التفاسير

< >
عرض

فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
٥
-الطارق

تفسير صدر المتألهين

لمّا قرّر سبحانه أنّ على كلّ نفس حافظاً ومُبقياً لوجوده، وهو علّته الفاعليّة، أراد أن يهديه سبيل معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله، إذْ بها تتمّ حياته الكاملة في النشأة الدائمة، وبدونها موت الجهالة وهلاك السرمد وعذاب الأبد، وهي متوقّفة على معرفة النفس، لأنّ النفس سُلّم المعارف كلّها والمرقاة إلى الحضرة الإلهيّة، فمعرفتها منشأ معرفة الحقّ ذاتاً وصفة وفعلاً، والشيء من ذوي الأسباب لا يمكن العلم به إلاّ من جهة العلم بأسبابه.
والأسباب أربعة من المركّب: فاعل، وغاية، ومادّة، وصورة، وفي الأمر الصوري - كالنفس - ثلاثة: لأنّ صورته ذاته، بخلاف المركّب فإنّ صورته ليست ذاته بل جزؤه وعلّة جزئه الآخر بمعنى آخر، كما أنّ المادّة جزؤه الآخر - وهي أيضاً - علّة الصورة لا بهذا المعنى، بل بمعنى آخر.
فالإنسان صورته نفسه الناطقة، ومادّته حاصلة من الطين اللازب، ثمّ من المني المركّب من العناصر الحاصل منه الأخلاط الأربعة، ومن لطافتها ودخانيّتها الأرواح البخاريّة، ومن كثافتها ورماديّتها الأعضاء، وتتوسّط بينهما الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين والعضلات، ومجموعها البدن، وهو المادّة القريبة للإنسان المأخوذ منها جنسه وفصله مأخوذ من النفس التي صورته وفاعله الملك المتصرّف فيه بأمر الله، بإمداد ملائكة أخرى موكّلة على السموات والأرضين كما أشار إليه بقوله: عَلَيْهَا حَافِظُ.
وغايته عبادة الله وطاعته، كما أشار إليه بقوله:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56].
فلذلك أمَره ووصّاه بالنظر في أسباب مهيّته ووجوده في نشأته الأولى، ليعلم ويستدلّ بها على قدرته تعالى على النشأة الثانية، كما نبَّه عليه قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة:62] أي: حال نشأتكم الثانية والنظر في ترتيب أمور معلومة للتأدّي إلى مجهول، فمادّته خِلقة الإنسان، وصورته من حيث هي صورته من هذه النشأة، وأمّا فاعله وغايته فلهما النشأة الأخرى.
والمادّة أقدم في الزمان، فقدّمت معرفتها وسبيل النظر إليها والاستدلال بها على غيرها، فقال: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } أتى بـ (ما) الاستفهاميّة المستعملة لطلب تمام حقيقة الشيء، أو شرح مهيّته ومرتبتها بأوّل الوجهين، بعد "هل" البسيطة الطالبة للتصديق بوجوده وبالثاني قبلها، إذ ما نعلم شرح اسم الشيء لا نطلب معرفة وجوده، فأجاب: بقوله جلّ اسمه: