التفاسير

< >
عرض

فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
١٧
-الطارق

تفسير صدر المتألهين

أمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمهلهم، ولا يتصدّى للانتقام منهم ولا يشتغل بمكايدتهم ومماراتهم، ولا يقدم على مجادتلهم ومباراتهم، وأن يستظهر بكيد الله عنه ومناضلته دونه، ومن ثَمَّ جاء بفاء السببيّة ليدلّ على أنّه إذا علم أنّ الله يكيد له ويذبّ عنه لزمه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمهالهم والوثوق بصنع الله.
ويعلم من قوله: "رُوَيْدَاً" أنّ النصرة تأتيه عمّا قريب، فإنّه اسم للإمهال اليسير. فإن كان المراد عذاب يوم بدر، فالمعنى "لا تعجل عليّ في طلب هلاكهم، بل اصبر عليهم قليلاً، فإنّ الله يجزيهم لا محالة بالقتل والذُلِّ في الدنيا"، وإن كان المراد عذاب يوم القيامة ونكال الآخرة، فالمعنى "قلّل الإمهال ولا تعاجلهم بعذاب الله وانتظر بهم، وارضَ بتدبير الله فيهم وقضائه عليهم، لأن ما هو كان آتٍ لا محالة فهو قليل".
والنكتة في تكرير أصل اللفظ مع تغيير الهيئة، إفادة زيادة التسكين منه والتصبير عليه.
وقال ابن جني: قوله { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ } غيَّر اللفظ لأنّه آثر التوكيد وكره التكرير، فلمّا تجشّم إعادة اللفظ انحرف عنه بعض الإنحراف بتغيير المثال، فانتقل عن لفظ "فعّل" إلى لفظ "أَفعِل" فقال: أمِهلُهم، فلمّا تجشّم التثليث جاء بالمعنى وترك اللفظ قطعا فقال: "روّيداً".
لمعات رحمانيّة عن أنوار قرآنيّة:
إنّ في الآية تنبيهات على علوّ منصب الرسالة وكمال عناية الله في شأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أحدها: أنّه لم يأمره بمكايدتهم ومماكرتهم إيذاناً بأنّهم ليسوا بمراتب معارضته، بل هم أقل وأخسُّ وأحقرُ وأذلُّ من أن يتصدّى (صلى الله عليه وآله وسلم) لمدافعتهم وممانعتهم.
وثانيها: أنّه قابَل كيدهم بكيده تعالى إشعاراً بأنّه تعالى للرسول بمنزلة المحبّ الموافق للحبيب، أو الأب الشفيق للولد، حتّى تكون مخاصمتهم له مخاصمتهم لله تعالى.
وثالثها: الإشارة إلى أنّ كلّ من خالف أمره ونهيه أُذِنَ بحربٍ من الله كما إليه الإشارة بقوله:
"مَنْ آذى لي وَليَّاً فقد آذنتُه بالحرب" وفي رواية: "من بارَز لي وليّاً فقد بارزني" .
فكيف بإيذاء من هو سيّد الأنبياء وأكمل الأولياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبارزته؟
ورابعها: أنّه تعالى أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يمهلهم ويهملهم ولا يشغل سرّه بدفعهم ومنعهم، فلا يشوّش ضميره المنير، ولا يكّدره، ولا يوزع خاطره الشريف بالتفكّر في خصومتهم، بل يلتجي في استدفاع مضرّتهم واستكفاء مؤنتهم إلى جناب الحقّ، ليجازيهم على مكائدهم وساير أفعالِهم السيّئة أسوأ الجزاء، من غير أن يسعى هو في ذلك، تعظيماً لشأنه وإجلالاً لمكانه، واسترفاهاً لِبالِه، وتصفية لضميره الذي هو محلّ الواردات القدسيّة ومورد السكينات الإلهية.
وخامسها: الدلالة بطريق المفهوم على تسلية خاطره (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه تعالى يبيد أعداءه، فإنّ المعنى: أمهِلهم أنت ولا تكايدهم، فإنّي أكفيكَ كيدهم، وأدفع شرَّهم، فاكتف بكفايتنا، واستظهر بعنايتنا، فإنّا نعصمك من الناس ونكفيك الناس، ونعيذك من شرّ الوسواس الخنّاس، كلّ ذلك طمأنينة له وتسكيناً لقلبه المقدّس.
وفيه إيماء إلى أنّه ينبغي أن يرفق بالدعوة، ويدرج في التكميل، ويمهل المدعوّين ريثما ينظروا ويتفكرّوا، فعسى أن يهتدي فيهم من قدرت هدايته.
وبلفظ الهداية نختم الكلام، رجاء أن يجعلنا من المهتدين، حامدين لله على نعمه وسوابغ منحه، ومصلّين على ملائكته وأنبيائه واوليائه، خصوصاً على حبيبه محمَّد خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل بيته وعترته الطاهرين، جعلنا الله من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بفضله وكرمه ومنّه وجُوده ونعمه.