التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
-الجمعة

تفسير صدر المتألهين

وفيه إشراقات:
الإشراق الأوّل
في اللغة والقراءة
قال الشيخ أبو علي الطبرسي (ره): "الجُمْعة" و "الجُمُعة" لغتان وجمعهما "جُمَع" و "جُمْعَات"، قال الفرّاء: وفيه لغة ثالثة: "جُمَعَة" - بفتح الميم - كضُحَكة وهُمَزة.
وفي الكشّاف: يوم الجُمْعَة يوم الفوج المجموع كقولهم: "ضُحْكَة" للمضحوك منه. ويوم الجُمَعة - بفتح الميم - يوم الوقت الجامع كقولهم "ضُحَكَة" و "لُعَنَة" و "لُعَبَة"، ويوم الجُمْعَة تثقيل للجُمْعَة كما قيل: عُسُرة في عُسرة، وقرئ بالوجود الثلاثة.
و "مِن" بيانيّة مفسّرة لـ "إذا".
و "النداء" الأذان. وقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤذّن واحد، وكان إذا جلس على المنبر أذّن المؤذّن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، وكان ذلك مستمرّا إلى زمان عثمان، فكثر الناس، وتباعدت المنازل، فأحدث الأذان الثاني، فزاد مؤذّنا آخر، فأمر بالتأذين الأوّل على داره التي تسمّى زوراء، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذّن الثاني، فإذا نزل أقام الصلاة.
وإنّما سمّيت جمعة لأنّ الله تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء، فاجتمعت فيه المخلوقات. وفيه سر سنشير إليه.
وقيل: لأنّه تجتمع فيه الجماعات.
وقيل: إنّ أوّل من سمّاها جمعة كعب بن لؤي، وهو أوّل من قال: "أمّا بعد". وكان يقال لها "العُروبة" - عن أبي سلمة -.
وقيل: أوّل من سمّاها جمعة الأنصار، وذكر ابن سيرين: جمع أهل المدينة قبل قدوم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول هذه السورة، فقالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كلّ سبعة أيّام، وللنصارى مثل ذلك، فهلمّوا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصّلي. فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العُروبَة.
فاجتمعوا إلى سعد بن زارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين، وذكَّرهم فسمّوه يوم الجُمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل آية الجُمعة، فهي أوّل جمعة كانت في الإسلام.
وأمّا أوّل جمعة جمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أنّه لمّا قدم المدينة مهاجراً، نزل قبا على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم، ثمّ خرج يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم، فخطب وصلّى الجمعة.
الإشراق الثاني
في فضل يوم الجمعة
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، وفيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنّة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة" .
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) "أتاني جبرئيل وفي كفّه مرآة بيضاء، وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربُّك لتكون لك عيداً ولامّتك من بعدك. وهو سيّد الأيام عندنا، ونحن ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد " .
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ لله في كلّ جمعة ستمائة ألف عتيق من النار" .
وفي الحديث: "إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضّة وأقلام من ذهب، يكتبون الأوّل فالأوّل على مراتبهم
"
. قيل: كانت الطرقات في أيّام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصّة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسُرجُ.
وقيل: أوّل بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة.
وعن أبي جعفر (ع) يقول: ما طلعت الشمس بيوم أفضل من يوم الجمعة.
وروى سهل بن زياد عن أبي بصير، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال
"قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انّ يوم الجمعة سيّد الأيّام يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئّات ويرفع فيه الدرجات ويستجيب فيه الدعوات وتكشف فيه الكربات، وتقضي فهي الحوائج العظام وهو يوم المزيد لله فيه عتقاء وطلقاء من النار ما دعا الله فيه أحد من الناس وعرف حقّه وحرمته إلاّ كان حقّاً على الله أن يجعله من عتقائه وطلقائه من النار، فإن مات في يومه أو ليلته مات شهيداً وبُعث آمِناً، وما استخفّ أحد بحرمته وضيَّع حقّه إلاّ كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يصليه نار جهنّم إلاّ أن يتوب" .
وفي فضله أحاديث كثيرة، وفيما نقلناه كفاية للمستبصر.
الإشراق الثالث
في الحكمة المتعلّقة بالنداء - أي الأذان -
إعلم أنّه لمّا كان كلّ واحد من الأوضاع الشرعيّة مشتملاً على سر إلهي نوريّ كاشتمال الإنسان المكلّف به على لطيفة ربّانيّة نوريّة، ليكون له قربة إلى جناب الحقّ، ووصلة إلى رضوانه، ومناجاة له، ومن جملة تلك الأوضاع: الأذان، فشرع قبل الصلاة ليتنبّه ويعرض عن غير الله، ويتوجّه بشراشر قلبه وسرّه إلى جناب القدس ليتأهل لمناجاة الحقّ، لأنّ الإنسان متغيّر عمّا هو عليه حالاً بعد حال، متعرّض للانتقال والزوال، ليس له قوّة الثبات على أمر، ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جلالة قدره وعلوّ سرّه، يؤمر بالثبات والاستقامة، ويسأل الثبات على الدين والطاعة، فكأن شرع الأذان موجباً لانتباه النفوس الراقدة، معدّاً لأن تتأهل النفس لذكر الله، لأنّه معراج المؤمن، وذكر العبد لله مستلزم لذكر الله العبد، كما قال تعالى:
{ { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152].
وفي الحديث القدسي:
"من ذَكرني في خلاء ذكرته في خلاء ومَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" .
ومعلوم أنّ من ذكَر الحقّ فقد جالَسه، لقوله تعالى: أنّا جليس من ذكرني. ومن جالَس من ذكره وهو ذو بصيرة رأى جلسيه وشاهده، ومن شاهده فقد أدركه، وهذا غاية مطلب الصدّيقين، ومآل حال أهل الله { { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد:28].
ثمّ الأذان مجمع صفات الجلال والإكرام، وأوّل أجزائه: الله أكبر، وهو إيذان بأن الله أكبر من جميع الأشياء، بل هو أكبر من أن تنسب إليه هذه النسبة، فإنّ الكبرياء رداؤه، والعظمة إزاره، ووظيفة السامع من استماع هذه الكلمة الرجوع إلى الله تعالى، ورفض ما سواه الذي هو ظِلُّه، لأنّ الوجود كلّه لله من حيث ذاته ومن حيث أسمائِه الحسنى ومن حيث أفعاله لا وجود لما سواه.
