التفاسير

< >
عرض

إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
١٣
وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ
١٤
-الطارق

تفسير صدر المتألهين

هذا جواب القسم، والضمير للقرآن، يعني أنّ القرآن يفصل بين الحقّ والباطل بالبيان عن كلّ واحد منهما، ولذلك يقال له: "الفرقان" وهذا هو المرويّ عن الصادق (ع).
فإن قلت: لم يسبق ذكر القرآن ليصح إرجاع الضمير إليه.
قلت: الأمن من الالتباس مسوِّغ هذا الإضمار، لأنّ وصف كونه فصلاً ليس بهزل، مشعر بأنّ المراد هو الكتاب العزيز الذي لا يتأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وقيل: معناه إنّ الوعد بالبعث والاحياء بعد الموت قول فصل، أي مقطوع به لا خلاف ولا ريب فيه.
ولا يبعد أن يراد بالقول ما هو بمعنى التكوين - على إرادة المفعول -، ويكون إشارة إلى تحقّق البعث، وفيه يتميّز المحِقّ من المبِطل، ولهذا يكون يوم القيامة "يوم الفصْل" لأنّ الآخرة دار الفصْل والتميز والافتراق تتفرّق فيه المختلفات معنى، وتتميّز فيها المتشابهات صورة -
{ { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم:14] والدنيا دار اشتباه ومغالطة يتشابك فيها الحقّ والباطل، ويتعانق فيها الخير والشرّ، والنور والظلمة.
وإن صدق على الآخرة أنّها يوم الجمع، لأنّ هذه الأزمنة والأمكنة الدنيويّة سببان لاحتجاب الكائنات بعضها عن بعض، فإذا ارتفعا في القيامة، ارتفعت الحجب بين الخلائق فيجتمع الخلائق كلّهم، الأوّلون والآخرون
{ { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الواقعة:49 - 50] فهي يوم الجمع، ويوم الفَصل، ولا منافاة بين هذا الجمع وذلك الفصل، بل هذا يوجب ذاك كما قال سبحانه: { { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } [المرسلات:38].
وَمَا هُوَ - أي القرآن - بالْهَزلِ - بل هو جد كلّه. أو القول بوقوع الساعة ليس مجازفة، بل أمر يقيني، وعلى هذا التأويل الذي ذكرناه، يكون معناه أنّ تكوين القيامة ليس عبثاً، بل لغرض المجازاة وإصابة كلّ أحد بما قدّمت يداه، نحو قوله تعالى
{ { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [الأنبياء:16] وذلك لأنّ الهزل والجزاف والعبث ينبئ عن نقصان قابِله أو قصور فاعله، وأنّه سبحانه هو الكامل المطلق والقيّوم بالحقّ والعزيز العليم، الذي لا يحام حول سرادقات عزّته وجلاله نقصان.
كيف وليست إرادته ومشيّته ناشيتين عن داع زائد على ذاته يقهره وغرض يجبره، لأنّ كبرياءه أرفع من أن يتطرّق إليه تمثال أحد، وجنابه أشمخ من أن يتخاطّاه قدم ممكن، فقد جلَّ جناب الحقّ عن أن يكون شريعة لكلّ وارد، أو أن يطلع عليه ألاّ واحداً بعد واحد.
مناجاة:
فانتهي - يا نفس - عن الهزل واللَّدّد، وتخلّقي بأخلاق الله الواحد الأحد، واستيقظي عن نوم الغافلين، وانتبهي من رقدة الجاهلين الذين لا يهمّمهم إلاّ هواهم، ولا يحركهم إلاّ مُناهم ومشتهاهم
{ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } [الحديد:16] يا نفس دعي الهوى واسلكي سبل ربّك بالهدى، ألم يأن لكِ وقد شِبتِ وما انتبهتِ، وبلغتِ سنِّكِ إلى خمسين وما خرجت عن باب عتبتك قدماً إلى منازل القدّيسين.
اللَّهمَّ أتمم لنا نورنا، واغفر لنا ذنوبنا، إنّك على كل شيء قدير وبإعانة الملهوفين جدير.