البقرة:10]. إشارة إلى مرض القلب ولذا قال: { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة:10]، لأنّ مرض القلب ممّا يشتدّ يماً فيوماً، ويرسخ حتّى يؤدّي إلى الهلاك السرمدي والعذاب الأبدي، وقوله تعالى: { { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [يس:70] إشارة إلى من لم تمت حياته الباطنيّة، وكلّ حيّ بالبدن ميّت القلب فهو عند الله من الموتى، وإن كان عند أهل الحجاب من الأحياء، وكذا كلّ ميّت بالبدن حيّ بالقلب فهو من الأحياء، لأنّ العبرة في عالم الحقيقة بالقلب لا بالقالب، ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربّهم يُرزقون بالأرزاق المعنويّة، فرحين بما آتيهم الله من فضله - وهي اللذّات العقليّة - وإن كانوا موتى بالأبدان.
وأمّا اللذّة التي يشارك الإنسان بها بعض الحيوانات، فهي كلذّة الغلبة والاستيلاء والرياسة، أو كلّها، فهي كلذة البطن والفرج، فإنّ الأولى موجودة في الأسد والنمر وأشباهها، والثانية موجودة في سائر الحيوانات، فهذه أكثرها وجوداً وأخسّها رتبة، ولذلك اشترك فيها كلّ ما دبّ على الأرض ودرج حتّى الديدان والحشرات.
ومن جاوز هذه الرتبة تستثبت فيه لذّة الغلبة وهي أشدّها التصاقاً بالمتعاقلين.
فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالث، فصارت أغلب اللذات عليه لذّة العلم والحكمة، ولا سيّما معرفة الحقّ الأوّل، ومعرفة صفاته وأفعاله من الجواهر الملكيّة والفلكيّة، والنفوس الأرضيّة وما بعدها، من جهة مباديها وغاياتها وهذه رتبة الصدّيقين، وهي المسمّاة عند الحكماء والعرفاء بالخير الحقيقي، وباقي الخيرات خيرات بالاضافة.
وإلى الخير الحقيقي أشار بقوله تعالى:
{ { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } [آل عمران:198] وإلى الخير الإضافي أشار بقوله تعالى: { قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ }، لما بينا ان عند الله يوجد كلّ نعمة ورزق دنيوي وأخروي، لأنّ الجميع ظلال أنواره ورشحات بحاره.
الاشراق الرابع
معرفة الله أجلّ اللذّات
إعلم أنّ دعوى كون ما عند الله خيراً من اللهو الذي هو لذّة القوّة الحسيّة وشهوة النفس البهيميّة، ومن التجارة التي هي لذّة القوّة الخياليّة والنفس السبعيّة، إذ بها يحصل الجاه والحشمة ممّا يشكل إثباته على أكثر الناس لغلبة التجسّم عليهم، وكثافة الحجاب فيهم، فإنّ كون معرفة الله وصفاته، ومعرفة ملكوت سماواته وأسرار ملكه، أعظم من لذّة الرياسة وسائر المرغوبات، ممّا يختصّ دركه بمن نال رتبة المعرفة وذاق مشرب الحكمة، ولا يمكن إثباته على من لا قلب له، لأنّ القلب معدن هذه القوّة، كما لا يمكن إثبات لذّة الرياسة ورجحانها على لذّة الوقاع عند الأداني والسفهاء ولا إثبات لذّة الوقاع على لذّة اللعب بالكرة والصولجان عند الصبيان، ولا إثبات لذّة الروائح عند فاقد الشامّة، كالجُعل، أو مريضها، كالمزكوم، لفقدهم القوّة التي بها تُدرك هذه اللذّة أو سلامتها.
ولكن من كان ذا ذائقة، وسلمت ذائقته عن الأمراض والآفات، فيدرك - لا محالة - ما يناسبه من اللَّذّات، وعند هذا ينبغي أن يقال لفاقد تلك الغريزة الباطنيّة: "إنّ من ذاق عرف".
وممّا ينبهك أنّ معرفة الله ألذّ الأشياء، أنّ طلابّ العلوم - وإن لم يشتغلوا بطلب المعارف الإلهيّة واللطائف الربوبيّة -، قد استنشقوا رائحة من روائح هذه اللذّة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلب العلوم التي يطلبونها فإنّها أيضاً معارف وعلوم، وإن كانت معلوماتها غير شريفة، لأنّ كلّ علم هو حضور صورة مجرّدة عن مادّتها عند الذهن، والصورة المجرّدة أصفى وألذّ من الصورة الماديّة.
فإذا كانت هذه هكذا، فما ظنّك بلذّة مَن طال فكره في الملكوت حتّى انتهى إلى معرفة الله، وقد انشكف له شيء من أسرار ملك الله وملكوته؟ أو لم يصادف في قلبه عند حصول ذلك طرباً عقليّاً وفرَحاً قدسيّاً ما يكاد يترك به عالَم الأجسام كلّها ويطير إلى عالم القدس، نعم، يوجد من يصادف ذلك في كثير من أوقاته، ويتعجّب من نفسه في ثباته واحتماله لقوّة طربه وسروره، وهذا ممّا لا يدرك إلاّ بالذوق، والحكاية قليلة الجدوى فيه.
الإشراق الخامس
حب التفرّد عن الخلق
لذّة معرفة الله والنظر إلى وجهه الكريم، والمطالعة لجمال الحضرة الربوبية، والشهود لأسرار الأمور الإلهيّة، ألذّ اللذات الباطنيّة من الرياسة والحكومة، وأعلى الشهوات الغالبة على أنفس الناس وخير الأرزاق الصوريّة والمعنويّة يرزق بها من يشاء من عباده المقرّبين وأوليائه الصالحين.
ولهذا ترى العارف الربّاني يؤثر التفرّد عن الخلق، والخلوة مع الحقّ، بالتبتّل والفكر والذكر على الدوام، ويترك الرياسة، ويستحقر الخلق، ويستهزئ بهم كما هم يستهزؤون به، لعلمه بفناء شهوتهم وانقطاع رياستهم وانفساخ أرزاقهم الصوريّة الحسيّة والخياليّة، وكونها مشوبة بالكدورات، منغضّة بالمزاحمات، مقطوعة بالموت الذي يهدم اللذات ويقطع الرياسات، ولا بدّ منه مهما
{ { أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } [يونس:24] - الآية - فتشغله - بالإضافة إلى هذه اللذات المحقّرات - لذّة الحكمة والمعرفة بالله، والمطالعة لصفاته وملكوت أفعاله، ونظام مملكته الآخذة من أعلى علّيين إلى أسفل السافلين، فإنّها خالية عن المزاحمات والمكدّرات، متسّعة للمتواردين لا تضيق عليهم بكثرتها، وإنّما عرضها من حيث التقدير عرض السموات والأرضين، لأنّه إذا خرج النظر عن عالَم المساحة والخلق والتقدير، فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنّة عرضها السماوات والأرض، يرتع في رياضها، ويقتطف من ثمارها وهو آمِن من انقطاعها إذ ثمار هذه الجنّة غير مقطوعة ولا ممنوعة، ثمّ هي أبديّة سرمديّة لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محلّ معرفة الله تعالى، لأنّ محلّه الروح الذي هو أمر نوارنيّ سماويّ وإنّم يغير الموت أحوالها، ويقطع أفعالها الدنيويّة وشواغلها وعوائقها ويخليها وعالَمها.
فأمّا أن يعدم ذاتها وصفاتها وكمالاتها الذاتيّة فلا، لقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } [آل عمران:169 - 170]. ولا تظنّن أنّ هذا مخصوص بالمقتول في المعركة، فإنّ للعارف بكلّ نفس درجة ألف شهيد.
وفي الخبر:
"إنّ الشهيد يتمنّى في الآخرة أن يُردّ إلى الدنيا ليقتل مرّة أخرى لعِظَم ما يراه من ثواب الشهداء" ، وإنّ الشهداء يتمنّون أن يكونوا من العلماء، لِما يرونه من علوّ درجة العلماء.
وفي الحديث أيضاً: إذا كان يوم القيامة توضع الموازين فيوزن مداد العلماء مع دماء الشهداء فيرجّح مداد العلماء على دماء الشهداء.
فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان الحكيم العارف، يتبوّء منها حيث يشاء، من غير حاجة إلى أن يتحرّك إليها بجمسه وشخصه، فهو من ملاحظة جمال الملكوت في جنّة عرضها كعرض السموات والأرض، وكلّ عارف فله مثلها من غير مزاحمة بينهم، إلاّ أنّهم يتفاوتون في سعة متنزّهاتهم بقدر سِعة معارفهم - وَهُمْ دَرجَاتٌ عِندَ الله - وهكذا حالهم في الدنيا وفي الآخرة قبل الموت وبعده، إلاّ أنّ الموت يزيدهم انكشافاً وظهوراً وجلاءً ووضوحاً لمعارفهم ومقاصدهم - فافهم واغتنم -.
الإشراق السادس
في تأكّد ما عند الله خير الخيرات وأبهج اللذات وأنّ كلّ لذة وبهجة تنظوي في إدراك ذاته وشهود صفاته
فإذا علمت أنّ لذّة العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألَذّ اللذات عند العارف الربّاني، فلا تتعجبّ من إيثاره هذه اللّذة على سائر اللذّات، واستيحاشه عن صحبة الخلق ومستلذّاتهم إلى حيث يصير، طرده الناس واستحقروه خصوصاً المشغوفين بالعقول الناقصة الدنيويّة، والعلوم الجزئيّة المعروفة عند الناس، التي توجب مراجعة الخلق لهم.
ولهذا قال بعضهم: إذا بلغ الرجل إلى غاية يستغرق في العلم بالله رماه الناس بالحجارة. أي يخرج كلامه عن حدّ عقولهم فيرون ما يقوله جنوناً.
وقصد العارفين كلّهم ملاحظة لقائه ومشاهدة ملكوته فقط، فهي قرّة أعينهم التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين، فصارت الهموم كلّها فيهم همّاً واحداً، بل من عرف الله عرف أنّ اللذات المغرقة بالشهوات المختلفة، كلّها تنطوي تحت هذه اللذّة، كما قال بعضهم:

كانت لقلبيَ أهواء مفرّقة فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده وصرتُ مولى الورى إذ صرتَ مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي

وقال بعضهم:

وهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنّته

فمن عرف الله انمحقت عنه الهموم والدواعي، سواء كانت من باب الدرهم والدينار، أو من باب الجنّة والنار، أو من باب البحث والتكرار والصيت والاشتهار، واضمحلّت عنه الشهوة والغضب وقهر تشويشهما، فغلبة المعرفة بالله مبدأ كلّ حبّ وطلب، فلا داعي له سوى الله جلَب منفعة أو دفَع مضرّة، فلو ألقي في النار لم يحسّ بها، ولو عرض عليه نعيم الجنّة لم يلتفت إليها، فكيف إلى هذه اللذات المخدجة.
ولهذا قال أمير المؤمينن (ع): ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
وقال بعض العرفاء: إن أدخلني الله الجنّة بمرادي فويل لي، وإن أدخلني النار بمراده فنعم الحبس.
وقال أبو سليمان الداراني: إنّ لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ورجاء الجنّة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟
وقال بعض إخوان معروف الكرخي له: أخبر أيّ شيء أهاجك إلى العبادة والتفرّد عن الخلق؟ فسكت.
فقال له: ذكر الموت؟
فقال: ذكر الموت؟ فقال له: وأيّ شيء الموت؟
فقال: ذكر القبر والبرزخ؟ فقال: أيّ شيء من هذا؟
فقال: خوف النار ورجاء الجنّة؟ فقال: وأيّ شيء من هذا -؟ فقال: إنّ ملكاً بيده هذه كلّها أن أحببته أنساك جميع ذلك. وان كانت بينه وبينك معرفة كفاك جميع هذا.
خاتمة
في ذكر نبذ من مواعظ حكميّة ونصائح قرآنيّة ينتفع بها من له قلب سليم، مأخوذة بعضها من كلام الله تعالى وأحاديث نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعضها من أقوال العرفاء ونصائح الحكماء في هذا الباب، طمعاً في أن يصير سبباً لتنبيه القلوب الراقدة في مراقد الغفلات، وباعثا على إيقاظ النفوس النائمة في مضاجع الجهالات وإن كان معلوماً أنّ أهل هذا العصر ممّن قال في حقّهم الشاعر:

وهل يُصلح العطّار ما أفسد الدهرُ

إلاّ أنّ أرض الله لا تخلو عن مؤمن تقيِّ وصالح نقي، وبلاد الله لا تكون ذات حبوب وثمار وأشجار لأجل الدواب والأنعام كالفرس والحمار، بل لا بدّ لوجود ذوي الألباب ليكون معاني صور هذا الكتاب.
قال الله تعالى ناصحاً لرسوله وحبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، هادياً له طريق الفلاح لتهتدي أمّته بهداه، ويتنوّر باطنهم بنور ورعه وتقواه:
{ { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [طه:131]. فنهى سبحانه رسوله عن النظر إلى متاع الدنيا وزهرة حياتها الفانية، كيلا تتلوَّث طهارة ذاته المجرّدة وعينه المقدّسة بكثافة مستلذّاتها وخبائث مشتهياتها.