ولمّا كانت النوبة الأولى لم تثبت النفوس المشتغلة الماديّة غالباً، شرع التكرار لاثبات معنى الألوهيّة الجامعة لجُملة الأسماء والصفات في مرآة النفس الناطقة.
ثمّ كلمة الشهادة، التي هي كالعنوان لما حصل في النفس من معنى الجزء الأوّل من التصديق الذي هو عمل القلب، والجزء الأوّل يشير إلى اثبات الواحد الحقّ، والثاني يشير إلى نفي شريكه، وقد علمتَ ممّا سبق إليك في التعاليم، أنّ الإيمان بالله يجعل للنفس استعدادً لقبول الفيض الإلهي الموجب للقربة والزلفى، وينقّي النفس عن المضارّ الدنيويّة والأخرويّة - على ما بيّن فيما سبق من تفسير آية النور -، أنّ كلمة التوحيد بمنزلة المصقلة في إزالة ظلمة الرَّيْن والطبع عن مرآة القلب.
ثمّ عقّب بالكلمة الثالثة المشيرة إلى الاعتراف برسالة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحصل لهم بذلك التزام أوامره ونواهيه، وقد علمت الاحتياج إلى وجود النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مرّت إليه الإشارة من أنّ الناس صنفان: صنف يستوي عندهم المعقول والمحسوس - وهم الأنبياء -، وصنف لا يتعدّى نظرهم عن عالَم المحسوس - وهم أكثر الخلق - فلا بدّ لهم من مرشد يرشدهم إلى ما لا يهتدى إليه بالحسّ بل بالعقل، فإنّ للنبوّة طوراً وراء طور لا يدرك إلاّ بالكشف الشهودي، وليس لكلّ عبد أن ينال درجة النبوّة، بل رتبة الولاية، فإنّ جناب الحقّ جل عن أن يكون شريعة لكلّ وارد، أو يطّلع عليه إلاّ واحداً بعد واحد.
على أنّ النبوّة قد ختمت بنبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه في أعلى مرتبة العلم والحكمة، وله الدرجة العليا والزلفى، وقد طلب إبراهيم الخليل (ع) في دعائه عن الله تعالى بعَثة منه في ذريّته، حيث قال تعالى حكاية عن دعائه:
{ { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } [البقرة:129].
ثمّ ذكر بعد كلمتي الشهادة دعوة الخلق إلى مناجاة الحقّ، وطلب الوقوف بين يدي الربّ سبحانه للدعاء والصلاة الموجبة للفلاح - وهو إدراك المُنْية والبغية، إمّا في الدنيا، كالسعادة التي يطلب بها حياتهم في دنياهم، وإمّا في العقبى، وهو بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وعلم بلا جهل -
{ { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64].
ثمّ إنّه ختم بما بدأ منه، إشارة إلى استغنائه عن الجميع - فإنّ الله غَنيٌّ عَن العَالَمين -، والأمر كلّه منه ابتداؤه، وإليه انتهاؤه، وإليه يرجع الأمر كلّه، وهو المقصود الأوّل والمرتجى وإليه الرُجعى - كما قيل:

محرّك الكلّ أنت القصد والغرض وغاية مالها مرمى ولا غرض
مَن كان في قلبه مثقال خردلة سوى جلالك فاعلم أنّه مرض

واعلم أنّ سرّ الإقامة قد علم ممّا سبق، ونذكر فيها نكتتين:
الأولى: الإفراد ليكون أسرع إلى المراد هو الصلاة وفيه إشارة إلى طلب زيادة الإخلاص والخُشوع والتواضع لقربه من الوقوف بين يدي الله.
والثانية: زيادة لفظ "قد قامت الصلاة" للدلالة على أنّ ذكر الله قائم على باطن كلّ نفس، فيجب أن يكون الظاهر موافقاً للباطن والعلانية حاكيةً عن السرّ.
الإشراق الرابع
في الحكمة المتعلّقة بوجوب الصلاة يوم الجمعة
اعلم أنّه لمّا اقتضت الأسماء الحسنى الإلهيّة ظهور آثارها جميعاً في المظاهر الكونيّة، لئلاّ يتعطّل طرف من الألوهيّة، ظهرت من نوع الإنسان الذي أوجده لأجل العبادة، كما أشار إليه بقوله:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56]. وطبائع أكثر الناس مجبولة على العدول عن منهج الحقّ، والانحراف عن سنن العدل، كما أشار إليه بقوله: { { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ:13] وقوله: { { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف:103] وقوله: { { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [المؤمنون:70]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وقد تقرّر هذا البيان بنيانه في كثير من الأحاديث القدسيّة مثل قوله تعالى:
"كُلّكُم ضالّ إلاّ من هديته فاسألوني الهدى اهْدِكُم، وكلّكم فقير إلاّ من أغنيته فاسألوني أرزقكم، وكلّكم مذنب إلاّ من غفرته فمن علم منكم أنّي ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي" .
فلو أنّ الناس أُهْمِلوا وطبائعهم، وتُركوا سدى، وخُلّي بينهم وبين طبائعهم لتوغّلوا في الدنيا وانهمكوا في اللذات الجسمانيّة، وطلبوا دواعي القوى الظلمانيّة لضرواتهم بها واعتيادهم من الطفوليّة والصبا، حتّى زالت استعداداتهم، وانحطوا عن رتبة الإنسانيّة فمسخوا ومثلوا بالبهائم والسباع كما قال تعالى: { { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [المائدة:60].
وإن حوفظوا ودعوا بالسياسات الشرعيّة والعقليّة والحِكَم والآداب والمواعظ الوعديّة الوعيديّة، ترّقوا من حدّ البهيمة، وتنوّرت بواطنهم بنور الملكيّة، كما قال الشاعر:

هي النفس إن تهمل تلازم خساسة وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج

فلهذا وضعت العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعيّنة لتزول عنهم بها دَرَن الطبائع المتراكمة في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتّخاذ اللذّات، وارتكاب الشهوات، فتتنوّر بواطنهم بنور الحضور، وتتنقّش قلوبهم بالتوجّه إلى الحقّ عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتستريح بروح الروح وحبّ الوحدة عن وحشة الهوى وتفرّق الكثرة.
كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
"الصلاة إلى الصلاة كفّارة ما بينهما من الصغائر ما اجتنبت الكبائر" .
