التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه إشراقات شمسيّة وأنوار قَمَريّة:
الأوّل: في اللّغة:
بَعَثَ في الأمّيّن يعني أرسله في العرب لأنّهم كانوا أمّة لا تكتب ولا تقرأ، ولم يبعث إليهم نبي - عن مجاهد وقتادة -.
وقيل: يعني أهل مكّة، لأنّ مكّة - شرّفها الله - تسمّى أمّ القرى.
وعن بعض المحقّقين من أهل الكشف: إنّ الرسول يسمّى بالأمّي لأنّه منسوب إلى أمّ الكتاب، أي اللوح المحفوظ، وبهذا الإعتبار تكون أمّته أمّيين، فهو رسول مبعوث من الله في الأمّيين مع كونه من جنس الآدميّين متعلّقا بقالب البشريّة المركّب من الماء والطين، ليمكن الوصول إليه والاجتماع بحضرته والاقتداء به والاستفادة من ذاته بجهة الحصّة البشريّة، والاستضاءة من أشعّة عقله المنوّر بوسيلة المشاركة الحسّية من ثقب إصطرلابات الحواسّ والعقول، والاستماع لتلاوة آيات الله القرآنيّة منه في عالَم المخاطبة الكلاميّة والمقارعة الهوائيّة.
نور قمري
خصائص النبي
بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كونه مأموراً بإصلاح هذا النوع الآدمي بواسطة استجماعه لشرائط الرسالة الإلهيّة، وخصاص السعادة الربانيّة من أوصاف شريفة كثيرة، ونعوت كريمة غفيرة، تشملها خصائص ثلاث متعلّقة بروحه ونفسه وحسّه:
أمّا الأولى: - وهي أشرف الجميع - فكونه مطّلعا على العلوم الإلهيّة عالما بحقائق الأشياء كما هي، من المبدأ الأعلى وملكوته العلوي والسفلي، وحقيقة النفس بكلا جزئيها العلمي والعملي، وكلتا نشأتيها الآخرة والأولى، وأحوال الخلائق في تلك الدار، ورجوع الكلّ إلى الواحد القهّار، علماً مستفادا من الهام الله بطريق الشكف الروحي والإلقاء السّبوحي، لا بوسيلة التعلّم البشري والتعمّل الفكري.
وأمّا الثانية: فكونه ذا قوّة باطنيّة بها تتمثّل له الحقائق بكسوة الأشباح المثاليّة في العالَم المتوسّط بين العالَمين، بل تسري قوّته إلى الحسِّ الظاهر، فهي تتشبّح له في هذا العالَم، فيشاهد الملِك الملقي عياناً، ويسمع كلام الله منه شفاها، بعبارات أنيقة وألفاظ فصيحة دقيقة المعاني، في غاية الفصاحة والسلامة والنفاسة، ويطلع بتعليمه والقائه على المغيبات الجزئيّة ويخبر عن الحوادث الماضية والآتية.
وأمّا الثالثة: فكونه ذا قوّة قويّة وبسطة شديدة، بها يقهر المعاندين والمنكرين ويتسلّط على أعداء الله وأولياء الشياطين، وذا مصابرة على الشدائد والامتحانات، واقتدار وتمكّن على تجهيز الجيوش وتثبّت في الحروب والمبارزات.
فمجموع هذه الثلاث من خاصية الرسالة، فأمّا آحاد هذه الخواصّ، فقد يوجد في غير الأنبياء بوجه، فإنّ الأولى ممّا تتحقّق في الأولياء والحكماء، وضرب من الخاصيّة الثانية توجد في أهل الكهانة والرهبانيين، والثالثة قد تكون في الملوك الشديدي البأس والهمّة.
إشراق شمسي
جامعية النبي للنشآت الثلاث
جوهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّه مجتمع من ثلاثة أشخاص عظيمة كلّ منهم رئيس مُطاع في نوعه، فبروحه وعقله يكون مَلَكا من المقرّبين، وبمرآة نفسه ولوح ذهنه يكون فَلَكا مرفوعاً عن أدناس العنصريين ولوحاً محفوظاً من مسّ الشياطين
{ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة:79]. وبحسّه يكون مَلِكاً من عظماء الملوك والسلاطين.
