التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦
وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٧
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه إشراقات:
الإشراق الأول
في اللغة
هَاد يَهُودُ: إذا تهوَّد، أي: انتحل مذهبهم ورأيهم في ذات الله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسُله واليوم الآخر. أمّا في الذات: فكذهابهم إلى أنّه تعالى ذو ولد وصاحبة. وأمّا في صفاته: فبإلحادهم فيها وتشبيههم. وأمّا في الأفعال: فبإنكارهم النسخ والتغيير، وقولهم يد الله مغلولة. وأمّا في الكتب والرسل: فبإنكارهم حقيقة القرآن وحقيقة الرسول المنذر به. وأمّا في اليوم الآخر: فلما قالوا:
{ { لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة:80].
و "الزعَم": قول عن ظنّ وتخمين.
والأولياء: جمع وليّ، وهو الحقيق بالنصرة التي يوليها عند الحاجة، والله وليّ المؤمنين لأنّه يولّيهم النصرة عند حاجتهم، والمؤمن وليّ الله لهذه العلّة لأنّه ينصر دينه، ويجوز أن يكون لأنّه يولي المطيع له وينصره وعند حاجته.
و "التَمْنّي": قول القائل لِما كان: ليتَه لم يكُن. ولما لم يكن: ليتَه كان، فهو يتعلّق بالماضي والمستقبل، وهو من جنس الكلام عند الجبائي والقاضي، وقال أبو هاشم: هو معنى في النفس يوافق هذا القول. وهو ليس بشيء، إذ جميع أقسام الكلام - خيراً كان أو انشاءً - من هذا القبيل، حيث أنّ لها معاني في النفس وضعت بازاء ألفاظ تطابقها وتوازيها.
وقرأ: فَتَمَنَّوِا الْمَوْتَ - بكسر الواو - تشبيهاً بلَوِ استَطَعْنَا.
و "لا" كـ "لَنْ" لنفي المستقبل، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ في "لَن" زيادة تأكيد أو تأييد ليس في "لاَ". فأتى مرّة مؤكداً: وَلَنْ يَتمَنّوهُ. ومرّة بدونه: "وَلا يَتمَنّونَه".
الإشراق الثاني
في النظم
لمّا تقدّم ذكر اليهود في إنكارهم لما في التوارة من المعاني التي تستنبط منها أو تتضح فيها بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) وتحريفهم الكلم عن مواضعه كما هو عادة المتشبّثين بذيل الدنيا وشهواتها وأغراضها من صرفهم الكتاب إلى معان توافق طباعهم الخبيثة وتناسب مقاصدهم الخسيسة، وادّعاؤهم مع ذلك أنّهم من أولياء الله وأنصاره دينه، أمر سبحانه نبيّه أن يخاطبهم بما يفحمهم فقال: قُلْ - يا محمّد - { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ } - أي انتحلوا دين اليهود واتّصفوا بأوصافهم - { إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ } - أي إن كنتم تظنّون على زعمكم أنّكم أنصار الله وأنّ الله ينصركم - { مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } - في دعواكم أنّكم أولياء الله وأحبّاؤه، فإنّ الموت من أسباب الوصلة إليه تعالى.
ثمّ أخبر عن حالهم وكذب مقالهم وفساد زعمهم وقبح سيرتهم ودغل سريرتهم وسوء شكيمتهم واضطراب رأيهم وتزلزل دعواهم ووخامة عاقبتهم وآخرتهم وأنّهم غير واقفين بما يقولون إذ ليس بناؤه على أصل صحيح عاقبتهم متين. بل على مجرّد ظنّ فاسد واغترار بما يستحسنه أهل الظاهر، فقال: { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } من الكفر والمعاصي، معناه: ولا يتمنّون الموت لما اكتسبت نفوسهم من مَلَكَة محبة الدنيا ولذاتها وشهواتها ومَلَكَة الانجذاب إلى دواعيها وأغراضها، فصارت نفوسهم مقيدة بها، محبوسة فيها، لتكرّر الأفاعيل البدنية الشهويّة والغضبية، وتكثّر الأعمال الحيوانيّة البهيميّة والسَّبُعيّة الموجبة للركون إلى نعيم الدنيا وزهرتها، والإخلاد إلى أرض الشهوات والاستغراق في بحر اللذّات.
