التفاسير

< >
عرض

إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
٤
-الطارق

تفسير صدر المتألهين

هذا جواب القسم، سواء كانت "إنْ" نافية، وذلك في قراءة "لمّا" مشدّدة، بمعنى "إلاّ"، أو كانت مخفّفة من الثقلية - وذلك في قراءتها مخفّفة - على أنّ "مَا" صلة، إذ على أيّ التقديرين، وأيّة القراءتين هي مما يتلقّى به القسم، أي: ما كلّ نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن عليها رقيب، أو أنّ كلّ نفس لَعَلَيْها قائم مقيت.
وإنّما أدخل سور الموجبة الكليّة في الشقّ الأوّل على النفس، ليعمّ جميع النفوس من المفارقات والفلكيّات والعنصريّات، والحافظ الرقيب لها على وجه العموم، هو الله سبحانه لقوله تعالى:
{ { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } [الأحزاب:52]. { { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } [النساء:85].
ولكلّ نفس رقيب خاصّ، وهو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ.
روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم):
"وُكّل بالمؤمن مائة وستّون مَلَكاً يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب، ولو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين" .
وللنفوس الإنسانيّة رقيب واحد عقليّ يسمّى بـ "روح القدس" عند أهل الشرع، وبـ "العقل الفعّال" عند الحكماء، وبـ "روان بخش" عند الحكماء الفارسيّين - وسيأتي إيضاحه.
فإن قيل: إذا حملت "إن" على إنْ المخفّفة، كان ذلك صحيحاً، وأمّا إن حملت على النافية فيكون المعنى: "ليس كلّ نفس" فيكون السور سور السلب الجزئي، فلا يعمّ. فما وجه التوفيق بين القراءتين؟
قلنا: نجيب عنه من وجهين:
الأوّل: إنّ السور وأمثاله من المصطلحات المحدثة، ولا يجب تطبيق كلام الله عليه، واللفظ في جوهره يفيد العموم لأنّه نكرة وقعت في سياق النفي - على ما هو مبيّن في كتب الأصول والعربيّة -.
والثاني: أنّه لمّا تبيّن بالدلالة العقليّة أنّ لكلّ نفس حافظاً، وقد عبّرت عنه القراءة الأولى. فالقراءة الثانية وإن دلّت على السلب الجزئي، فالأوْلى أن يحمل على العموم مجازاً، ولصدق السلب الجزئي على السلب الكليّ صدق العامّ على الخاصّ، وذلك إذا أُخِذَ لا بشرط شيء - كما تقرّر في علم الميزان - ليحصل التوافق بين القراءتين والجمع بين الدلالتين.
هداية عقلية
أدلة تجرّد النفس
من تأمّل في حال النفوس الإنسانية، لعَلِم يقيناً أنّ لها حافظاً عقليّا هو مَلَك من الملاكئة المقرّبين، وله جنود وأعوان من جنس الملائكة الذين مرتبتهم دون مرتبة المقرّبين، كما دلّ عليه الحديث المنقول آنفاً، وذلك لأنّ النفس جوهر مجرّد، أمّا جوهريّتها فلكونها محلّ الصفات المتعاقبة عليها مع بقائها، وهو من خواصّ الجواهر، وأمّا تجرّدها عن الموادّ فبأدلّة كثيرة:
منها: أنّها تدرك المعقولات، وهي معان مجرّدة عمّا سواها، وكلّ إدراك فهو بحصول صورة المدرَك أو حضور ذاته عند المدرِك، وكلّما يحصل في جسم فإنّه يؤثّر فيه ما يلزم الجسم في وجوده الإنفعالي، وتشخّصه المادّي، - مثل الشكل والمقدار والوضع وغيرها -، فلو حصل معقول في جسم لكان يحصل له مقدار وشكل ووضع، فكان يخرج عن أن يكون معقولا، بل يكون محسوسا تنفعل عنه الحواسّ عند المصادفة.