وتحقيق ذلك: أنّ النشآت ثلاث: نشأة الحسّ، ونشأة النفس، ونشأة العقل. والعوالِم ثلاثة بحسبها: عالَم الدنيا، وعالَم الآخرة، وعالَم الربوبيّة. والإنسان بحسب غلبة كلّ نشأة داخل في عالَم من العوالِم الثلاثة، فمن جهة حسّه ونفسه وروحه داخل في هذه العوالِم إمّا بالقوّة أو بالفعل، فبحسّه من جملة الدنيا وتحت جنس الحيوانات، وبنفسه من جملة الملكوت الأسفل، وبروحه من جملة الملكوت الأعلى، لكن الغالب على أكثر الناس نشأة الحسّ وموطن الدنيا
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ } [الكهف:88].
وأمّا جوهر النبوّة فله جامعيّة النشآت الثلاث، لكونه كامل القوى الثلاث الحسيّة والمثاليّة والعقليّة، فله السيادة العظمى والرئاسة الكبرى والخلافة الإلهيّة في العوالِم كّلها، فهو شارع ورسول ونبيّ، يحكم بالأوّل كالمِلك، ويخبر بالثاني كالفلَك، ويعلم بالثالث كالملَك. فافهم واغتنم.
إشراق آخر
الاستكمال العلمي النبوي
إمتنانه تعلى على الأمّة بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم كما يدلّ عليه قوله: رَسُولاً مِنْهُمْ -، وقوله تعالى:
{ { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ } [التوبة:128]. وقوله تعالى: { { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } [الأنعام:130]. للإشعار بأنّ هذه المرتبة الشريفة النبويّة من المراتب التي قد بلغت إليه النفس الإنسانيّة عند استكمال قوّتيها بالعلم والطاعة، وهي ممّا حصلت للنفس المحمديّة - عليه وآله الصلاة والتحيّة - بالأصالة، ولخواصّ أمّته وأولياء الله بالوارثة والتبعيّة، لقوله تعالى: { { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران:31] وقوله: { { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ } [النساء:69].
وفي الحديث:
"العلماء ورثة الأنبياء" .
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ في هذه الأمّة محدَّثون متكلّمون" .
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: "انّ لله عباداً ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء" .
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: "علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل " .
وفي الرواية: "قلب المؤمن عزلي" .
فأنت أيّها العالِم - ما لم تكن علومك مقتبسة من مشكاة النبوّة فلست بعالم بالحقيقة، بل بالتسمية المجازيّة، لدلالة قوله: { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }، بحسب مفهوم العكس على ذلك فافهم.
ومن لم يكن هاشميّاً بأن تكون ولادته المعنويّة - المعبَّر عنه عند الصوفية - بـ "الفتح" من جهة نسبته (صلى الله عليه وآله وسلم) لها، باعطاء صوَر المعارف الإيمانيّة لمادّة عقله، فليس مؤمناً حقيقيّا، لأنّ المؤمن الحقيقي من تكون روحه وليد القدس، ويكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أبوه المقدّس، بأن تحصل في مادّة عقله الهيولاني التي بمنزلة التراب صورة إعتقاديّة إيمانيّة بمنزلة صورة النطفة الآدميّة قابلة للتربية والتنمية بأغذية المقاصد العلميّة والمطالب القرآنيّة، وأشربة الأعمال والأفعال الشرعيّة، ونحن قد بيّنَا شرح هذه الولادة في مقامه، فالمؤمن الحقيقي من يكون من أهل بيت الرسالة الإلهية، متشبّها في أخلاقه بأخلاق أبيه المقدّس، وقوله تعالى:
{ { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج:78] وقوله في حقّ نوح (ع): { { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود:46] ينوِّر ما قرّرناه، وقوله (ع): "واشوقاه إلى لقاء الأشباه" يعطى ما ذكرناه.
