التفاسير

< >
عرض

وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه ظلال فَرْشيّة وإشراقيات عَرْشيّة.
ظلّ فَرْشي
في الإعراب
قوله: { وَآخَرِينَ } صفة لمجرور معطوف على الأمّيين، يعني إنّه بعث في الأمّيين، وفي من يجيء بعدهم إلى يوم الدين. وفي الكشّاف: يجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في "يُعلِّمهم"، أي: يعلّمهم ويعلّم آخرين، ووَجّه ذلك بأنّ التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كلّه مستندا إلى أوّله، فكأنّه هو الذي تولّى كل ما وجد منه.
واعلم أنّ هذا الوجه الذي ذكره في كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معلّما لكلّ من يجيء إلى يوم القيامة - وإن كان موجّها على طريقة أهل الحجاب وأرباب العقول النظريّة وحَمَلة الكتاب، كقول أصحاب الحكمة الرسميّة في أرسطو: إنّه معلّم أوّل لمن يجيء بعده من أتباع المشّائين من الفلاسفة -، إلاّ أنّ أصحاب العيون المكحلة بأنوار الإهتداء، العارفين بحقيقة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، يرون ببصيرتهم السليمة عن غشاوة الامتراء، أنّ إمداد روحه وسرّه نافذ في تقويم أرواح من لحقه من الأولياء والعلماء، إلى قيام المهدي (ع)، بل في أرواح من سبقه زمانا من الأنبياء والحكماء من وقت آدم من جهة السبب الباطني الفاعلي والغائي جميعا. وقد بيّن هذا في موضعه.
إشراق
المراد من الآخرين قيل: هم الذين لم يلحقوا بالأمّيين بعد وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة من التابعين.
وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة، فإنّ الله سبحانه بعث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم، وشريعته تلزمهم وإن لم يلحقوا بزمان الصحابة - عن مجاهد وابن زيد -.
وقيل: هم الأعاجم ومن لا يتكلّم بلغة العرب، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوث إلى من شاهده، والى كلّ من بعدهم من العرب والعجم - عن ابن عمر وسعيد بن جبير وهو المرويّ عن أبي جعفر (ع) -.
وقيل:
"لمّا نزلت هذه الآية، قيل: مَن هم يا رسول الله؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال: لو كان الإيمان في الثريّا لناله رجال مِن هؤلاء" .
وعلى هذين الوجهين فإنّما قال: "مِنهُم" لأنّهم إذا أسلموا صاروا منهم، كما قال: "المسلمون كلّهم يد واحدة على مَن سواهم وأمّة واحدة وإن اختلفت أنواعهم" وكما قال سبحانه: { { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [التوبة:71]. ومن لم يؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فانّهم ليسوا ممّن عناهم الله بقوله: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } - وإن كان مبعوثاً إلى كافّة الخلق بالدعوة، وبقوله: { { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [آل عمران:164] - فإنّ من لم يؤمن لم يكن ممن زكّاه الله تعالى وعلّمه القرآن والحكمة.
وقيل: إنّ قوله لمّا يلحقوا بهم - يعني في الفضل والسابقة، فإنّ التابعين لا يدركون سيادة السابقين من الصحابة وخيار المؤمنين - تأمّل -.
إشراق عرشي
تحقيق الكلام وتلخيص المرام في هذا السبق واللحوق: أنّ الناس في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيّين والكتب والأئمّة والدنيا والآخرة وعالَم البرزخ - وغير ذلك - على ثلاث طبقات:
لأنّهم إمّا أن ينالوا ذلك بإلهام الله ووحيه من غير تعليم بشريّ أصلاً، أم لا. فالأوّل مرتبة الأنبياء - صلوات الله عليهم -. واما الثاني فلا يخلو، إمّا أن يصلوا إلى مقام الاستفاضة من الله بحسب التابعية بلا تعمّل فكريّ أم لا. فالأوّل مرتبة الأولياء ذوي الاستبصار والثالث مرتبة الحكماء والعلماء النظّار.
وأمّا أهل التقليد: فهم بمعزل عن البلوغ إلى حقيقي الإيمان، بل إنما يصلون إلى شبَح منه، فينالون في الآخرة ضرباً من رحمة الله وتفضّله بحسب ما تصوّروه من هذه المعارف على سبيل التمثيل وبحكم: "مَن تشبَّه بقوم فهو منهم". يحشرون في القيامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين، فحياتهم الأخروية بالعرض كحياة الشَعر والظفر من الإنسان، فإنّ الحياة القائمة بنفس الإنسان وروحه تسري في أعضائه الحسّاسة قصداً وفي غيرها تبعاً.
إذا تقرّر هذا فنقول: السابقيّة في الإيمان هي مواضع من القرآن - كقوله:
{ { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة:10 - 11] إشارة إلى مرتبة أولياء هذه الملّة في الإيمان واللاحقيّة فيه إشارة إلى مرتبة علمائها قبل وصولهم إلى مرتبة الكشف والعيان، وهم المشار إليهم بأصحاب اليمين، وأمّا مجرّد السابقيّة واللاّحقيّة بين المؤمنين في الزمان، فليس فيه كثير تفاضل بحسب نفس الأمر، وقد تعاظم وتقدّس كتاب الله عن أن يعتبر فيه تقادم الأزمنة والآجال بين الناس في تفاضل أحوال الرجال، بل يجب أن يكون ملاك الأمر في ذلك تفاوت القرب والبُعد من الحقّ المتعال، ودرجات شدّة انقطاع النفس عن هذه الدنيا الفانية منزلة الجهّال والأرذال.