ومنها: أنّها تشعر بذاتها، ولو كانت موجودة في جسم أو آلة لم تشعر بذاتها لعدم حضورها لذاتها، بل لمادّة ذاتها.
ولذلك أشار مقدّم الفلاسفة أرسطاطاليس الحكيم: كلّ راجع إلى نفسه فهو روحاني، إذ لو كانت في آلة لا تدرك ذاتها إلاّ عند إدراك آلتها، فكانت بينها وبين آلتها آلة ويتسلسل، أوَ لاَ ترى أنّ البصر لا يدرك إلاّ ذاته، ولا يدرك آلة ذاته إلاّ بآلة أخرى متوسّطة بينها وبين آلته، والنفس تدرك بذاتها، وتدرك آلاتها أيضاً بذاتها - لا بالآلات - بحضورها بذواتها حضوراً إشراقيّا عند النفس من غير حاجة إلى صورة أخرى.
وبالجملة: فكلّ موجود في آلة فذاته لغيره، وكلّ ما ينال ذاته فذاته له لا لغيره، فيكون مجرّداً عن الأغيار.
ومنها: أنّها تدرك الأضداد معاً، بحيث يمتنع ان يوجد على ذلك الوجه في المادّة.
ومنها: أنّ البدن في التحلّل والذوبان دائماً، لاتيلاء الحرارات الغريزيّة والغريبة الداخلة والمطبقة عليه، والنفس ذاتها غير متبدّلة، لأنّك أنت الذي كنت صبيّا وشابّا بعينك، فتعاليت عن الانطباع وأن تكون نفس المزاج.
ومنها: أنّك تذهل عن كلّ عضو من أعضائك أحياناً - من قلب أو دماغ أو غيرهما - وعن البدن مجموعاً، وخصوصاً وقت النوم أو السكر، ولا تذهل عن ذاتك، فأنت وراء ذلك كلّه، فأنت أنت لا ببدنك، ولا بجزء بدنك، فاعرفها ولا تكونّن من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
ولهذا المطلب وجوه كثيرة من البراهين والاقناعيّات لا نطوّل الكلام بذكرها، وفيما ذكرناه كفاية لما نحن بصدده إن شاء الله تعالى.
مراتب النفس:
وإذا ثبت أنّها جوهر غير جرمي، وهي قابلة لادراك العقليّات بالقوّة أوّلاً، ثمّ بالفعل أخيراً، فلها مراتب، أوّلها الاستعداد المحض سمّيت به العقل الهيولاني.
ثمّ استعداد آخر قريب عند حصول أوائل العلوم المهيّئة لإدراك الثواني، إما بالفكر أو الحدس، سميت به العقل بالمَلَكة.
ثمّ يحصل لها بعد ذلك قوّة وكمال، أمّا القوّة فهي أن يكون لها حالة عقيب الأنظار وتكرار المشاهدات، بها تحضر المعقولات متى شاءت من غير طلب وتعمّل، وهذا هو أقرب الاستعدادات، وسمّيت به العقل بالفعل
{ { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [النور:53].
وأمّا الكمال، فهو أن تكون المعقولات لها حاصلة بالفعل، مشاهدة سميّت به العقل المستفاد، وعند ذلك شبّهت بالمبادي العالية، صائرة عالماً عقليّا يضاهي العالم العيني في الصورة لا في الموادّ.
مخرج النفس من القوة إلى الفعل وحافظها:
فإذا علمت هذا، فاعلم أنّ مُخرجَ النفس من القوّة إلى الفعل في كمالها العقلي ليس ذاتها، إذ الشيء لا يخرج ذاته من النقص إلى الكمال، وإلاّ لكان الشيء أشرف واكمل من ذاته، ضرورة أنّ المعطي للكمال لا يقصر عنه، ولأنّ جهة الفعل غير جهة الإنفعال، وهي ليست جسما مركّبا من مادّة وصورة - حتّى تفعل باحداهما وتنفعل بالأخرى - ولا الجسم أيضاً هو مكملّ النفس، لأنّ مرتبته دون مرتبتها، ولا نفس أخرى من نوعها إذ لا أولويّة لبعض أفراد طبيعة واحدة بحسب ذاته النوعيّة، ولأنّ النفس - بما هي نفس - لا تؤثّر إلاّ بمشاركة الجسم ووساطة الوضع، وإلاّ لكانت عقلا محضاً، وكم من نفس شريفة رامت إخراج نفس من القوّة إلى الفعل فسمعت من الحقّ:
{ { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص:56].