إشراق آخر
فائدة البعثة
فائدة البعثة جسيمة، ونتيجة الرسالة التي قد منّ الله بها على المؤمنين في هذه الآية وغيرها مِنّة عظيمة، كقوله:
{ { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً } [آل عمران:164]. هي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويبيّن لهم أحوال الآخرة ويحلّ لهم الطيّبات ويضع عنهم إصْرهم والأغلال التي كانت عليهم، لأجل جهالة الهيوديّة وبلاهة النصرانيّة، اللتين كانتا مركوزتين في النفوس بحسب إفراطها وتفريطها في الصفات والأعمال، وخروجها في التشبيه والتنزيه عن جادّة الإعتدال الذي يكون لهذه الملة البيضاء والشيعة الغرّاء - على الصادع بها وآله أفضل تسليمات الله تعالى - كما دلَّ عليه قوله تعالى: { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقوله في سورة يس: { { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس:6].
وكأنّ قوله: { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } عطف تفسيريّ لقوله: { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ }، وشرح له، وبيان حاصل الأثر في تلاوة الآيات على سبيل الإجمال، فإنّ الغرض الأصلي من بعثة الرسول، وتلاوة الآيات على العقول، سياقتهم إلى رضوان ربّهم وهدايتهم إلى جواره الأطهر وملكوته الأنور.
وهي إنّما تناط بشيئين:
أحدهما: إصلاح الجزء العملي من الإنسان بالتصفية والتهذيب.
وثانيهما: تكميل جزئه العلمي بالتصوير والتقريب.
فالقرآن المنزل على سرّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوّلاً، وعلى قلوب أمّته ثانياً يجب أن يكون مشتملاً على أمور ثلاثة:
الأوّل: في الحكمة العمليّة المبينّة للأفعال والأعمال، الشارحة للأخلاق والآداب المفيدة للعبد قطع تعلّقه عن الأسباب، وترك التفاته إلى الدنيا وما فيها، والمعالِم الأدبيّة تثبت في القرآن على أبلغ وجه وآكده، كما أشار إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله:
"أدّبني ربّي فأحسن تأديبي" .
الثاني: في الحكمة العلمية والمعارف التي تبلغ إليه عقول العلماء والحكماء بقوّتهم الفكريّة، بتعليم الأنبياء والأولياء (ع) إيّاهم.
وهذان القسمان من العلوم والمعارف، التي يقع فيها الإشتراك لساير الكتب السماويّة مع القرآن، لكن يكون ما في القرآن أوثقها برهاناً، وأجلّها شأناً، وأرفعها رتبة، وأعلاها مأخذاً، وأقومها غاية، وإليه الإشارة بقوله:
{ { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء:9]. وبقوله: { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [النساء:26]. وقوله: { { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ } [المائدة:46].
الثالث: في الحكمة التي لا يبلغ إلى طورها إلاّ الخُلّص من أحبّاء الله وأوليائه الصالحين، وهي المشار إليها في قوله:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت:53]. وهذه الحكمة من خواصّ المحبوبين لله، كما أنّ الحكمتين الأوّليين من خواصّ المحبّين لله، وإليهم الإشارة في قوله تعالى: { { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54].
وفي الحديث القدسي:
"لا يزال العبد يتقرّب إليَّ بالنوافل حتّى أُحبّه...." .
تأييد عرفاني
مراتب الإيمان
إنّ مراتب الإيمان ثلاث: مرتبة العوامّ، ومرتبة الخواصّ وهم المحبّون، ومرتبة الأخصّين وهم المحبوبون. ولكلّ من هذه المراتب الثلاث علم وعمل.
فمرتبة العوام: أمّا من جهة العلم، فهي أن يؤمن بكلّ ما جاء به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل التسليم والطمأنينة القلبيّة إيماناً بالغيب. وأمّا من جهة العمل، فبأن يفعل الحسنات ويترك المعاصي والسيّئات طلبا لجزيل الثواب وتخلّصاً عن أليم العقاب.