ومنشأ هذه الأعمال والأفعال كلّها، هو الفساد في الاعتقاد، والشكّ في بقاء النفس في المعاد، ورجوعها إلى الواحد القهّار، فصارت هذه الأخلاق الرديّة، والملكات الدنيّة الحاصلة من تكرّر الالتفاتات إلى عالَم الخلق، وتكثّر الاعراض، والاستيحاش عن عالَم الحقّ وملكوته الأعلى، وإنكار وجود المفارقات، ونفي ثبوت الملائكة العقليّات، مسامير مؤكّدة وأوتاداً مستحكمة في النفس، بحيث لا فرق عندهم بين ترك البدن ونزع الروح عن الدنيا وبين ترك اللذات للّذات، ونزع الروح عن الروح، لأنّ نفوسهم صارت كأنّها عين البدن.
ولهذا لا يمكنهم تصوّر بقاء النفس من دون استعمالها للحواسّ واشتغالها بالمحسوسات، فلو فرضوا أنّ أحداً يقوم بنفسه من غير مباشرة الأكل والشرب والوقاع، ولا مصادقة الأقرباء والعشاير والديار والعقار والضياع والمواشي وغيرها، بل يكتفي بذكر الله وعالم ملكوته، لاستحالوا ذلك، أو عدّوا حاله من أسوء الحالات، وشبّهوه بحالة الأموات والجمادات جهلاً بأنّ غاية ما سمّوه لذّة وغبطة بالنسبة إلى ما يجده أولياء الله من ملاحظة حضرة الربوبية ومشاهدة العاكفين لجنابه أشبه بأن يسمّى عذاباً وانما حق ان يسمّى لذّة وراحة. كيف ولو كان ما زعموه حقّا لكان البغال والحمير أوفر سعادة وأجلّ سروراً وغبطة من ملائكة الله الذين طعامهم الذِكر والتحميد، وشرابهم التنزيه والتقديس؟!
الإشراق الثالث
الفطرة التوحيدية في الإنسان بالقوة
إنّ في الآية إشعاراً بأنّ طبيعة أكثر الناس متنفّرة عن حقيقة الدين، معرِضة عن لقاء الحقّ، لكونهم غير متمنّين للموت بل مستكرهين له، فهُم ليسوا من أولياء الله بحسب قاعدة عكس النقيض، بل من أولياء الطاغوت، فلذلك طبائعهم مجبولة على حبّ الدنيا وزينتها ورياستها، والجوهر الروحاني الذي جُبل على فطرة الله، وفطر على قبول دعوة الإسلام ودين التوحيد، هو مودع في الإنسان بالقوّة كالجوهر في المعدن، لا يستخرج إلى الفعل إلاّ بجهدٍ جهيد، وكدّ شديد، وسعي تامّ، وتنقية للقلب، وتصفية للباطن عن أغراض النفس، وأعمال وعبادات على قانون الشريعة الحقّة، ومتابعة تامة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوامره وزواجره، وأحكامه ورموزه وإشاراته. وبَعده لورَثة علمه وخُزّان كتابه، وهم الأئمة المعصومون من أهل بيت نبوّته وولايته، والعلماء الربّانيّون الراسخون في العلوم الإلهيّة، المتأدّبون بالآداب السبحانيّة خلَفاً بعد خَلَف وخليفة بعد خليفة، إلى آخر الدور والقرون، ومنتهى العصر والزمان.
وفي زمان كلّ واحد منهم جمهور الناس - بل أكثر علمائهم وفقهائهم - مع دعوى إيمانهم علانية ينكرون أطوار الأئمّة وسيرهم ضميراً وسرّاً ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة والانقطاع عن الخلق - وهو بعينه تمنّى الموت - وينكرون التبتيل إلى الله بالكليّة بالموت الإرادي طلباً للحياة المعنويّة الأبديّة إلاّ من كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيّدهم بروح منه، وهو نتيجة الصدق في الطلب وحسن الإرادة الحاصلَيْن من بذر "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه".
وذلك فَضْلُ الله يُؤتْيهِ مَنْ يَشَاءُ - وإلاّ فمن خصوصيّة الإنسان بحسب ما ذكر فيه من الطبيعة الظلمانيّة التي لأصحاب الشيطان أن يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وان كانوا يُصَلّون ويصومون ويزعمون أنّهم متديِّنون ولكن بالتقليد - لا بالتحقيق -، اللهمّ إلاّ من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه
{ { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر:22].
تنبيه:
لا يخفى عليك أنّ في الإخبار بعدم تمنّيهم الموت - ولو بحسب القول واللسان - معجزة من معجزات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما روي أنّه قال لهم:
"والذي نفسي بيده، لا يقولها أحد منكم إلاّ غصّ الله بريقه" . فلولا أنّهم كانوا موقنين بصدق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمنّوا ذلك، ولكنّهم علموا أنّهم لو تمنّوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، فما تمالَك أحد منهم أن يتمنّى.
الإشراق الرابع
تمني الموت دليل كون صاحبه أهل السعادة
قد نبّه الله في هذه الآية على كذب اليهود في دعواهم ولاية الله وقربه. ونبّه في موضع آخر على كذبهم في دعواهم أنّ الآخرة خير لهم من الأولى. وأن الدار الآخرة خالصة لهم، وكشف عن ذلك أيضاً بهذا الطريق فقال مخاطِباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
{ { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة:94] فأخبر بأنّهم لن يتمنّوا الموت أبداً بما قدّمت أيديهم من سوء الأفعال وقبح الأعمال وفساد الأنظار والأطوار، المؤدية إلى الاحتراق بالنار. كما قال طبق هذا المقال: { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ } [البقرة:95] تنبيها على أنهم ليسوا من أهل سلامة الآخرة وسعادة تلك الدار، إذ ليسوا من أهل المحبّة الإلهية، والمودّة والروحانيّة، فإن لمحبّة الله وولايته التي للأولياء المقرّبين علامات مرجعها إلى ترك الالتفات إلى غير الله، وقطع النظر عمّا سواه، وتنقية القلب عن سائر المحبوبات.
والمتضمّن لهذه التروك كلّها هو الموت، فمَن أحبّ لقاء الله اشتاق إلى الموت، إذ بالموت يتخلّص عن صحبة الأغيار بالكليّة ويرجع إلى لقاء الله العزيز القهّار.
ومن جملة الأغيار المحبوبة بالمحبّة المجازيّة هي النفس والأهل والولد، والمال والجاه والشهرة، وكلّ محبة لمحبوب مجازيّ يمنعه عن نحو من العبوديّة التامّة والمحبّة الحقيقيّة لله تعالى، فمَن غلبت عليه محبّة المال منعته عن الزكاة، ومحبّة الوطن تمنعه عن الحجّ، ومحبّة البدن بالأكل والشرب تمنعه عن الصوم، ومحبّة النفس تمنعه عن الجهاد، ومحبّة الجاه والشهرة تمنعه عن تعلّم العلوم الحقيقية عن الغير، والاعتراف بقصوره وجهله والإقرار بفضيلة من هو أعلم منه كثيراً.
فترك كلّ منها علامة من علامات محبّة الله من جهة امتثال أمره بما يكرهه ونهيه عمّا هو يحبّه، فمهما ترك جميع محبوباته فحصلت له علامة الاستعداد للقاء الله فيهون عند ذلك عليه الموت، لأنّ محبّة كلّ شيء سوى الله فرع محبّة النفس، فمهما ترك بمحبّة الله محبّة النفس زالت عنه محبّة كلّ شيء سوى الله، فصار وليّاً من أولياء الله عارفاً به، مشتاقاً إليه وإلى عالم ملكوته فيتمنّى الموت.
فتمنّي الموت لهذا الوجه يكون من علامة ولاية الله وعرفانه، ولذا قال: { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } -، ومن كان حاله على مضادّة هذا الحال، حيث يحبّ النفس والولد والأهل والمال والعشيرة والجاه، يكون من أعداء الله، كما قال سبحانه:
{ { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة:24].
الإشراق الخامس
الإنسان لماذا لا يتمنى الموت
قد نفى الله تعالى عن اليهود ومَن يحذو حذوهم من أولي الطبائع الغليظة والقلوب القاسية، عن قبول نور المعرفة والحكمة، تارة درجة الولاية والقرب - كما في هذه الآية -، وأخرى درجة السعادة الأخرويّة - كما في الآية المنقولة -.
والسبب في ذلك، أنّ أهل الآخرة إن كانوا من الكاملين في المعرفة واليقين فهم من أولياء الله المقرّبين، وإن كانوا من الكاملين في العمل فهم من أصحاب اليقين. وجزاء المقربين مجاورة الحقّ الأوّل، ومشاهدة لقاءه ولقاء العاكفين في حضيرة قدسه وساحة ملكوته، وجزاء أصحاب اليمين السَيَحان في روضات الجنان، ومنادمة الحور والغلمان، والابتهاج باللؤلؤ والمرجان، وهاتان المرتبتان كلتاهما مسلوبتان عنهم رأسا، لفساد اعتقادهم لعنادهم وجحودهم للعلوم الحقّة الحقيقية، واعتمادهم على أوهام وظنون تقليديّة تلقفوها من غير دارية، وبطلان أعمالهم لغلبة دواعيهم الحيوانيّة، وانكبابهم على طلب هذه الدنيا الدنيّة، فينفى عنهم ما يؤدّي إلى الكمال العلمي والعملي بالكليّة فيمتنع عليهم تمنّى الموت.