ألا تَرى كيف أمرهم عند الحدث الأكبر، ومباشرة الشهوة، بتطهير البدن بالغسل، وعند الحدث الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيويّة في ساعات اليوم والليلة بالصلوات الخمس المزيلة لكدورات مدركات الحواسّ الخمس، الحاصلة في النفس منها كلٌّ بما يناسبه.
ولذلك وضعوا بإزاء وحشة تفرقة الأسبوع، وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب والملابس البدنيّة والملاذّ الجسمانيّة اجتماع قوم على العبادة، والتوجّه، لتزول وحشة التفرقة بأنس الاجتماع والحضور، ويحصل بينهم نور المحبّة الإيمانيّة، والمؤالفة القلبيّة، وتزول عنهم ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيويّة، والإعراض عن الحقّ من جهة الأغراض المختصّة الشخصيّة، فوضع لليهود في قديم الزمان أوّل الأسابيع لكونهم أهل المبدأ والحسّ الظاهر، وللنصارى ما بعده آخرها لكونهم أهل المعاد الروحاني، وأهل الباطن المتأخّرين عبد المبدأ والظاهر، وللمسلمين آخرها الذي هو يوم الجمعة لكونهم في آخر الزمان، وهم أهل النبوّة الختميّة وأهل الوحدة الجمعيّة للكلّ. وإن جعل السبت آخر الأسبوع - على ما نقل أنّه السبع فالبنسبة إلى الحقّ تعالى لأنّ عالَم الحسّ الذي إليه دعوة اليهود، وهو آخر العوالم بالنسبة إليه، وأوّل العوالم عالَم العقل الذي إليه دعوة النصارى، والجمعة هي يوم الجمع والختم - هذا على ما ذكر بعض أهل القرآن.رحمه الله .
اشتشهاد قرآني
علة تعيين الجمعة للمسلمين
ومما يناسب ما ذكر ويؤكّده، ما استفيد من كلام بعض المحقّقين وهو أنّ موسى (ع) لمّا كان باعتبار قومه من أهل المبدأ وصاحب التنزيل، كان من جانب الغرب، وهو موضع أفول النور، كما أُشير إليه بقوله تعالى:
{ { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } [القصص:44].
وإنّ عيسى (ع) لمّا كان من أهل المعاد وصاحب التأويل، كان مكانه في الشرق - وهو موضع النور وطلوعه -،
{ { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } [مريم:16].
وإنّ نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا كان جامع المنزلتين - المبدأ والمعاد - والبرزخ المتوسّط بين الجانبين - المشرق والمغرب - بوجه، والمبرّأ عن العالمين - الدنيا والآخرة بوجه -، كان مكانه متوسّطاً بين الشرق والغرب.
أمّا كونه جامعاً للمبدأ والمعاد، فلأنّ له منزلة في المبدأ "كنتُ نبيّاً وآدم بين الماء والطين" - ولكلّ شيء جوهر وجوهر الخلق محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وله (صلى الله عليه وآله وسلم) منزلة في المعاد، إذ هو شفيع يوم المحشر لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"ادّخَرْت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي" . وأمّا كونه متوسّطا فلأنّ قبلة موسى (ع) إلى الغرب من وسط العالَم، وقبلة عيسى (ع) منه إلى المشرق، وقبلة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما بين المشرق والمغرب قبلتي" .
وأمّا كونه مُبَرّءاً عنهما فلقوله تعالى: { { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } [النور:35] وهما حرامان على أهل الله.
الإشراق الخامس
في لميّة وجوب الصلاة مطلقاً
لمّا علم الشارع أنّ جميع أفراد الإنسان لا يرتقون في مدارج العقل إلى درجة العرفان، فلا جَرَم سوّى لهم رياضة بدنيّة، وسياسة تكليفيّة تخالف أهواءهم الطبيعيّة وحفظ لهم الصورة الإنسانيّة، وراعى فيهم حكاية النسك العقليّة، فمهّد لهم قاعدة في الأذكار والأوراد، وألزمهم ترك النسيان بتكرير الأعداد، وهي أعمّ وفي الحسّ أعظم لترتبط بظواهر الإنسان وتمنعهم عن التشبّه بسائر أفراد الحيوان، وأقر بهذا الهيكل الظاهر على كلّ بالغ عاقل فقال:
"صلّوا كما رأيتموني أُصلّي" ولو قال: "صلّوا كصلاتي" فمن الذي صلّى مثل صلاته؟ لأنّه كان يصلّي وبصدره أزير كأزير المرجل من البكاء، وكان في صلاته يرى مَنْ خَلْفَه.
فقد ظهر أنّ في صلاة القالب مصلحة كثيرة لا تخفى على اللبيب العاقل، ولا يقرّ به لسان الجاهل العادل، وهذا المعنى من الصلاة قد كانت واجبة على الأمم السابقة على أعداد أكثر من أعداد صلاتنا لعموم جدواها، وكانوا مكلّفين بأعمال جسمانيّة كثيرة المشقّة لغلبة الجسمانيّةّ عليهم وقلّة آثار الملكوتيّين فيهم، وشريعتنا المحمديّة - على الصادع بها وآله أفضل الصلاة والتحيّة - أقلّ تكلّفاً وأكثر فائدة، لصفاء القوابل ولطافة القلوب ورقّة الحجاب في أمّته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
"بعثت بالشريعة السهلة السمحاء" .
الإشراق السادس
في لميّة وجوب الصلاتين الجسمانيّة والروحانيّة
إنّ الله تعالى قد بعث النبيّين معلّمين بالكتاب والحكمة، واضعين الشريعة والملّة، مقيميمن للعدل والقسط لقوله تعالى:
{ { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [الحديد:25] فوضعوا للناس النواميس الإلهيّة ليخرجوهم عن حضيض البرزخ الظلماني، ويبلغوهم إلى أوج العالَم النوراني، لينخرطوا في سلك الملائكة المقرّبين، ويتنعّموا في جوار القدس مع النبيّين والصديقين، رحمة من الله وفضلاً ونعمة منه وإحسانا، فشرع كلّ منهم بإذن الله لأمّته حسب ما أعطته العناية الإلهيّة، واقتضته الرحمة الأزليّة في ذلك الوقت والزمان، من الأعمال القلبيّة والبدنيّة، ما تكمل به قوّتاهم العلميّة والعمليّة بحسب طاقتهم.
ولمّا كانت الحكمة المحمديّة - على مقيمها وآله أفضل المحامد العليّة - حكمة فريدة، لأنّه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، بل هو أكمل الممكنات علويّها وسفليّها، روحانيّها وجسمانيّها، وكان تأثيره قوّة نبوّته في تكميل نوع الإنسان أبلغ وأتمّ، وكماله أقوم، وحكمته أحكم، وكتابه وشريعته أبلغ وأعمّ، كانت أمّته خير الأمم وأعدلها، وأشرف الفرق وأكملها، كما قال تعالى:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110].
وإليه أشار (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله:
"علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل" .
فخُصّ المحمّديون بوجوب حقيقة الصلاة والذكر القلبي، والمعرفة الإلهيّة التي هي روح الصلاة، كما وجب عليهم صورة الصلوات الخمس المكتوبة، وأمروا بالمواظبة عليها والمحافظة لها، وتكريرها في كلّ يوم بهيئة مخصوصة مشتملة على سرٍّ إلهيّ في أوقات معيّنة، وهي ذكر له تعالى وقربة إلى جناب الحقّ ومناجاة معه، وروح الصلاة أشدّ وجوبا على بواطن العقلاء الكاملين من وصورتها على ظواهر سائر الناس، وقد قال سبحانه: { { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [طه:124].
الاشراق السابع
في تحقيق القول من سبيل آخر
قد بان لك أنّ في الإنسان شيئاً من العالَم الأسفل، وشيئاً من العالَم الأعلى، وأعني بالعالم الأسفل: الدنيا وما فيها، وأعني بالعالم الأعلى: الآخرة ما فيها، كذلك في كلّ عمل من الأعمال الدينيّة قشر ظاهر ولبّ باطن، فالقشر متعلّق بالدنيا، واللبّ متعلّق بالآخرة، فكما أنّ مقصود الشارع من طهارة الثوب - وهما القشر الخارج -، ثمّ من طهارة البدن - وهو القشر القريب -، إنّما هو طهارة القلب وهو اللبّ الباطن، وطهارة القلب عن نجاسات الأخلاق الذميمة؛ كالكفر والحسد والبخل والإسراف وغيرها، فكذلك مقصود الشارع من صورة كلّ عبادة هو الأثر الحاصل منها في القلب.
ولا يبعد أن يكون لأعمال الجوارح آثار في تنوير القلب وإصلاحه، كما لا يبعد أن يكون لطهارة الظاهر أيضاً تأثير في إشراق نورها على القلب، فإنّك إذا أسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك، صادفت في القلب انشراحاً وصفاء لا تصادفه قبله، كيف، وإدراك النظافة يوجِب حصول صورتها في القلب، وهذا ضرب من الوجود فعل الطهارة اوجَب حصوله في القلب - ولو بوجه ضعيف -.
وذلك لسرِّ العلاقة بين عالَم الشهادةِ وعالَم الغيبِ، وعالَم المَلَكوت، فإنّ ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وعالم الغيب بأصل فطرته، وإنّما يكون هبوطه إلى هذا القالب كالغريب عن موطنه الأصلي، ونزوله إلى أرض عالَم الشهادة عن الجنّة التي هي موطنه وموطن أبيه المقدّس، لجناية صدرت أوّلاً عن أبيه، وكما تنحدر عن معارف القلب آثار إلى البدن، فكذلك ترتفع من أحوال الجوارح أنوار إلى القلب، ولذلك أمر بالصلاة مع أنّها حركات للجوارح وهي من عالم الشهادة.
وبهذا الوجه جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدنيا فقال:
"أحببت من دنياكم ثلاثا - الحديث - وعدّ الصلاة من جملتها" .
ومن هنا قد شممت شيئاً يسيراً من روائح أسرار الطهارة أيضا، فإن كنت بحيث لا تصادف بعد الطهارة وإسباغ الوضوء شيئاً من الصفاء الذي وصفناه، فاعلم أنّ الخَدَر الذي عرض على قلبك من كدورة شهوات الدنيا وشواغلها، اقتضى كلال حسّ قلبك، فصار لا يحسّ باللطائف والأشياء الخفيّة اللطيفة كأكثر الناس، فاشتغِل بجلاء قلبك فذلك واجب عليك من كلّ ما أنت فيه.
فإذا تقرّر هذا عندك، وعلمت بمثل هذا التقسيم فيها وفي جميع العبادات، واتّضح أيضا لك وتأكّد عندك حسبما قدّمناه إليك، أنّ الصلاة منقسمة إلى رياضيّ جسماني وإلى حقيقي روحاني، فاعلم أنّ نفوس الإنسان متفاوتة بحسب آثار القوى والأرواح الدواعي المركّبة فيها، فمن غلب عليه الروح الطبيعي والحيواني فإنّه عاشقُ البدن، يحبّ نظامه وتزيينه وأكله وشربه ولبسه، وطالب لجذب منفعته ودفع مضرّته، وهذا الطالب من عداد الحيوانات وفي زمرة البهائم، فأيّامه مستغرقة باهتمام بدنه، وأوقات عمره موقوفة على مصالح جثّته وشخصيّته، فهو غافل عن الحقّ، جاهل بأمره، فلا يجوز له التهاون بهذا الأمر الشرعي اللازم الواجب، وإن قعد عنه فبالسياسات والزواجر يكره عليه ويُجْبَر حتّى لا يفوت عنه بالكليّة حقّ التضرّع والاشتياق إلى الله تعالى، ليفيض عليه بجوده وينجيه من عذاب وجوده، ويخلصه من آمال بدنه، ويوصله إلى منتهى أمله، فإنّه لو انقطع عنه قليلُ خيرٍ لتسارع إليه كثيرُ شرِّ، ولكان أدنى درجة من البهائم، وأضلّ سبيلا من الأنعام.
ومن غلبت عليه قواه الروحانيّة، وتسلطت على هواه قوّته الناطقة، وتجرّدت عن محبّة الدنيا وعلائق العالم الأدنى، فهذا الأمر الحقيقي والتعبّد الروحاني، وذكر الله بالقلب، ومناجاته وقربانه واجب عليه أشدّ وجوبا وأقوى إلزاماً كما قيل: "الحكمة أشدّ تحكّما على باطن العاقل من السيف على ظاهر الأحمق". لأنّه استعدّ بطهارة نفسه وشرافة عقله ليفيض عليه ربّه، فلو أقبل عليه بمشقّة، واجتهد في تعبّده، لتسارعت إليه جميع الخيرات العلويّة والسعادات الأخرويّة، حتّى إذا انفصل عن جسمه، وفارَق الدنيا تدخل عليه الملائكة من كلّ باب، ويشاهد مفيضه وموجده ومكلّمه ربّ الأرباب، ويجاور حضرته، ويلتذّ بمنادمته حينئذ ومجاوريه، وهم سكّان ملك الملكوت وقطّان عالم الجبروت..
الإشراق الثامن
في سرّ الصلاة وروحها وفي تمثيل الصلاة الكاملة بالإنسان الكامل من جهة اشتمالها على ظاهر جسماني وباطن روحاني
إعلم أنّ الصلاة عبارة عن تشبّه مَا للنفس الإنسانيّة بالأشخاص الفلكيّة، فما أشدّ شباهة حال الإنسان حين الاشتغال بالصلاة الكاملة بتلك الأجرام الكريمة، بأرواحها الملكيّة في تعبّدها الدائم، وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، طلباً للثواب السرمدي، وتقرّبا إلى المعبود الصَمَدي.
ولذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
"الصلاة معراج المؤمن" .
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) "الصلاة عماد الدين" .
وأصل الدين تصفية الروح عن الكدورات الشيطانيّة والهواجس النفسانيّة، والصلاة هي التعبّد للعلّة الأولى والمعبود الأعظم والخير الأعلى، والتعبّد في الحقيقة عرفان الحقّ جلّ مجده، والعلم به وبآياته، بالسرّ الصافي، والقلب النقيّ، والنفس الفارغة، فسرّ الصلاة التي هي عماد الدين، هو العلم بوحدانيّة الله تعالى، ووجوب وجوده، وتنزّه ذاته، وتقدّس صفاته، وإحكام آياته، ومعرفة أمره وخلقه، وقضائه وقَدَره، وعنايته وحكمته، وإرادته وقدرته ويده، وقلمه ولوحه ورقمه، وملائكته وكرام الكاتبين، وكتبه ورسله، واليوم الآخر لمعاد عباده إليه، ورجوع الخلائق لديه، ومُثول الأرواح والنفوس بين يديه، مع الإخلاص له في العبوديّة.
وأعني بالإخلاص؛ أن يَعبد الله بلا مشاركة أحد، وأن يعلم ذاته وصفاته بوجه لا يبقى للكثرة فيه مشرعاً وللإضافة مترعا، ومن فعل هذا فقد أخلص وصلّى، وما ضلّ وما غوى، ومن لم يفعل هكذا فقد افترى وعصى، والله تعالى أجلّ من ذلك وأعلى.
ثمّ إنّك لمّا قرع سمعك مراراً أنّ موجودات العالم الطبيعي والنشأة الدنيويّة مثنويّة، وحقيقة الإنسان من جملتها لها ظاهر جلّي وباطن خفيّ، ولها صورة مشهورة وحقيقة مستورة، فهو منقسم إلى ظاهر متغيّر، وباطن ثابت هو قلبه وسره، فالصلاة التي هي أشرف أعماله، منقسمة إلى ظاهر خَلقي - وهو الرياضي المتعلّق بالظاهر -، وباطن أمري - وهو الحقيقي الملتزم به الباطن -.
والأوّل يجري مجرى السياسات للأبدان والرياضات للقوى والأدوات الصوريّة، به يناط نظام الجمعيّة التمدنيّة، وقوام الشعرية المصلحيّة لاصلاح الخلق بحسب حالهم، على وجه يؤدي إلى كمالهم وإصلاح بالهم لسلامة مآلهم، وكلتاهما واجبتان عقلاً وشرعاً، فالأولى كلّف بها الشارع بالغا عاقلا ليتشبّه بدنه بما يختصّ به روحه من التضرّع والخشوع إلى الجنبة العالية، ليفارق البهائم بهذه الهيئة الشرعيّة، فإنّ البهائم متروكة عن الخطاب، مسلمة عن العذاب، فأمّا الإنسان فإنّه مخاطب ومحاسب مثاب ومعاقَب، إذ يجب عليه امتثال الأوامر الشرعيّة والعقليّة، والاجتناب عن المناهي الشرعيّة والعقليّة، فلمّا رأى الشارع الحكيم أنّ العقل المنوّر بنور معرفة الله أكرم عند الله، ألزم النفس بالصلاة الحقيقيّة المجرّدة، وهي عرفان الله وملكوته، وكلّف البدن بالصلاة الجسمانيّة اثراً على تلك الصلاة وعنواناً لها لتكون قواه العمليّة مشايعة لقواه الإدراكيّة لئلاّ تزاحمها.
وهذا الذي ذكرنا نظير مطالعة البصر الأرقام الهندسيّة عند مطالعة العقل براهينها الكليّة، وكذا المحاكاة الخياليّة والبدنيّة عن التعمّق في العلوم الدقيقة وأشباهها، وذلك لعلاقة شديدة بين النفس والبدن، فإذا كانت حركات القالب محاكية لما يتصوّره القلب، تكون أعمال القلب آكد وأصفى عن المزاحمة، فلذلك اوجب الشارع صورة الصلاة على الإنسان تتميماً لصلاته الحقيقية ما دام في الدنيا، كما أثبت الله له الوجود الجسدي ما دام الدنيا، وقايةً لروحه وحفظاً وإمساكاً له عن الخلل والفساد إلى حين بلوغه العقلي، ووصوله إلى عالَم المعاد، فركّب أعداد هذا التعبد الجسماني، ونظّم أركانه على أبلغ نظام في أحسن صورة وأتمّ هيئة، لتتابع الأجسام الأرواح في التعبّد - وإن لم تطابقه في المرتبة والتوحّد -، وتتابعه في التكرار، وإن لم توافقه في الدوام والإتّصال -.
الإشراق التاسع
في منشأ وجوب هذا التعبد الروحاني
هذه الصلاة قد وجبت على سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة قد صعد إلى العالَم العلوي، وتجرّد من بدنه، وتنزّه من أمله، ولم يبق معه من آثار الحيوانيّة شهوة ولا من لوازم الطبيعة قوّة، ولا من الدواعي النفسانيّة بقيّة، فناجى ربّه بقلبه وروحه، فقال كما روي عنه:
"وجدت لذّة غريبة في ليلتي هذه فاعطني هدى ويسِّر عليّ طريقاً توصلني كلّ وقت إلى لذّتي" .
فأمره الله بالصلاة فقال: "يا محمّد - المصلّي مناج ربه".
ولا يخفى على المتأمّل العاقل أنّ مناجاة الله لا تكون بالأعضاء الجسمانيّة، ولا بالألسن الحسيّة، لأنّ هذه المكالمة لا تصلح إلاّ لمن يحويه مكان وتعتريه حركة وزمان، أمّا الواحد المقدّس الذي لا يحيط به مكان، ولا يحويه زمان، ولا يدركه حسّ أحد، ولا يشار إليه بجهة من الجهات، ولا يختلف حكمه في صفة من الصفات، ولا يتغيّر في وقت من الأوقات، فكيف يعاينه الإنسان المشكّل المجسّم المحدود بجسمه وقوله وفعله وحسّه، وكيف يناجي في هذ العالَم المركّب الخروب من لا يعرف حدود جهاته ولا يرى جناب صفاته، فإنّ الموجود المطلق عن عالَم المُثل والمحسوسات، بل المرتفع عن العقول القادسات غائب عن الحواسّ غير مشار إليه بالأخماس، ولا يدرك بالإلماس، ومن عادة الجسم والجسمي أن لا يناجي ولا يجالس إلاّ مع من يراه بالبصر ويحسّ بالحسّ، ويدركه بإحدى الخمس، وإذا لم ينظر إليه يعده غائباً، ويكون بفقده عن المَشاعر خائباً، فمن كان خارجا عن هذا الباب مقدّسا عن طرفي هذا النفي والإثبات جميعا، وعن المداخلة والمزايلة رفيعا، فمناجاته بإحدى الظواهر والآلات أمحل المحالات، وأفحش الخرافات والموهومات.
فإذاً قوله: "المصلّي مناج ربّه" محمول على عرفان النفوس العرافة العلاّمة المجردة عن جهات الجسم والمكان، وحوادث الحركة والزمان، فهم يشاهدون الحقّ مشاهدة عقليّة، ويبصرون الإله ببصيرة نوريّة ويسمعون كلامه سماعاً روحانيّاً.
تفريع
درجات الانتفاع من الصلاة
فتبيّن أنّ الصلاة الحقيقيّة التي تنهى عن فحشاء القوّة الشهوية البهيميّة، ومنكر القوّة الغضبيّة السَّبُعيّة، وبغي القوّة الوهميّة الإبليسيّة، هي المعارفة الربانية والمشاهدة الإلهيّة والمكالمة العقليّة، وهي التضرّع بالنفس الناطقة نحو الإله الحقّ والموجود المطلق.
ولأصحاب العلوم الظاهرة من هذه حظّ ناقص، وإن ارتقوا من منزل البهائم قليلاً وارتفعوا من درجة العوامّ والأنعام يسيراً، وللمحقّقين قِسم وافر ونصيب كامل من هذا البحر الزاخر، ولهم قرّة عين في الصلاة، ومن كان حظّه أكمل فثوابه أجزل، فالعاقل يتأمّل سلوك طريق التعبّد والمداومة على الصلاة ويلتذّ بمناجاة ربه لا بشخصه، وينطقه لا بقوله، ويبصره لا ببصره، ويحسّه لا بحسّه.
وأمّا الجاهل المغرور فيطلب ربّه بشخصه وجسمه، ويطمع في رؤيته بعينه، وكذا العالم الممكور المشغوف بما عنده من القشور، الطالب في مناجاته للذّات عالَ الزور، المتوجّه إلى تحصيل المنزلة والجاه عند أصحاب القبور، ومن آثر الهوى واتّبع الشيطان، انحرف عن الحقّ والهدى، وحرّم الله عليه لذيذ مناجاته، كما ورد في أخبار داود - على نبيّنا وعليه السلام - "إنّ أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أُحرّم عليه لذيذ مناجاتي.
وقال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب: "إنّ الله عزّ وجلّ يقول: إنّ أهون ما أصنع بالعالِم إذا أحبّ الدنيا أن أخرج مناجاتي في قلبه". -
{ { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور:40].
الإشراق العاشر
في سرّ الأسبوع ولميّة وضع أيّامها
اعلم - أنّ كلّ وضع من الأوضاع إذا لم تطلع على سرّه العقول البشريّة، فلا بدّ في إدراك لميته وسببه من طور آخر وراء طور العقل المشوب بالوهم، وذلك لامتناع التخصيص من غير مخصّص، كحروف التهجّي، وأيّام الأسبوع، فما ثبت للعقول الكشفيّة من أصحاب الذوق والعرفان أنّها وضعت بإزاء الأيّام الإلهيّة التي هي مدة عمر الدنيا - وهي سبعة آلاف - كما هو المشهور بين الجمهور - على عدد أدوار الكواكب السبعة السيّارة التي مدّة دورة كّل منها الخاصّة ألف سنة.
وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّه قال:
"عمر الدنيا سبعة إلاف سنة، بقيت في آخرها ألف" .
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا نبيّ بعدي على هذه الأمّة إلى يوم القيامة" .
وهو يوم العرض الأكبر، ويوم العرض الثاني، كما أنّ يوم الميثاق يوم العرض الأوّل، كما أشار إليه تعالى بقوله: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف:172].
وبين اليومين مدّة سبعة أيّام، كلّ يوم كألف سنة ممّا تعدّون.
فكما أنّ الدنيا كمدينة جامعة ومصر جامع، فيها من كلّ الخلائق والرجال والنسوان والمشايخ والصبيان، فمنهم أخيار وأشرار، وصلحاء وفجّار، وعلماء وجهّال، وهم مختلفو الطبائع والأحوال والأخلاق والآراء والأعمال، فهكذا في العالم الكبير، نفوس كثيرة بسيطة، ونفوس جزئية مختلفة الحالات، فمنها نفوس علامّة خبيرة فاضلة، ومنها نفوس درّاكة شريرة وهميّة، ومنها نفوس جاهلة شريرة، ومنها جاهلة غير شريرة.
فالأول جنس الملائكة، وصالحو المؤمنين والعلماء الربّانيّون، والثانية مردة الشياطين، وسحرة الجنّ والإنس، والفراعنة والدجّالون، والثالثة أنفس السباع الضارية، والجهّال الأشرار من السباع، والرابعة أنفس الحيوانات السليمة كالغنم والحمام وغيرها، والنفوس الساذجة من الإنسان.
وكما أنّ المدنية الجامعة فيها مساجد وبيَع وصلوات، ولأهل الدين فيها مجالس وجماعات، وأعياد وجمعات، وعبادات وأذكار، فهكذا في فضاء الملكوت وأرض القيامة وفسحة الجنان وسِعة العرش والسموات، جموع من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والعلماء، ولهم تسبيحات ودعوات مستجابات، كما ذكر الله تعالى بقوله:
{ { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20] وقال: { { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [الزمر:75] - الآية -.
وكما أنّ لأهل المدينة فيها حبوس ومطامير عليها شُرَط وأعوان، فهكذا في العالم الكبير، للنفوس الشريرة جهنّم وسجّين ونيران وهاوية، عليها زبانية وملاك وغضبان.
وكما أنّ تلك المدينة فيها لأهلها صنائع وأعمال، وللصناع والعمّال أجرة وأرزاق، وفيها بائعون وتجّار يتعاملون بموازين ومكائيل، ولهم مظالم وخصومات ودعاوى، ولهم فيها قضاة وعدول، ولهم فقه وأحكام وفصول، وأنّ من سنّة القضاة والحكّام البروز والجلوس لفصل القضاء في كلّ سبعة أيّام يوم واحد، فهكذا يجري حكم الله وحكم النفوس الكليّة يوم القيامة ويوم العرض الأكبر، ففي كلّ سبعة أيّام يوم واحد وضع لعرض النفوس الجزئية لدى النفوس الكليّة لفصل القضاء بينهم، لقوله تعالى:
{ { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [الزمر:69 - 70].
وقوله:
{ { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47].
الإشراق الحادي عشر
في سرّ يوم الجمعة
اعلم أنّ اليوم السابع من الأيّام الربّانيّة الأسبوعيّة، هو الذي وقع فيه ظهور النور التوحيدي في المظهر الجمعيّ المحمّدي، وإكمال الدين وارتقاء النفوس إلى المبدأ الذي هبطت منه، وقطع القوس العروجيّة إلى غايتها الأصليّة، هو يوم الجمعة، وهو آخر يوم من آيّام الدنيا بوجه، وأوّل يوم من أيّام الآخرة بوجه، لقيام الساعة فيه، والظهور التامّ للحقّ، ووقوع القيامة الكبرى، وعند ذلك يظهر فناء الخلق والبعث والنشور والحساب، وفيه يتميّز عند عرفاء أمّته أهل الجنّة وأهل النار، وفيه يُرى عرش الله بارزاً كما حكينا في حديث حارثة الأنصاري (ره) عن شهوده.
وقد مرّ في تفسير سورة الحديد عند قوله تعالى:
{ { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الحديد:4]. أنّ الأيّام الستّة الماضية هي مدّة احتجاب الحقّ بالخلق، لأنّ الخلق حجاب على وجه الحقّ، فمتى خلقهم اختفى بهم، وقد بيّنا هناك بوجه حِكَميّ؛ أنّ بقاء الدنيا وعالَم الطبيعة عين حدوثها وتغييرها، ووجودها عين عدمها وزوالها، واليوم السابع هو يوم الجمعة، وزمان استواء الرحمن على العرش بالظهور في جميع الصفات، وابتداء يوم القيامة الذي طلع فجره ببعثه نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالمحمديّون أهل الجمعة، ومحمّد صاحبها وخاتم النبيّين، وبه اكمال الدين لقوله تعالى:
{ { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة:3] - الآية -.
تتمة:
اتّفق أهل الملل كلّها من اليهود وغيرهم على أنّ الله قد فرغ من خلق السموات والأرض في اليوم السابع، إلاّ أنّ اليهود قالوا: "إنّه السبت وابتداء الخَلق من يوم الأحد"، وعلى التأويل الذي ذكرنا يكون هو يوم الجمعة.
وكون الأحد ابتداء الخلق، يُأوّل بأنّ أحديّة الذات منشأ الكثرة، وإن جعلنا الأحد أوّل الأيّام ووقت ابتداء الخلق، كان جميع دور النبوة دور الخفاء، وفي السادس ابتدأ وازداد في الخواصّ، كما ذكر انّه يوم خلق آدم الحقيقي، ويوم الساعة، ويوم المزيد، ويوم دخول الجنّة، وسيّد الأيام - كما مرّ ذكره في الأحاديث المرويّة في فضل يوم الجمعة -، حتّى ينتهي إلى تمام الظهور، وارتفاع الخفاء في آخره عند خروج المهدي (ع) ويعمّ الظهور في السابع الذي هو السبت.
إكمال:
لمّا كان هذا اليوم - أي الجمعة - موضوعاً بأزاء المعنى المذكور ندب الناس فيه إلى الفراغ من الأشغال الدنيويّة التي هي حجب كلّها، وإلى الحضور والاجتماع في الصلاة وأوجب السعي إلى ذكر الله وترك البيع والسعي في الدنيا لكي تتظاهر النفوس بهيئة الاجتماع في صلاة الحضور المعدّ للوصول إلى حضرة الجمع بالصلاة الحقيقيّة، والتعبد الروحاني، عسى أن يتذكّر أحدهم بالفراغ عن الأشغال الدنيويّة التجرد عن الحجب الخلقيّة، وبالسعي إلى ذكر الله السلوك في طريق الوصول إليه، وبالصلاة مع الاجتماع الوصول إلى حضرة الجمع فيفلح - { ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } - أي سرّ ذلك وحقيقته.
الإشراق الثاني عشر
في ما قيل في قوله تعالى: { إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ }
قال المفسّرون: أي إلى الخطبة والصلاة، ولتسمية الله الخطبة ذكراً له، ذهب أبو حنيفة وأتباعه إلى أنّه ان اقتصر الخطيب على مقدار ما يسمّى ذكرَ الله - كقوله: الحمد لله. سبحان الله - لكفى.
وقيل إنّ عثمان صعد المنبر فقال: "الحمدُ لله" وأرتجّ عليه، قال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً، وإنّكم إلى إمامٍ فعَّال أحوج منكم إلى إمامٍ قوّال، وستأتيكم الخطب. ثمّ نزل وكان ذلك بحضور الصحابة فلم يعب عليه.