وأمّا مرتبة الخواصّ: من حيث العلم، فهي أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأوليائه وبالبعث بعد الموت، وبالجنّة والنار، وبالقَدَر خيره وشرّه - كما ورد في الحديث ويعرف هذه المعارف الإيمانيّة والاعتقادات الأركانيّة كلّها بالبراهين النيِّرة القدسيّة والمبادئ الإلهيّة. وأمّا مرتبتهم من حيث العمل: فهي أنّ الله تعالى إذا تجلى لعبد بصفة من صفاته، خضع له جميع أجزاء وجوده وتبعه قواه ومشاعره، وآمنت بالكليّة بعد ما كان قلبه يؤمن بالغيب، ونفسه تكفر بما آمن به قلبه، إذا كانت النفس عن تنسيم روائح الغيب بمعزل، كما أشير إليه في الكتاب:
{ { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } [الأعراف:143] أي: جبل القلب - { جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ } [الأعراف:143] أي: موسى النفس - { { صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ } [الأعراف:143] - بعد رفع الحجب قال: - { { تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف:143]. وفي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أسلم شيطاني على يدي" ، تنبيه على هذا - فانتبه يا مسكين وانزعج من مرقد النائمين.
وأمّا مرتبة الأخصّين: فهي من حيث العلم والعمل إنّما تكون بعد رفع حجب الأنانيّة بتجلّي الحقّ بالصفات التمجيديّة والنعوت التقديسيّة، فإذا أفناه عنه بصفة الجلال، يبقيه بصفة الجمال، ويعيد إليه عقله وسمعه وبصره، فلم يبق له الأين والبين، وبقي في العين، فيُشاهد بنور الحقّ جميع الحقائق العينيّة، وينفذ نور بصره في أعيان الملك والملكوت والخلق والأمر، وفي هذه المرتبة يكون العلم والعمل شيئاً واحداً.
والإيمان في المرتبة الأولى غَيْبي، وفي الثانية عَيْنيّ، وفي الثالثة عيانيّ، وهذا كما كان حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج، فلمّا بلغ السدرة كان بَعْدُ في حيِّزْ الأين، فلمّا جذبته العناية من الأين إلى العين فأوحى إلى عبده ما أوحى، وهو المشار إليه بقوله تعالى:
{ { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [البقرة:285]. أي: من صفات ربّه وأفعاله، فآمنت ذاته بذاته، وصفاته بصفاته، وأفعاله بأفعاله، فصار كلّ وجوده مؤمناً بالله إيماناً عيانيّاً.
وفي هذا المقام أسرار عظيمة لا تحتملها العقول المجرّدة فضلا عن العقول الملابسة المغشّاة بغشاوة الوهم والخيال، وتشمئزّ عنها طبائع أهل التقليد والجدال - اللهمّ لا تجعل هذه الكلمات مضلّة الجهّال والأرذال، واجعلها سبباً لزيادة بصيرة أهل الكمال، وموجبة لانارة قلوب الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله العزيز المتعال -.
إشراق
ما يختص بالقرآن من بيان مراتب الإيمان
إنّك إذا علمت ما ذكرناه، من اشتمال القرآن على هذه المراتب الثلاث من الإيمان، وعلمت اشتراك سائر الكتب السماويّة معه في المرتبتين الأوليين، واختصاصه بالمرتبة الأخيرة، فقد أحطتَ علماً بأنّ أنزال القرآن - بما فيه - إكمال للدين وإتمام لنعمة الله على المؤمنين، وتحقّقتَ بمعنى قوله تعالى:
{ { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة:3]. - الآية - أي: جعلت الكماليّة في الدين من الأزل نصيباً لكم من بين جميع أهل الملل والأديان، وأتممت عليكم نعمة الإيمان العياني باظهار دينكم على الآديان كلّها في الظاهر والحقيقة جميعاً، ورضيت لكم الإسلام ديناً به تجازون وتثابون، وبه تتعاملون وتناكحون، فإنّ الإسلام في هذه الأمّة دين طريق به يوصَل إلى الإيمان الحقيقي، وهو بمنزلة الإيمان من سائر الأمم مع زيادة كماليّة لم تكن حاصلة من قبل لقوله تعالى: { { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران:85].