فمخرجها إلى الكمال مَلَك كريم روحانيّ، عنده صور الأشياء بالفعل، وهو فعّال المعقولات ومفيضها على قلب من يشاء بإذن الله تعالى.
وأيضاً: إنّ النفس إذا غابت عنها صورة عقليّة كانت أدركتها، ولها الرجوع إليها متى شاءت دون كسب، فلا بدّ لها من خزانة عقليّة تحفظ لها المعقولات عند ذهولها، وليست الخزانة فيها أو في جسمها.
أمّا الأوّل: فلعدم تجزّيها بجزءين، بأحدهما تدرك وتتصرّف، وبالآخر تحفظ وتخزن.
وأمّا الثاني: فلما علمت من أنّ المعقولات تحلّ الجسم المنقسم بالمقادير الوضعيّة، فإذن لها مكمّل وهو مَلَك مقرّب عقليّ لم تكن فيه جهة القوّة والاستعداد أصلا وإلاّ لكانت نفسا محتاجة إلى مخرج آخر ومكمّل لها، فيتسلسل أو يدور - وكلاهما محال -، أو ينتهي إلى أمر عقليّ بالفعل، وهو مطلوبنا، فكلّ نفس لها حافظ من جواهر الملائكة المقرّبين، يحفظ لها وعليها كمالاتها، إذا اتّصلنا به أيّدنا بالأنوار وكتب في قلوبنا الإيمان لأنّه قلم الحقّ الأوّل، وإذا أعرضنا عنه بالتوجّه إلى المحسوسات، انمحت الكتابة، ونفوسنا كمرآة إذا أقبلت إليه عند نقائها عن الكدورات والمعاصي قبلت، وإذا أعرضت أو احتجبت تخلت، ونسبته إلى نفوسنا كنسبة الشمس إلى الأبصار.
وليست المقدّمات بذاتها موجدة للنتيجة لأنّها أعراض، والعَرَض لا يوجِدُ شيئا، بل المقدّمات وغيرها معدّات، والواهب غيرها.
فان قلت: ما الحاجة إلى اثبات هذا المبدأ العقلي بعد اثبات الحقّ الأوّل؟
قلت: النفوس كثيرة لا بدّ لها من مبدأ ذي جهات كثيرة في الفاعليّة، والجهات الكثيرة مرتبتها منحطّة عن مرتبة الذات الأحديّة الصرفة بمراحل كثيرة، فلا بدّ من وسائط بيننا وبينه لغاية مجده وعلوّه، ونهاية عجزنا وقصورنا، فلا نصل إلى جناية إلاّ بعد طيّ مراتب حجابه.
وفي الحديث:
"إنّ لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها أحرقت سبحات وجهه كلّ ما انتهى إليه نظره" .
فإذا تحقّق ذلك، فاعلم أنّ الله سبحانه خلق للإنسان جنوداً وحَفظَةً غائبة عن عالم الحواسّ، تخدمه وتحفظه من الآفات، وكتب عليه أعماله وتضبط له آجاله، فبعض هذه الجنود مبادي الإدراكات والإنفعالات، وبعضها مبادي التحريكات، وبعضها كتبة الأعمال، وبعضها حفَظة الأقوال، ولكلّ صنف منها رؤساء ومرؤوسين وخُدّام ومخدومين.
