التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ
١١
وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ
١٢
-الطارق

تفسير صدر المتألهين

هذا قَسَم آخر منه سبحانه تأكيداً لأمر القيامة.
و "الرَجْع": المطر. سُمّي رَجْعا كما سمّي "أوْباً" لأنّه يرجع ويؤوب كلّ حين - من باب إطلاق المصدر وإرادة المشتقّ، أو من باب حمل معناه عليه مبالغة، أو لإرادة التفاؤل - فسمّوه رجْعاً وأوباً ليرجع ويؤوب، ولا يبعد أن يقال: سمّي بالرجع، لأنّ الريح ترفع الأبخرة والأدخنة من البحر والأرض وتسير بهما إلى الجوّ وتنعقد سحاباً ماطراً فتمطر، والمطر يرجع إلى حيث رفع منه، لأنّ السيول والأودية تجريان وتنصبّان إلى البحر أخيراً.
وقيل: رجع السماء: إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالاً بعد حال على مرور الأزمان، فترجع بالغيث وأرزاق العباد.
ولأحد أن يقول: السماء ذات الرجع، لاستدارة حركتها، فهي كلّ آنٍ ترجع إلى موضع فارقته. أو أنّها ذات الرجع، لكونها ذات كواكب راجعة في سيرها، وسمّي الكوكب "رَجْعا" بأحد الوجهين المذكورين، وهي الخمسة المتحيّرة التي يكون كلّ منها في فلك غير شامل للأرض يسمى بالتدوير، يحمله فلك شامل لها يسمّى: بالحامل، نسبة حركة أحدهما وهو "التدوير" إلى حركة الآخر سرعةً، أعظم من نصف قطر الآخر إلى نصف قطره، ونسبة حركة الآخر إلى الأوّل بطؤاً، بالعكس - كما بُرهن عليه في علم الهيئة بمقدّماتٍ هندسيّة -.
وهذا يوافق ما نقل عن ابن زيد في مجمع البيان أنّ المعني بالرجع شمسها وقمرها ونجومها لأنّها تغيب ثمّ تطلع.
وهنا وجه آخر؛ وهو أنّ الإنسان لمّا كان عالَما صغيراً فيه جميع ما في هذا العالَم، فلا يبعد أن يراد بقوله: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } - الدماغ وما فيه من القوى المدركة والمتصرّفة، وما يحصل له من الأحوال المذكِّرة، والإلهامات والعلوم الراجعة المتكرّرة، وإن شئت خصّصت الرجوع بالقوّة المذكّرة ويقال لها: "المسترجعة"، ومحلّها التجويف المؤخّر من الدماغ، فأعرفها فإنّها دقيقة نفيسة. وعند تأويل السماء بالدماغ، ينبغي أن تُأوّل الأرض بمثل المعدة أو الكبد، حيث يتصدّع عمّا ينبعث منه من الأغذية والأبخرة.
و "الصَدْع": اسم ما يتصدّع عنه الأرض من النبات، أو تنشقّ من الأشجار والعيون وغيرها.
ولا يبعد أن يراد من الأرض والنبات قلب الإنسان، أعني نفسه الناطقة، ومراتب استعداداتها الناشية منها بامداد الفعّال الذي هو كالسماء، فانّ النبات له أزواج متفاوتة وأصناف مختلفة، فيكون بعضها إشارة إلى المرتبة الأولى للاستعداد وهو العقل الهيولاني الذي هو أوّل مراتب النفس القابلة للمعاني الكليّة.
وبعضها يكون تلويحاً إلى ثاني مراتبها المسمّى بالعقل بالمَلَكة الحاصل باستعمال الحواسّ وحصول الأوّليات، وهو مناط التكليف.
وبعضها يكون إيماءً إلى المرتبة الثالثة، ويسمّى حينئذ عقلاً بالفعل عند تحصيل النظريّات لها، بمعنى أنّها متى شاءت والتفتت إليها حصّلتها بلا كسب وتعمّل.
وبعضها يكون إشارة إلى المرتبة الرابعة، وهي حصول العلوم الكليّة والحقائق العقليّة لها مشاهدة، ويسمّى العقل المستفاد المضيء في دار المعاد.
وعند هذا التأويل، يكون معنى "السماء ذات الرجع" العقل الفعّال، لأنّه يسترجع النفوس من هذا العالَم إلى ما هبطت منه من المحلّ الأعلى كما قال بعض الحكماء:

هبطت إليك من المحلّ الأرفعورقاء ذات تعزُّز وتمنُّع

وما أشبه حال هذه المراتب الحاصلة من أرض النفس الناطقة بتأثير سماء عالَم العقل، بحال المواليد الحاصلة من الأرض، فإنّ الجماد بإزاء العقل الهيولاني، لما فيه من قابليّة كونه غذاء للإنسان، والنبات بإزاء العقل بالمَلَكة، وفيه استعداد تغذيته بالحيوان وخصوصاً الحصّة من الجنس التي تكون في الإنسان بإزاء العقل بالفعل، لأنّه قريب التهيّؤ لأن يصير إنساناً، والإنسان الحسّي بإزاء العقل المستفاد الذي هو الإنسان العقلي - فاعلمه فإنّه كثير الجدوى -.