وذلك لأنّ حقيقة الدين، هي سلوك سبيل الله عزّ وجلّ بعدم الخروج عن هذا الوجود المجازي للوصول إلى الوجود الحقيقي، والإنسان مخصوص به من بين ساير الموجودات، ولهذه الأمّة اختصاص بالكماليّة في السلوك من بين ساير الأمم.
فالدين من عهد آدم صفيّ الله، كان في التكامل بسلوك الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - سبيل الحقّ إلى عهد نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع المسالك التي سلكها الأنبياء (ع) الماضون بأسرهم، فلم يتحقّق له الخروج أيضاً بقدم السلوك في الحركات الباطنيّة من الوجود المجازي بالكليّة، حتّى تداركته العناية الأزليّة لاختصاصه بالمحبوبيّة من بينهم، فبلغ من القُرب إلى الكماليّة في الدين - وهو سرّ "أو أدنى" -، فاستعَدّ لسعادة الوصول إلى الوجود الحقيقي بالإيمان العياني بعد الإيمان العيني والغيبي جميعا - وهو سرّ "فأوحى إلى عبده ما أوحى" - في الحقيقة قيل له في هذه الحالة: أكملْت لكم دينكم وأتمَمتُ عليكُم نِعمتي.
ولكن في حَجّة الوداع عند وقوفه بالجحفة، أظهر على الأمّة عند أظهاره على الأديان كلّها، وظهور كمالية الدين بنزول الفرائض والأحكام بالتمام، وتعيين الخلافة ونصب الإمامة لعلي (ع) والتنصيص عليه بإمامة المسلمين وإمرة المؤمنين.
وممّا يدلّ على ذلك، مشاهدة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنبياء (ع) في مقامات ملكوت السماء بحسب درجات قربهم إلى الله تعالى، وصعوده (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جميع مقاماتهم إلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى الغاية القصوى.
وكذا ما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال:
"مثَلي ومثَل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاَّ وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" فجعل الناس يتعجبون. يصحّح ما ذكرناه، وينوّر ما قرّرناه من مقامات الأنبياء، وتكامل بنيان الدين بهم، وكماليّته بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخروجه عن هذا الوجود المجازي بالكليّة، وتبعيّة خواصّ أمّته الذين هم خير أمّة أخرجت للناس، لانهم أخصّ خواصّ هذا النوع.
ويدلّ على هذا المعنى أيضاً:
"إنّ الأنبياء كلّهم يوم القيامة يقولون نفسي نفسي، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أمّتي أمّتي" ، لفناء الوجود وبقائه بالحقّ الودود. فافهم جّداً.
نور قمري
الحكمة وتقسيمها
المراد من الحكمة في هذه الآية إمّا العلم الصحيح، وإمّا الفعل الصواب، كما أن إطلاق الإنسان إمّا على الروح أو على البدن.
والروح أيضاً ذو وجهين: وجهُ إلى القدس وعالَم الآخرة، ووجهُ إلى البدن وعالم الدنيا. والعلم لتكميل الوجه الأوّل، والعمل لتكميل الثاني على وجهٍ يؤدّي نفعه إلى تكميل الأوّل، ونفس العمل لنفس البدن.
ويروى عن مقاتل انّه قال: تفسير الحكمة في القرآن يقع على أربعة وجوه:
أحدها: مواعظ القرآن: ففي النساء:
{ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [النساء:113] ومثلها في آل عمران.
وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، قوله:
{ { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم:12] { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ } [لقمان:12]. يعني الفهم والعلم، وفي الأنعام: { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ } [الأنعام:89].
وثالثها: الحكمة بمعنى النبوّة، وفي ص:
{ { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } [ص:20] يعني النبوّة، وفي البقرة: { { وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ } [البقرة:251].
واربعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، وفي النحل:
{ { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [النحل:125] { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269].