فمخدوم المبادىء الإدراكيّة مبدأ نظريّ شهيد عليها، ثمّ بعده مخاديم عشرة مرتبتها دون مرتبته، هو ينظر إليها ويستخدمها كما تستخدم هي غيرها من صور أشياء تكون من نوعها وجنسها، ولبعضها جنود وأعوان لا يمكن إحصاؤها كثرة، انبثّت في مملكة البدن، ليس فيه موضع قدم يخلو منها.
ومخدوم المبادي التحريكيّة - أيضاً - مبدأ شوقيّ مخدوم لها، وله جندان خادمان له، أحدهما يخدمه لجلب ما يشتهيه من الأشياء الكثيرة الملائكة لطبعه، والآخر يخدمه لدفع ما يكرهه من المضارّ والمنافيات لطبعه، ولهما جنود غير محصورة تخدمهما، سبعة منها بمنزلة الدعائم والرؤساء للبواقي، لكلّ منها اسم خاصّ عند الله، وصفة خاصّة، وفعل خاصّ، ولكلّ منها محلّ خاصّ هو موضع سلطانها، ومحلّ عام هو مواضع تصرّفاتها، وقد مكّن الله جميها على التصرّف في موادّ الأجسام الحيوانيّة والنباتيّة وغيرها ممّا في الأرض بالجذب والدفع، والقبض والبسط، والحبس والإمساك، والإحالة والتبديل، والنضج والإلصاق، والتصوير والتشكيل.
كما أشار إليه بقوله:
{ { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة:29].
كما قد مكّن الله جميع الصنف الأوّل على التصرّف في صور تلك الموادّ وغيرها بنزعها وإدخالها وإحضارها في صُقع النفس وعالمها، وتقديمها وتأخيرها وتأليف بعضها ببعض، وانتاجها - الى غير ذلك من أنحاء التصرّفات كالحفظ والاسترجاع -، كلّ ذلك بأمر الله المطاع وعنايته بتعمير هذه النشأة الإنسانيّة في هذا العالم، كما دلّ عليه الحديث المنقول آنفاً.
فإنّ معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"لو وكل العبد إلى نفسه لاختطفته الشياطين" أنّه لولا إفادة الله له هذه الجنود الباطنيّة الطبيعيّة والنفسانيّة، حتّى يقيمه ويديمه مدّة في هذه الدنيا ليتزوَّد للآخرة بالأعمال الصالحة، ويكتسب المعارف الحقيقيّة بتأييد المَلَك المفارق المكمل له، لاختطفته شياطين هذا العالم، من الجواهر الطبيعيّة النفسانيّة المستولية على الأجسام بالإفساد والقطع والتحليل والقتل والإهلاك، فإنّ بدن الإنسان في معرض الآفات، ومعدن البليّات، كالحرق بالنار، والغرق في الماء، والتسخين والتبريد المفرطين من الهواء، والخسف والزلازل من الأرض، وشرب السموم والأدوية الضارّة الجماديّة والنباتيّة، ومصادفة العدوّ الحيواني كالسبع الضاري، والكلب العقور، والأفاعي، ومواجهة الخصماء من الإنس وغير ذلك.
فكلّ هذه من توابع الشياطين بصدد اختطاف العبد في هذا العالم إن وكّل إلى نفسه، ولم يحفظه الحفظَة بأمر الله.
ولولا إفادة الله أيضاً لعباده المخلصين جنوداً أخرى يحفظونه ويذبّون عنه في طريق الآخرة عن اختطاف ضرب آخر من مردة الشياطين، وهم الذي يريدون أن يَسَّمعوا إلى الملأ الأعلى، فيُقذفون من كّل جانب، دحوراً ولهم عذاب واصب، إلاّ من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ويقول سفيههم على الله شططاً من إثبات الصاحبة والولد له سبحانه، ويحكم على غير المحسوس، وإلاّ على الخير وإراءَتهم الباطل على صورة الحقّ، والحقّ على صورة الباطل - والله يَهْدي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ.