التفاسير

< >
عرض

مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه إشراقات:
الأوّل
في الغرض المسوق إليه هذا التمثيل
إنّ الله تعالى قد مثّل الذين حُمّلوا الكتب السماويّة وكُلّفوا القيام بها والعمل بموجبها، وهم لم يحملوها حقّ حملها من أداء حقّها، ولم يتدبّروا فيها ولم ينظروا بعين الاستبصار والاعتبار، بل حفظوها بالتكرار لفظاً، ودوّنوها في الأسفار لأغراض عاجلة لهم في هذه الدار، ثمّ لم يعملوا بما فيها، بالحمار الذي يحمل أسفارا، لأنّ الحمار الذي يحمل كتب الحِكمة على ظهره، لا يشعر بما فيها، فمثَل من يحفظ الكتاب ولا يدرك أسراره ومعانيه فلا يعمل بمؤدّاه ومقتضاه، كمثَل دابّة تحمل على ظهرها الكتب - لا تعلم بما فيها -.
قال ابن عبّاس: فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به.
وعلى هذا، فمن تلا القرآن ولم يفهم معناه، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، فكان حَرِياً بهذا المثل، وكذا من تدبّر في إعراب إلفاظه ودقائق عربيّته ونكاته البديعيّة، وهو بمعزل عن أسرار حكمته ومقاصده الأصليّة من المعارف الإلهيّة، والعلوم الربّانيّة، وأسرار المبدأ والمعاد وعلم الروحانيّين والملائكة والشياطين، وكيفيّة الوحي والتنزيل، وعلم النفس ومعرفة الروح، وورودها إلى هذا العالم، وردّها إلى أسفل سافلين، ثمّ عودها ورجوعها إلى باريها ومبقيها إمّا راضية مرضيّة إن آمنت وعملت الصالحات، أو ناكِسة منكوسة منحوسة محجوبة مظلمة إذا جحدت وعملت السيئّات، وكيفيّة نشو الآخرة من الدنيا، وأحوال القبر والبعث والحشر والنشر، إلى غير ذلك من المعارف التي هي الغرض الأصلي من إنزال الكتاب والوحي والإلهام والخطاب.
فلمن لم يطّلع من القرآن إلاّ على تفسير الألفاظ وتبين اللغات ودقائق العربيّة والفنون الأدبيّة، وعلم الفصاحة والبيان وعلم بدائع اللسان، وهو عند نفسه انّه من علم التفسير في شيء، وانّ القرآن انّما انزل لتحصيل هذه المعارف الجزئيّة، فهو أحرى بهذا التمثيل ممّن لا خبر له أصلا، لا من إعراب الألفاظ ولا من حقائق المعاني، مع اعترافه بعجزه وقصوره.
وممن أَنشد في هذا الباب شعراً أبو سعيد الضرير حيث قال:

زوامل للأسْفار لا علم عندهم بجيّدها، إلاّ كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري المطيُّ إذا غدا بأسفاره إذ راح ما في الغرائر

وفي قوله: بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله -، تنبيه بليغ على كليّة هذه القضيّة، وحقّية هذا المَثل، من غير اختصاصها بشأن اليهود الذين كذّبوا بالآيات الدالّة على إعجاز القرآن، وجلالة قدر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كلّ من جحد ما وراء فهمه، وأنكر ما سوى ما أخذه من معلّميه وأشياخه على غير بصيرة، أو وصل إليه من ظواهر النقول والروايات، فهو حقيق بهذا التمثيل، بالقياس إلى ما جحده وأنكره عند التحقيق.
الإشراق الثاني
المقصود من المثَل
إنّ قوله: بئس مَثَل القوم الذين كذّبوا بآيات الله -، معناه: بئس القوم قوم مثلَهم هذا، لأنّ اليهود إنّما صاروا مذمومين مطرودين عن باب الله، لإنكارهم حقيّة الرسول، وإعراضهم عن مطالعة آيات الله، وجحودهم لما سمعوا من الحقائق الإيمانيّة والمعارف الربّانية التي لم تبلغ أفهامهم إليها من قبل، ولم تُسْمَع من شيوخهم الماضين ومعلّميهم وآبائهم السابقين كما حكى الله عنهم بقوله:
{ { مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } [المؤمنون:24] - الآية -.
وكلّ مَن هذا صفته بالنسبة إلى أهل الحقّ وأصحاب الحكمة القرآنيّة في وراء معلومه وفوق مفهومه، من الإعراض والإنكار اغتراراً بظواهر الآثار وما سمعه وتلقّفه من أشياخه ومعلّميه، أو إعجاباً بما حصَّله بالبحث والتكرار من غير استكشاف واستبصار، فهو داخل في هذا الحكم، ومكذَّب لأيات الله بالحقيقة، لأنّ مقاصد أهل الله هي بعينها معارف الكتاب والسنّة، وهو حَرِيّ بهذا التمثيل، لأنّه - وإن لم يكن يهوديّ النِحْلة - لكنّه يهوديّ الخصلة.
فكما أنّ القدريّة مجوس هذه الأمّة، فالظاهريّة والمشبّهة يهود هذه الأمة، والباطنيّة نصرانيّو هذه الأمّة، فإنّ جميع المذاهب القديمة توجد في أمّة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) بواحد يزيد عليها - وهي الفرقة الناجية - والباقون في النار، كما دلّ عليه الحديث المشهور. وهذه الفرقة الناجية في غاية الخمول والخفاء والندرة والإنزواء.
الإشراق الثالث
المؤمن الحقيقي هو العارف الرباني
إنّ المؤمن الحقيقي من يكون من الحكماء الإلهيّين والأولياء الربّانييّن، وإنّ غيرهم إمّا من أهل الإغرار وحَمَلة الأسفار، ومتحمّلة الأوزار، المنسلخين عن الفطرة الأصليّة كالحمار، المقيّدين بسلاسل تعلّقات هذه الدار، لا يهديهم الله لظلمهم وفسادهم سبيلاً للارتقاء إلى دار القرار، ولا يوفّقهم للنجاة من منازل الأشرار ومهاوي الفجّار إلى عالَم الأسرار ومعدن الأبرار.
وإمّا من أهل السلامة والتسليم، والطاعة والانقياد من غير جحود ولا إنكار ولا استنكار، لبقائهم على فطرتهم الأصليّة، ونقاء صحائف خواطرهم وأذهانهم عن نقوش الأقاويل المظلمة المضلّة، فهم من أهل الرحمة والنجاة، الذين ينالهم ضَرْب من الرحمة الواسعة التي وسعت كلّ شيء.
والدليل على ما ادّعيناه، من كون المؤمن الحقيقي هو العارف الربّاني والحكيم الإلهي، ممّا يستفاد من هذه الآيات على أتّم وجه وأوضحه، فإنّ ما ذكره تعالى في علّة البعثة وغاية الرسالة من قوله:
{ { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [الجمعة:2] - يدلّ دلالة واضحة على أنّ نتيجة البعثة دعوة الخق إلى العلم والحكمة، وأنّ الإيمان بالله والرسول عبارة عن تعلّم الكتاب والحكمة بالحقيقة لا بالمجاز، وإلاّ لكان الإيمان إيماناً بالمجاز، فيكون المؤمن المجازي مسلوباً عنه الإيمان الحقيقي، كما هو قاعدة إطلاق اللفظ على سبيل المجاز.