وإنّما يتمنّاه مَن كان حكيماً عارفاً الله، حارسا لآخرته، عاملاً عمل أهل الآخرة من الزهد في الدنيا وترك مرغوباتها ومستلذّاتها ورياساتها، حتّى يكون الموت موصلاً إيّاه إلى محبوبه الأصلي، ومطلقا له عن أسْر الطبيعة وحبس الظلمات، وصحبة الأضداد والمؤذيات، وقاطعاً عنه كلفة العبادات وشدّة الرياضات والمحن والأمراض.
الإشراق السادس
تمنّي الموت عن علامات أهل النجاة
إنّ في كلّ واحدة من هذه الآية ونظيراتها إشارة إلى أنّ أصحاب العلوم الظاهرة، المنكرين على أرباب المعارف الحقيقيّة، يزعمون أنّهم من أهل النجاة وأهل الدرجات دون هؤلاء المحقّقين المعرضين عن الصيت والاشتهار وطلب الافتخار، والتقلّب في البلاد والديار، والتعرض للشيخوخة والقضاء وتولية الأوقاف.
فجعل الله تعالى علامة أهل النجاة السآمة من حياة هذه الدنيا وتمنّي الموت. وأشار إلى أنّ هذا حال السالك والمحبّ الصادق، والمحقّق العاشق، كما قال بعضهم:

اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتي

فإنّ العبد المطيع يحب الرجوع إلى مولاه، والعبد العاصي الآبق يكره الرجوع إلى مولاه. وفي الحديث: "من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءَه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" أي: محبّة العبد للقاء الله نتيجة محبّة الله للقاء العبد بحسب الجذبة الإلهية التي لا يوازيها عمل الثَقَلين. ولذا قال: { { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54] بتقديم الأوّل على الثاني دون العكس.
وبالمقايسة إلى حال السالك العارف، يعرف حال الواقف الجاهل، والمبتدع المضلّ المداهن الحريص على الدنيا، لأنّ حال العدوّ بخلاف حال الوليّ، وحال الساكن الواقف في النشأة الأولى، بخلاف حال المسافر الساير إلى النشأة الأخرى:
{ { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة:62].
ولذا قال سبحانه في وصفهم:
{ { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [البقرة:96] لأنّ المشركين وإن كانوا حريصين على الحياة، ولكن لم يكن لهم خوف العذاب لانكارهم البعث، وأمّا المغرور الممكور، فيكن له حرص الحياة وخوف العقاب، فيكون أحرص الناس على الحياة من المشرك.
وبالجملة، حبّ الدنيا نتيجة الغفلة من الله، فأشدّهم منه غفلة أحبّهم للدنيا، وحال المؤمن على ضدّ هؤلاء كما عرفت.
الإشراق السابع
حكمة خلق العصاة وذوي القلوب القاسية
قوله تعالى: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } - إشارة إلى أنّ إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين أمور مرتبة بالعلم الأزلي والقضاء الأولي، بحسب اقتضاء الأسماء الإلهيّة الموجبة لأن يكون وجود هذا العالم السفلي والمحلّ الهيولي ممتزجاً بالأنوار والظلمات، مركّبا من الشرور والخيرات، لأنّ نظامه حاصل من تركيب الأضداد وطبائع متخالفة المواد والأجساد، ولا ينصلح تعميرها إلاّ بنفوس فظاظ غلاظ شداد وقلوب قاسية كالحجارة متلطّخة بالظلمة والسواد، لا يلينها إلاّ النار الآخرة التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين، ولا يؤثر فيها الوعظ والنصيحة والإنذار، ولا ينجع لها تلاوة الكتاب والسُنّة بالدرس والتكرار، لعدم اهتدائهم بعالَم آخر إليه رجعى نفوس الأخيار معدن العلوم والأنوار.
وعن بعضهم: إنّ الله قد أبطل قول اليهود وأظهر لهم كذبهم في هذه السورة في ثلاثة أمور: افتخَروا بأنّهم أولياء الله وأحبّاؤه فكذّبهم في قوله: { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وبأنّهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبّههم بالحمار يحمل أسفاراً. وبالسبت وأنّه ليس للمسلمين مثله، فشرع الله لهم الجمعة - والله وليّ الهداية والتوفيق.