وعند الشافعي وصاحبيه؛ لا بدَّ من كلام يسمّى خطبة، وعند فقهائنا الإمامييّن - رضوان الله عليهم أجمعين - تجب الخطبتان، ويجب في كلّ منهما: الحمد لله بما هو أهله، والصلاة على النبيّ وآله، والموعظة وقراءة سورة خفيفة.
وقيل: يجزئ ولو آية واحدة ممّا تتمّ به فائدتها.
وفي رواية سماعة: يحمد الله ويثني عليه، ثمّ يوصي بتقوى الله، ويقرأ سورة خفيفة من القرآن، ثمّ يجلس، ثمّ يقوم فيحمد الله ويثني عليه ويصلّي على النبيّ وآله وعلى أئمّة المسلمين، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
فإن سئل: كيف يفسّر ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثناء عليه وعلى أئمّة المسلمين، وأهل بيته، وأتقياء المؤمنين، والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، وأمّا ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقّاء بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان، نعوذ بالله من غربة الإسلام ونَكد الأيّام.
الإشراق الثالث عشر
في قوله تعالى: { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ }
أي: دعوا المبايعة. قال الحسن: كلّ بيع تفوت منه الصلاة يوم الجمعة فإنّه بيع حرام لا يجوز، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر الآية، لأنّ النهي يدلّ على فساد المنهيّ عنه مطلقا، عبادةً كان أو غيرها.
وأكثر فقهائنا الإماميّين - رضوان الله عليهم - على أنّ البيع حرام إلاّ أنّه غير فاسد بل منعقد، لأنّ النهي في العبادات وإن كان مستلزماً للفساد لاستحالة الجمع بين المأمور به في الجملة والمنهيّ عنه، ولكن في غيرها غير مستلزم له.
وقيل: إنّ النهي فيها أيضاً غير مستلزم للفساد إلاّ أن يكون المنهيّ منافياً لها أو لبعض أركانها، كالصلاة في الدار المغصوبة، لأنّ خروج المكلّف عنا مأمور به، والقيام منهيّ عنه وهو ركن في الصلاة، والحركة والسكون متنافيان فلا يكونان مأموراً بهما معاً، وكيف يكونان مأموراً بهما حتّى يلزم أن يكون قيام واحد مأموراً به ومنهيّاً عنه، وهو محال، لأنّ الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه العامّ بل الخاصّ - على رأي -، وتنقيح هذه المسألة موكول إلى علم أصول الفقه، فليطلب من هناك.
الإشراق الرابع عشر
في قوله تعالى: { ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
أي: ما أمرتم به من حضور الجمعة واستماع الذكر وأداء الفريضة وترك البيع، أنفع لكم عاقبة إن كنتم عالمين بمنافع الأمور ومضارّها، ومصالح أنفسكم وأرواحكم ومفاسدها.
وفيه دليل على أنّ ملاك الأمر في العبادات على العلم الصحيح والنيّات الخالصة.
وقيل: معناه: اعملوا ذلك. عن الجبائي.
وفي هذه الآية دلالة على وجوب الجمعة وتحريم جميع التصرّفات عند سماع أذان الجمعة، والبيع إنّما خُصّ بالنهي عنه لكونه أعمّ التصرّفات في أسباب المعايش.
وفي الكشّاف: لأنّ يوم الجمعة يوم يهبط الناس من قُراهم وبواديهم وينصبّون إلى المصر من كلّ اوب ووقت لسقوطهم واجتماعهم واختصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى إلى الضحى، ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تجرى التّجارة ويتكاثر البيع والشراء وقيل لهم: بادِرو تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه مقارب، وممّا يدلّ على تحريم شواغل الدنيا عن حضور الجمعة عند النداء، أنّ الله سمّاه خيراً، وترك الخير الكثير من العالم به لأجل النفع الحقير - وإن كان الحقير عاجلاً والكثير آجلاً - حرام عقلا، فكيون حراماً شرعا، كما هو عند أصحابنا القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين.
تفريع:
في هذه الآية دلالة على أمور:
الأوّل: أنّ الخطاب للأحرار لأنّ العبيد لا يملكون البيع.
الثاني: اختصاص الجمعة بمكان معيّن. ولذلك اوجب السعي إليه.
الثالث: اختصاص وجوبها على من يقدر على الحركة والسعي، فخرج من المكلّفين أصحاب الأعذار من السفر والمرض والعمى والعرج، أو أن يكون امرأة أو شيخاً هما لا حراك به، أو عبداً أو يكون على رأس أكثر من فرسخين من الجامع.
وعند حضور هذه الشروط ونفي الأعذار لا يجب إلاّ عند حضور السلطان العادل أو من نصبه للصلاة. والعدد يتكامل عند أكثر فقهاء أهل البيت - عليهم السلام - بخمسة لصحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (ع) قال: يُجمع القوم يوم الجمعة إذا كان خمسة فما زاد، وإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم. وغير ذلك من الروايات.
وقيل: بسبعة لما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ولا تجب على أقلّ منهم: الإمام وقاضيه، والمدّعي حقّاً، والذي عليه الحقّ، والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام.
وعند أبي حنيفة والثوري يتكامل العدد بثلاثة سوى الإمام.
وعند الشافعي ينعقد بأربعين رجلاً أحراراً بالغين مقيمين.
وعند أبي يوسف ينعقد بإثنين سوى الإمام.
وعند الحسن وداود ينعقد بواحد غير الإمام كسائر الجماعات.
وقال صاحب الكشّاف: "عند أبي حنيفة لا ينعقد إلاّ في مصر جامع لما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
"لا جمعة ولا تشريق ولا فطرة ولا أضحى إلاّ في مصر جامع" - والمصر الجامع ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام -.
ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه، لوقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):"فمن تركها وله إمام عادل - الحديث -". وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"أربع إلى الولاة - الفيء والصدقات والحدودات والجماعات" "فإن أمّ رجل بغير إذن الأمام أو من ولاّه من قاضي أو صاحب شرطة لم يجز، فإن لم يمكن الاستيذان فاجتمعوا على واحد فصلّى بهم جاز، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام" - انتهى -
والاختلاف بين الفقهاء في مسائل الجمعة كثير موضع بيانه كتب الفقه.