فثبت أن الإيمان الذي كون فائدة البعثة وثمرة إنزال القرآن، عبارة عن صيروة كون العبد المسلم حكيما عارفاً بحقائق ما في الكتاب، - لا بمجرّد حفظ الألفاظ وتكرارها، ولا بمجرّد تفسير العربيّة ونكاتها البديعيّة - فإنّ معرفة ألفاظ العرب ودقائق علم البيان، ليس من مقصود علم القرآن من شيء، بل المقصود سياقة الخلق إلى جوار الله بالعلم بحقائق الأشياء، والتجرّد عن علائق الدنيا، وهو لا يحصل بمجرّد الاطّلاع على علم العربيّة والكلام، والقرآن إنّما نزل بلغة العرب ليكون أوضح دلالة وأفصح بيانا، إذ لا يكون في دقّة الألفاظ وغرابة أبنية الكلام فائدة يعتدّ بها كما دلّت عليه آيات كثيرة مثل قوله تعالى:
{ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [يوسف:2] وقوله: { وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل:103].
الإشراق الرابع
طهارة القلب واستكماله بفضل الله
ثمّ لمّا بيّن فائدة البعثة وثمرة الرسالة - وهو تزكية الأمّة بإصلاح الجزء العملي من نفوسهم ليكونوا صلحاء حلماء، وتعليمهم الكتاب والحِكمة بتكميل الجزء العمليّ منها ليكونوا علماء حكماء -، أشار إلى أنّ طهارة القلب عن رذائل الصفات، واستكماله بمعارف الآيات الإلهيّات، من فضل الله يؤتيه من يشاء، أي لا بدّ فيه من سابقة عناية أزليّة، وهداية إلهيّة، وجذبة ربّانيّة لا يوازيها عمل وكسب، وهي من الحكمة التي من يؤتَها فقد أُوتي خيراً كثيراً، يعني أنّ ذلك مزيّة نوارنيّة ونعمة روحانيّة لا تناط بكثرة التكرار آناء الليل وأطراف النهار، ولا بحمل الكتب والأسفار، لا بطول المراجعة إلى أهل الاشتهار والتبسّط في البلاد والديار طلباً لحطام هذه الدار، كما هو عادة المشتغلين بكسب الشيخوخة ورياسة المذهب، وشيمة طلاّب الافتخار قصداً للجمع والإكثار، مع اشتباه واغترار بأنّ ما فهمه من علم الدين وأسرار اليقين.
ومنشأ هذه الغلظة وبذر هذا النفاق، هو حبّ الجاه الذي يعمي القلب عن رؤية الحقائق، ويصمّ السمع عن الشعور بغير ما يتوسّل به إلى تحصيل المنزلة عند الناس، فإنّ من غلب على قلبه حبّ الجاه وميل الثروة، صار مقصور الهمِّ على مراعاة الخلق، ولا يزال في أقواله وأفعاله، وتحصيله ظواهر العلوم واتيانه بصور العبادات والخيرات، متلفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وربما يهمّ ويشتهي أن يجمع الدنيا مع الدين، ويراعي الخلق مع الحق بظنّه الفاسد وطمعه الكاسد، انّ ذلك أمر ممكن.
ولا يدري الجاهل المسكين أنّ ذلك بذر النفاق، ومادّة الفساد، وسبب الجحود والعناد في العلوم، ومنشأ المراءاة في النسك والعبادات للتوسّل بها إلى اقتناص القلوب وجلب خواطر الخلق. ثمّ لا يدري السفيه أنّ مَن أراد أن يجمع بين الدين والدنيا صار في آخر الأمر بحيث لا دين له ولا دنيا.
على أنّ الدنيا لا حقيقة لها عند العقلاء، بل هي من قبيل الأوهام والأحلام وصورة المرايا والظلال.
وقد شبّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حبّ الجاه والشرف وافسادهما للدين بذئبين ضاريين - كما هو المرويّ عنه في كتب العامّة والخاصّة -.
وهذا الحديث روي عن بعض ساداتنا المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين - في مدح صفوان بن يحيى حيث قال: ما ذئبان ضاريان قد وقعا في غنم غاب عنها رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من حبّ الرياسة لكن صفوان لا يحبّ الرياسة.
وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّه قال:
"حبّ الجاه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقلَ" .
فعلم أنّ حبّ الجاه والشهرة من المهلكات التي لا يمكن النجاة لأحد منها، وإهلاكه وإفساده للمغترّين بظواهر العلوم أشدّ وأكثر من إهلاكه للمتغرّين بظواهر الأعمال، بقدر التفاوت بين قبح الكفر الذي هو ضرب من فساد العلم، وبين الفسق الذي هو ضرب من فساد العمل، ومن الأمور الواضحة المستبينة عند أرباب الإطلاع على كيفيّة تحصيل المعارف اليقينيّة، أنّ حبّ الجاه وحبّ التكبر يحجب القلوب عن مطالعة الآيات ومشاهدة الحقائق، كما قال الله تعالى: { { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [الأعراف:146].
ثمّ انظر أنّه تعالى كيف أشار إلى أنّ المؤمنين هم أولياء الله والحكماء والإلهيّون، وأنّ المتغرّين بظوهر الآثار من الفجّار والمنافقين حيث أثبت أولاً أغراض الرسالة وفائدة البعثة، وأنّهما تصفية القلوب من الجهل والرذائل، وتكميلها بعلم الكتاب والحكمة التي هو رئيس الفضائل.
ثمّ ضرب الله مثلاً لليهود ومَن يجري مجراهم الحمار في حملهم الكتب والأسفار، وتركهم التدبّر والإعتبار، وإنكار ما ورد من آيات الله على ألواح أنبيائه، وجحود ما قذف من أنوار الله في قلوب أوليائه وأحبّائه.
ثمّ أشار بعد لك إلى بطلان زعمهم وفساد ادّعائهم انّهم من أولياء الله وأحبّائه، أنّهم لو كانوا كذلك لوجب أن يعرضوا عن الدنيا وطيّباتها ويحبّوا الموت، لكونه وسيلة إلى لقاء الله، ولا يكونوا أحرص الناس على حياة هذه النشأة الجسمانيّة، وحيث إنّهم كانوا على أضداد صفات أولياء الله والحكماء، فقد علم أنّهم من أعداء الله تعالى، المنكرين للدار الآخرة وعالَم الغيب وعالَم الأرواح، الكارهين لقاء الله، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءَه لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون. كلاّ إنّهم يومئذ عن ربِّهم لمحجوبون.
{ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين:14].
الإشراق الخامس
فهم القرآن
كلّ من اكتفى بظاهر العربيّة، وبادَر إلى تفسير القرآن بمجرّد نقل الكتب وحمل الأسفار، من دون الارتقاء إلى عالم الأنوار وفقه الأسرار، ونقاء السريرة من أغراض هذه الدار، وخلاص القلب عن غشاوة هذه الآثار، فهو حريٌّ بهذا التمثيل، فإنّ الاطّلاع على ظاهر العربيّة وحفظ النقل عن أئمّة التفسير في ترجمة الألفاظ، لا يكفي في فهم حقائق المعاني، ومن أراد أن ينكشف له أنّ هذه المرتبة ليست من مرتبة إدراك المعاني القرآنيّة، والاطّلاع على حقائقها، فليتأمّل في مسألة واحدة منها، وعجز المفسّرين عن دركها، ليقيس عليها غيرها، وهو أنّ الله تعالى قال:
{ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال:17].
وظاهر تفسيره واضح جلي، وحقيقة معناه في غاية الغموض، فإنّه إثبات للرمي ونفي له، وهما متضادّان في الظاهر ما لم يفهم أنّه رمى من وجه ولم يرم من وجه، ومن الوجه الذي لم يرم رماه الله تعالى، ثمّ يفهم انّه ما جهة الوحدة والهوهوية، وما جهة الغيريّة والكثرة.
وكذلك قال تعالى:
{ { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [التوبة:14]. فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله هو المعذّب، وإن كان الله هو المعذّب بتحريكهم فما معنى أمرهم بالقتال؟
فالتحقيق في مثل هذا المقام يحتاج إلى العلوم المتعالية عن علوم المعاملات، ولا تغني عنه علوم العربيّة وتفسير الألفاظ، ولعلّ العمر لو أنفق في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدّماته ولواحقه، لانقطع العمر قبل الوصول إلى الإحاطة بجميع لواحقه، والقرآن مشحون بأمثاله، بل ما من كلمة من القرآن إلاّ وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك، وإنّما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره وأنواره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفّر دواعيهم على التدبّر وتجرّدهم للطلب، ويكون لكلّ واحد حدٌّ في الترقّي إلى درجة منه، فأمّا الاستيفاء التامّ فلا مطمع لأحد فيه، ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً والخلائق كتّاباً لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله، فأسرار كلماته وأنوار آياته ممّا لا نهاية لها ولا بداية، فمن هذا الوجه يتفاضل الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير.
فقِس على هذا المثال جميع ما ورد في الكتاب والسنّة، ولا تغتّر بما سمعته وتلقّفته من معلّميك في أوان الجاهليّة وزمان الاحتجاب، فإنّها كلّها تماثيل وأشباح للحقائق - إن لم تكن أغلاطاً فاسدة -، وإنّها قوالب وصور بلا معنى إن لم تكن أوهاماً باطلة، وظواهر أعمال بلا فائدة تبقى، وخيال أشخاص من غير صورة بها تحيى، ومثال أشجار بلا ثمرة تجنى، وحبال وعصيٌّ يخيّل من سحْرهم انّها حيّة تسعى -
{ { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:103 - 104].
ومن الأمثلة أيضاً في فهم الأسرار والأنوار المودعة في ألفاظ القرآن والحديث، ما ذكره بعض أصحاب القلوب في معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سجوده:
"أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك" .
وهو انّه لمّا قيل له: { { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [العلق:19]. فَوجَدَ القُرب في سجوده، فنظر إلى الأفعال فاستعاذ من بعضها ببعض، ثمّ زاد في قُربه فنظر إلى الصفات فاستعاذ من بعضها ببعض، فإنّ الرضا والسخط صفتان، ثمّ زاد في قربه واندرج القرب الأوّل فيه فترقّى إلى الذات وقال: أعوذ بك منك. ثمّ زاد قربه واستحيى عن الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله: لا أحصي ثناء عليك، ثمّ علِم أنّ ذلك قصور فقال: أنت كما أثنيت على نفسك.
فهذه وأمثالها خواطر تفتح لأرباب المعاني وأصحاب القلوب، ثمّ لها أغوار وأسرار وراء هذا المعنى وهو معنى فهم القرب واختصاصه بالسجود، ومعنى الاستعاذة من فعل إلى فعل، ومن صفة إلى صفة، ومنه به.
وأسرار ذلك كثيرة، ولا يدلّ ظاهر تفسير اللفظ عليها، ومع ذلك فليس مناقضاً لظاهر التفسير، بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن قشره، فإنّ للقرآن حقيقة كالإنسان، وله قشران ولبّان كالجوز، ولكلّ منها مراتب كثيرة حسب تعدّد النشآت، وكما أنّ الإنسان الحسّي صنم لسائر مراتبه، واقع في أوّل درجات الإنسانيّة ومراتبها ومعارجها، وأعلى منه الإنسان المثالي، ثم الإنسان النفسي، ثم العقلي كالحكماء، ثمّ الإلهي كالمتألّهين من العرفاء والأولياء فهكذا يجب أن يعلم مراتب فهم القرآن فكلّ أحد لا يفهم إلاّ بما يتحقّق فيه.
والقرآن بحسب حقيقته الأصليّة خُلُق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلّ ما فهمه المفسّرون، ويصل إليه إدراكهم ظل من ظلاله القريبة والبعيدة، وشبح من أشباحه العالية والدانية - فافهم هذا واغتنم -.