وأنت - يا حبيبي - إذا تأمّلت في جميع هذه الوجوه الأربعة وجدت مرجعها جميعا إلى العلم، بل لو نظرت في جميع موارد استعمالات لفظة الحكمة لم تجده خارجاً عن العلم بحقائق الأشياء، والعمل بموجبها - وهو التجرّد عن الدنيا وما فيها -، ولهذا قيل في حدّها: "إنّه التخَلّق بأخلاق الله"، أي: في الإحاطة بصور المجرّدات والتقدّس عن الماديّات.
وإليها الإشارة في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله:
"تخَلَّقوا بأخلاق الله" أي: تشبّهوا به في هذين الأمرين.
ثمّ اعلم أنّ الحكمة لا يمكن خروجها من هذين المعنيين، وذلك لأنّها كمال الإنسانيّة بلا شبهة، وكمال الإنسان منحصر في شيئين:
أحدهما: أن يَعرف الخير لذاته.
والثاني: أن يَعرف الخير لأجل العمل به.
فالمرجع بالأوّل إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني إلى الفعل العدل.
وكمال هذين الأمرين في نوع الإنسان مرتبة النبوة والولاية، وقد حكى الله عن إبراهيم الخليل وهو شيخ الأنبياء (ع) أنّه قال:
{ { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } [الشعراء:83] - وهو الحكمة النظريّة - { { وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [الشعراء:83] - وهو الحكمة العمليّة.
ونادى موسى ربُّه فقال:
{ { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ } [طه:14] وهو الحكمة النطريّة، ثمّ إنّه قال: { { فَٱعْبُدْنِي } [طه:14] وهو الحكمة العمليّة.
وقال عيسى (ع) كما حكى الله عنه:
{ { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } [مريم:30] - الآية - كلّ ذلك الحكمة النظريّة، ثمّ قال: { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم:31] وهو الحكمة العمليّة.
وقال الله سبحانه آمراً لِرسوله الخاتم وحبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم): فاعْلمْ أنَّهُ لاَ إلهَ إلاَّ الله - وهو الحكمة النظريّة، ثمّ قال:
{ { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [محمد:19].
وهو الحكمة العمليّة. لأنّ علم التوحيد لا يحصل بكماله إلاّ بعد الإطّلاع على جميع أبواب الحكمة النظريّة، والعمل الخالص من شوب أغراض النفس، لا يتيسّر إلاّ بأن يكون الإنسان حكيماً عارفاً بأنّ ما عند الله خير للأبرار.
وقال في حقّ جميع الأنبياء:
{ { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ } [النحل:2] وهو الحكمة النظريّة، ثمّ قال: { فَٱتَّقُونِ } [النحل:2]. وهو الحكمة العمليّة، والقرآن مملوء من الآيات الدالّة على أنّ كمال الإنسان ليس إلاّ في تكميل هذين الجزءين من النفس بهاتين الحكمتين.
وقال أبو مسلم: الحكمة "فِعُلَة" من "الحُكم" كالنِحلَة من النحل، ورجل حكيم: إذا كان ذا حِجى ولبّ وغصابة رأي، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل. ويقال: أمر حكيم، أي: مُحكَم. وهو "فعيل" بمعنى مفعول، كما قال الله تعالى:
{ { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان:4].
وهذا الذي ذكره أبو مسلم من اشتقاق اللغة، يناسب ما ذكرناه من معناه الحقيقي.
إشراق
معلم الحكمة ومفيضها
إعلم أنّ معلّم الحكمة غير مُفيضها وموجدها في النفس، ومخرِجها من القوّة إلى الفعل، وذلك لأنّ القواطع البرهانيّة دالّةُ على أنّ فيّاض المعارف على النفوس هو الله سبحانه، باستخدام بعض ملائكته العلوية البرئية من كلّ وجه عن القوّة والاستعداد، وملابسة الأجسام والموادّ، كما أنّ الباري جلّ مجده مُبَرّء من جميع الوجوه عن الإمكان وملابسة الماهيّات لأنّه محض وجوب بلا إمكان، ووجود بلا ماهيّة، فالمنذِر والمعلِّم هو النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والله الهادي لمن يشاء، الفيّاض على قلوب عباده بصورة الأشياء كما يدلّ عليه قوله:
{ { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [البقرة:272].
وتوضيح ذلك: انّ الحكمة ان فسَّرناها بالعلم، لم تكن من العلوم الضروريّة لأنّها حاصلة للبهائم وعامّة الناس والمجانين والأطفال، وهي لا توصف بأنّها حكماء، فهي لا محالة مفسّرة إمّا بالعلوم النظريّة مطلقاً، أو بصفة تكون مبدأ الأفعال الحسنة نظراً إلى قسميها، فإنّ الغاية في أحد قسميها نفس تلك العلوم، وفي الآخرة تحصيل الخُلُق الجيّد، والمَلكة الملكيّة، وعلى أيّ التقديرين، فيلزم أن تكون صورة العلوم النظريّة ومنشأ الأفعال الحسنة حادثة في نفس الإنسان واردة عليه من خارج، فيكون حصولها في نفسه بتأثير مؤثر خارج عن ذاته، إذ الشيء لا يتأثّر عن نفسه، وأيضاً: لا يكون الشيء أشرف من ذاته وأعلم منها.
فذلك المؤثر الخارجي يجب أن يكون عليما حكيما عاقلا بالفعل لا بالقوّة، وإلاّ لافتقر أيضاً إلى ما يُخرجه من القوّة إلى الفعل، ومن النقص إلى الكمال، وهكذا حتّى يلزم وجود العقل الفعّال المبدأ للاستكمال دفعاً للدور والتسلسل، والمبدأ الفعّال للكلّ هو الذات الإلهيّة البريئة عن شوب الإمكان والزوال بالكليّة، فقد ثبت أنّ الحكمة نور فائض من الحقّ الأوّل على قلب من يشاء من عباده، وإليه الإشارة بقوله:
{ { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [الحديد:21].، يشير إلى أنّ ما يفيضه ويؤتيه لخواصّ عباده، رشحة من رشحات بحار علمه، ولمعةُ من لمعات أنوار حكمته اللامتناهية.
تنبيه
تأمّل - أيّها العارف - إنّ الله تعالى ما أعطى لعباده إلاّ القليل من العلم، لقوله:
{ { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء:85]. وسمّى الدنيا بحذافيرها قليلاً: { { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } [النساء:77].
ثمّ قال في العلم الموهوب لعباده:
{ { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [الجمعة:4] وقال أيضاً: { { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269].
فانظر كم هو مقدار هذا القليل حتّى تعرف عظمة ذلك العظيم الكثير.
والبرهان العقلي أيضاً يطابقه، لأنّ الدنيا بأسرها متناهية المقدار، ومتناهية العدد، ومتناهية المدّة، والعلم لا نهاية لمراتبه وعدده ومدّة بقائه، والسعادات الحاصلة منه، وذلك دالّ على فضيلة الحكمة.
وهمٌ وإزاحة
لا تدل الآية على مذهب الجبر
استدلّ صاحب التفسير الكبير بمثل هذه الآية وبمثل قوله تعالى:
{ { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269]. على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.
وذلك الاستدلال فاسد، فإنّ الحكمة نور من أنوار الله، وهي ليست من فعل العبد أصلاً، وإن كان حصولها وفيضانها من الله ممّا يتوقّف على تصفية بيت القلب بمكناس الرياضة، وتطهيره بإزالة الأوهام الباطلة وإزاحة العقائد الفاسدة بالتأمّلات والتفكّرات الموافقة لصورة الحقّ، وهي من جملة الحركات الاختياريّة النفسيّة، والأعمال البشرية القلبية المعدّة لورود أشعّة نور الله تعالى، ولا اختيار للعبد إلاّ في مثل ما ذكر، وأمّا في وقوع نور الحكمة في قلبه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا اختيار لأحد فيه، إلاّ أنّ الغالب عدم تخلّف ذلك النور عن قلب العبد المجاهد الصبور مع شرائط الحضور. اللهمّ إلاّ أن تفسّر الحكمة بنفس الأفعال الحسنة وهو ليس بصحيح، وإلاّ لكان كلّ فعل حسَنٍ حِكمة، وكلّ فاعل يفعل فعلاً حسناً حكيماً - وإن كان من المجانين والسفهاء - بل المراد من الحكمة - كما وقعت إليه الإشارة - إمّا نفس العلوم الحقيقيّة، أو الخُلق الذي هو منشؤها، أو الملكة الصادرة عنها الأفعال على وجه الصواب، وعلى أيّ وجه من هذه لم تكن الحكمة من الأفعال البشريّة، بل تكون إمّا من الكيفيّة النفسانيّة، أو الجوهر المفارق. - تأمّل -.