وأمثال هذه الآية من الآيات والنصوص الدالّة على ذمّ الدنيا وتهجين أهلها، ومدح الآخرة وتحصين أهلها، أكثر من أن تحصى، مثل قوله:
{ { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ } [النجم:29 - 30].
وكقوله:
{ { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [الكهف:28]. إلى غير ذلك.
قال المولوي في المثنوي:

كفتن حق بارها به ييغمبر كه بدنيا وأهل أو منكر

وفي كتاب الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدنيا" .
ثمّ قال: حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا.
وعنه (ع) إنّه قال:
"من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطقَ بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءَها وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام" .
وعنه (ع): "جُعل الخير كلّه في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا" .
وعنه (ع) قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو محزون، فأتاه مَلَك ومعه مفاتيح خزائن الأرض، فقال: يا محمّد، هذه مفاتيح خزائن الأرض، يقول لك ربّك: افتح وخذ منها ما شئت، من غير أن تُنْقَصَ شيئاً عندي.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
"الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له" .
فقال الملك: والذي بعثك بالحقّ نبياً لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السماء الرابعة حين أُعطيت المفاتيح.
وروى الشيخ الجليل عماد الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني في هذا الكتاب مسنداً إلى جابر - رضي الله عنه - عن أبي جعفر (ع) حديثاً طويلاً في باب ذمّ الدنيا والزهد فيها ذكر فيه:
- يا جابر - الآخرة دار قرار، والدنيا دار فناء وزوال، ولكنّ أهل الدنيا أهل غفلة، وكأنّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يُصِمّهم عن ذكر الله - جل اسمه - ما سمعوا بآذانهم، ولم يُعْمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم.
- وفيه إشعار بأنّ الفقه ليس معناه - في عرف الأئمّة ولسان السابقين الأوّلين - هذه الصناعة المشهورة، بل العلم الذي يوجب الاستغراق في أمر الآخرة وأحوال الباطن، والإعراض عن الدنيا بالكليّة.
ثمّ قال فيه: - واعلم يا جابر أنّ أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة وأكثرهم لك معونة تَذْكُرُ فيعينونك وإن نسيت ذكروك قوّالون بأمر الله قوّامون على أمر الله، قطعوا محبّتهم بمحبّة ربّهم، ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم، ونظروا إلى الله - عزّو جلّ - وإلى محبّته بقلوبهم.
- ثمّ قال (ع): - فانزِل الدنيا كمنزل نزلته ثمّ ارتحلت عنه، أو كمالٍ وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، إنّي إنّما ضربت لك هذا مثلا لأنّها عند أهل اللبّ والعلم بالله كفيء الظلال.
وعن أمير المؤمنين (ع) في بعض خطبه: من عظمت الدنيا في عينه، وكبر موقعها في قلبه، آثرها على الله تعالى، فانقطع إليها، وصار عبداً لها، ولقد كان في رسوله الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كاف لك في الأسوة ودليل لك على ذمّ الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها إذ قبضت عنه أطراقها ووُطّئت لغيره أكنافها وفُطم عن رضاعها وزُوِي عن زخارفها.
وإن شئت ثنّيت بموسى كليم الله (ع) إذ يقول:
{ { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص:24] والله ما سأله إلاّ خبزاً يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل تُرى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذّب لحمه.
وإن شئت ثلّثت بداود (ع) صاحب المزاميز وقارئ أهل الجنّة، فلقد كان يعمل سفائِف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: "أيّكم يكفيني بيعها" ويأكل قرص الشعير من ثمنها.
وإن شئت قلت في عيسى (ع) [فلقد كان] يتوسّد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تُنبت الأرض للبهائم، ولم يكن له زوجة تفتنه ولا ولد يَحْزُنُه، ولا مال يَلْفِتُهُ، ولا طمع يذلّه، ودابّته رجلاه، وخادمه يداه.
فتأسَّ بنبيّك الأطيب الأطهر - صلوات الله عليه - فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، وعزاء لمن تعزّى.... قَضَمَ الدنيا قضماً، ولم يُعِرْها طَرْفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أنّ الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره، ولو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغّر الله ورسوله، لكفى به شقاقاً لله ومحادّة عن أمر الله.
ولقد كان - صلوات الله عليه - يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويُردِف خلفه، ويكون الستر على باب بيته، فيكون فيه التصاوير فيقول لإحدى أزواجه: "يا فلانة غيِّبِيه عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها" فأعرضَ عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحبَّ أن تغّيب زينتها عن عينه لكيلا يتّخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً ولا يرجو فيه مُقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده.
ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يدلّك على مساوي الدنيا وعيوبها إذ جاعَ فيها مع خاصّته، وزُوِيَتْ عنه زخارفها مع عظيم زلفته.
فلينظر ناظر بعقله: أكرم الله محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك أم أهانه؟!
فإن قال: "أهانه" فقد كذب والله العظيم، وأتى بالإفك القديم. وإن قال "أكرمه" فليعلم أنّ الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا، وزواها عن أقرب الناس منه فتأسّى متأسٍّ بنبيّه، واقتصَّ أثره وولج مولجه وإلاّ فلا يأمن الهلكة، فإنّ الله جعل محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) علَما للساعة، ومبشِّرا بالجنّة، ومنذِراً بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصاً، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجَرا على حجَر حتّى مضى لسبيله، وأجاب داعِي ربّه، فما أعظم منّة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتّبعه وقائداً نطأ عقبه.
والله لقد رَقَعْتُ مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت: أُغرُب عنّي فعند الصباح يَحْمَدُ القوم السُّرى. انتهى كلامه عليه من الله سلامه وإكرامه.
وفي كلام بعض الحكماء على طريق الرمز ما قال: لكلّ قهوة سكارى، ولكلّ بحر مغرقون، كم بين حاير في الظلمات زحزح عن نور الشمس، وبين حاير أغرقه ضوؤها في قربها الأقرب.
وقال أيضاً: بباب الحقّ قوم لا تشغلهم صدمات الأسباب، ولا يجزعون من البلاء، فإنّ البلاء صراط الله به عبرت قوافل الرجال، ولو سلكته لوجدت عليه آثارهم ولعرفت فيه أخبارهم، فكلّ أرض لم يصبها صيّب من المصائب أبت أن تنبت نبت النجاح.
وقال: إن تعبد الله حبّاً خير لك من أن تعبده خوفاً، فإنّ التعبّد بالتخويف دين اللئام.
وقال: نقِّش نفسك يا إنسان بأفضل ما يمكن، ونزّهها عن خبيثات الأمور، فإنّ قِيَمَ الموادّ بصورها.
وقال: أسلك سبيل الله أيّها الفكور بقلب يقظان، وقِفْ موقف التعظيم، واطلب بارئ الكلّ في القرب وإن كان في العلوّ الأعلى قهراً وشرفاً فقال أمر الله لا يتعطّل بما توانيت أيّها المتخلّف، ولكنّك تبقى عريّا عن الفضائل، مدّ عينك مدّا، وابسطها بسطاً، واترك الشاغلات من نبات الظلمة لترى القيّوم قائماً بالقهر على رأس الوجود كلّه بالمرصاد.
وقال: لا يترك أهل السيف الجاهلين أن يدنوا، ولا المرأة الشهويّة الملقية بالجسد في الطريق أن تشبّث بذيلك، وطوائف من النيران التي قلّ ضوؤها وكثر دخانها طفقت تنطفي بهبوب ريح زعزع كأنّ عبدة البطن والفرج في الدارين لُعِنوا لعناً يقطع أدبارهم، ويردهم إلى سواء البرزخ المشحون بالعذاب.
وقال يحيى بن معاذ: مثقال ذرّة من الحبّ أحبّ إليّ من عبادة سبعين سنةً بلا حبّ.
قال أبو القاسم القشيري: الشوق نار الله أشعلها في قلوب أوليائه، ويحرق ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات.
ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم، فقال: ما فعل أبو نصر التمّار وعبد الرحمن الورّاق؟ قال: تركتهما الساعة بين يدي الله يأكلان ويشربان. قلت: فأنت؟ قال: علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه.
وعن عليّ بن موفّق أنّه قال: رأيت في النوم كأنّي أدخلت الجنّة، فرأيت رجلا قاعداً على مائدة، وملَكَان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيّبات وهو يأكل، ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنّة يتصفّح وجوه قوم، فيُدخِل بعضهم ويردّ بعضاً، - قال: - ثمّ جاوزتهما إلى حظيرة القدس، فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى الله لا يطرق، فقلت لرضوان: مَن هذا؟ فقال: معروف الكرخي، عَبَدَ الله لا خوفاً من ناره ولا شوقاً إلى جنّته، بل حبّاً له فأباحه الله النظر إليه إلى يوم القيامة.
وقال: أبو سليمان: من كان اليوم مشغولا بربّه يكون غداً ناظراً إليه.
وقال الثوري لرابِعَةََ: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفاً لناره ولا حبّاً لجنّته، فأ:ون كالأجير السوء، بل عبدته حّباً وشوقاً إليه.
وقالت في معنى المحبّة نظماً:

أحبّك حبّين: حبّ الهوى وحبّاً لأنّك أهل لذاك
فأمّا الذي هو حبّ الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواك
وأمّا الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتّى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك

قال بعض أكابر العلماء في معنى نظمها: لعلّها أرادت "بحبّ الهوى" حبّ الله، لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظها العاجلة، وبحبه لانّه أهل له حبّه من حيث جماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبيّن وأقواهما، ولذّة مطالعة جمال الربوبيّة التي عبَّر عنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال حكاية عن الله: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا إذن سمعت" - الحديث -.
واعلم أنّ عباداً قد يعجّل لهم بعض هذه اللذات العلي - وهم بعد في حياتهم الدنيا - لأنّه قد انتهى صفاء قلوبهم ولطافة أذهانهم إلى الغاية، ولذا قال بعضهم: إنّي لأقول "يا ربّ يا الله"، فأجد ذلك أثقل على قلبي من الجبال، لأنّ النداء يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليساً ينادي جليسه؟
وحكي أنّ رجلاً جاء إلى أبي يزيد فقال: "بأيّ شيء أستعين على عبادة ربّي"؟، فقال: "بالله إن كنت تعرفه، لأنّ أدنى منازل العارف علمه بأنّه ليس به شيء من الحول والقوّة، فإذا علم بذلك، صارت الأشياء كلّها له؟".
وقال فضيل: مَن عرف الله حقّ معرفته صارت جميع حركاته طاعة، وجميع أنفاسه ذِكْراً، وجميع أحواله أنساً، وجميع إرادته هويّة.
وسئل بعض أصحاب القلوب عن حقيقة المعرفة فقال: طيران القلب في علّيين، وجولانه في حُجُب القدرة التي لا يعرفها إلاّ من أصمَّ أذنيه عن سماع الباطلات، وأعمى عينيه عن النظر إلى الشهوات، وأخرس لسانه عن التكلّم بالفضولات. وهو ما قيل في حقيقة المعرفة: والعارفون صمّ بكم عُمْي. وقيل: من عرف الله كَلَّ لسانُه ودهش عقلُه ودام تحيّره.
وقال بعضهم: إنّ للعارف ناراً ونوراً، نار الخشية ونور المعرفة، فالدنيا تبكي عليه بعين الفناء، والآخرة تضحك إليه بعين البقاء، فكيف يقدر الشيطان أن يدنو من ظاهره وباطنه إلاّ كالبرق الخاطف والريح العاصف، فيستعيذ بالله من الشيطان بعينه بلسان العبرة، وبنفسه بلسان الخدمة، وبعقله بلسان الفكرة، وبقلبه بلسان المحبّة، وبسرّه بلسان المؤانسة، فإن أتاه من قِبَل العين أحرقه نور العبرة، وإن أتاه من قِبَل النفس أحرقه نور الخدمة، وإن أتاه من قِبَل العقل أحرقه نور الفكرة، وإن أتاه من قِبَل القلب أحرقه نور المحبّة، وإن أتاه من قِبَل السرّ أحرقة نور المؤانسة. وهو إشارة إلى قوله تعالى:
{ { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر:42].
قال رويم للجنيد: "كم تنادي على الله بين يدي العامّة"؟ فقال: "أنا أنادي على العامّة بين يدي الله".
قال عبّاس بن يوسف: إذا رأيت رجلاً مشتغلاً بالله فلا تسأل عن إيمانه، وإذا رأيته مشتغلاً بالدنيا فلا تسأل عن نفاقه.
وقال رويم: قوم أفنوا أسرارهم بالحظوظ، وأفنوا أبصارهم باللحوظ، أنّى لهم إلى ذكر الحقّ سبيل.
قال حسين بن منصور: "بِسم الله" منك، بمنزلة "كُنْ" منه، فإذا أحسنت أن تقول: "بِسْم الله"، تحقّقت الأشياء بقولك: "بسم الله"، كما تحقّق بقوله: "كُنْ".