فتلك الآية وأمثالها ما دلّت إلاّ على أنّ الحالة النفسانيّة مخلوقة للحقّ، ولا نزاع لأحد من أهل الكلام فيها، ولا دلالة فيها على أنّ أفعال البشريّة مخلوقة له تعالى من غير اختيار للعبد فيها.
وتحقيق هذه المسألة العظيمة التي فيها مزلّة الأفهام ومزلقة الأقدام، ممّا يحتاج إلى بسط في الكلام لا يليق بهذا المقام، وظنّي أن لا ثلمة في الإسلام أكثر ممّا وقع من جهة الإفارط والتفريط في هذا المرام فكم من مقصّر وغالٍ فيه، وما أشد سخافة ما ذهب إليه أصحاب أبي الحسن من الاعتقاد بخلق الأفعال في العباد على الوجه الذي صوّروه وتصوّروه واعتقدوه، إذ بها تنسدّ أبواب المعرفة والحكم وتنفسخ الإعتقادات البرهانيّة وتطبل الغايات والنتائج العقليّة المبتنية كلّها على إثبات الترتيب والعليّة والمعلوليّة بين الموجودات، ووجود سلسلة الأسباب المؤدّية إلى الغايات.
وأمّا ما تنوّرت به قلوب المهتدين بأنوار حكمة الأنبياء، وذهب إليه المحقّقون من أكابر الحكماء، من كون الوجود على الإطلاق فائضاً من الحق على كلّ موجود لا بالإتّفاق، بل بترتيب لازم واستحقاق ثابت، فما تقدّم متقدّم ولا تأخّر متأخّر إلاّ بقضاء سابق وقدَر لاحق، فهو الحقّ الذي لا محيد عنه، وهو معنى التوحيد في الأفعال مع إثبات الحكمة والمصلحة والنظام من غير اختلال، وتحقيق هذا فوق ما تصل إليه أذهان الأشاعرة وأهل الاعتزال - فسبحان من تنزّه عن الفحشاء، وسبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء -.
وبحث وتحصيل
المقصود من الحكمة ليس القرآن أو النبوة
فإن قيل: لِم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة المستعملة في عدّة مواضع من القرآن، إمّا النبوّة، أو القرآن، أو قوّة الفهم، أو الخشية - على ما هو قول الربيع بن أنَس -؟
قلنا: الدليل المذكور يدفع هذه الاحتمالات، لأنّه ثبت بالنقل المتواتر، أنّه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء، فتكون الحكمة مغايرة للنبوّة، والقرآن، ولو كانت بمعنى قوّة الفهم، لكان كلّ قويّ الفهم حكيما، وكذا لو كانت بمعنى الخشية لكان كلّ خاشٍ حكيماً، وليس كذلك.
وأمّا الخشية الكاملة التي لا تتحقّق إلاّ في الحكماء، كما يدلّ عليه قوله:
{ { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]. فهي أيضاً من لوازم الحكمة وليست نفسها، لأنّها معللّة بالعلم والحكمة كما يدلّ عليه تعليق الحكم بالوصف، ثمّ إنّ الخشية الموجودة فيهم ليست خشية العقاب، بل خشية القرب، فكيف تتحقّق إلاّ بعد المعرفة التامّة والحكمة الكاملة، فمن فسَّر الحكمة بالخشية، فكأنّه أراد به تفسيرها باللاّزم والأعمّ أو المساوي - فافهم -.