التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ
٩
-الطارق

تفسير صدر المتألهين

منصوب بـ "رَجْعِه"، اللهمّ إلاّ أن نصب من جعل الضمير في "رَجْعِهِ" للماء، وفسّره برَجْعِه إلى مخرجه من الصلب والترائب، أو الإحليل، أو للإنسان، وفسّره بردّه ماء، أو بما فسّره مقاتل بمضمر الإبتلاء والاختبار.
و "السرائر": جمع "السريرة"، وهي ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيّات، أو في النفوس من الأخلاق والصفات.
و "بلاؤها": تعرّفها، والتميز بين حقّها وباطلها، وحُسْنها وقُبْحها، وطيّبها وخبيثها. قال الشاعر:

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تُبلى السرائر

وعن الحسن: إنّه سمع رجلا ينشد هذا البيت، فقال: ما أغفله عمّا في: { { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } [الطارق:1].
تبصرة
العوالم الثلاثة وسير الإنسان فيها
إعلم أنّ الله خلق الوجود ثلاث عوالم: دنياً وبرزَخاً وأخرى. ويعبّر عن كلّ منها بيوم، فكلّ يوم من أيّام الدنيا مدّة دورة الفلك الأعظم، وربما يطلق على زمان دورة القمر، بل على زمان دورة الشمس أيضاً، ومجموعها سبعة آلاف سنة، وكلّ يوم من أيّام البرزخ ألف سنة ممّا تعدّون، أو سبعة آلاف سنة ممّا تعدّون، وكلّ يوم من أيام الآخرة - وهي أيّام الله - يكون خمسين ألف سنة لقوله تعالى:
{ { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4].
فخلق الله الجسم عن الدنيا، والنفس عن البرزخ، والروح عن الآخرة، وجعل الوسائط الحاكمة الناقلة لتنوّعات عوالِم الإنسان ثلاثة: مَلَك الموت، ونفخة الفَزَع، ونفخة الصَعْق.
فالموت للأّجسام، والفزع للنفوس، والصعق للأرواح، فإذا كان الإنسان في هذا الدار، كان الحكم فيها ظاهراً للجسم، وهو المشهود بمَشاهد الحسّ، والمباشر للأحكام والأفعال التي تناسبه وتليق به، والنفس وأحوالها والروح وأسرارها مندرجتان في وجوده، مختفيتان تحت حجابه وحجب صفاته وآثاره، والإمدادات متّصلة بهما بواسطته.
فإذا شاء الحقّ تعالى نقل النفس والروح إلى دار البرزخ، أمات الجسم بواسطة مَلَك الموت وأعوانه، ثمّ تنشأ النفس في البرزخ النشأة النفسانيّة الثانويّة وتكون في عالمها البرزخي، وكانت هي المشهود بحواسّها ومشاعرها، فإنّ للنفس في ذاتها سمعاً وبصراً وذوقاً وشمّاً، وهذه الحواس الدنيويّة ظلال تلك الحواسّ وحجاباتها، أوَلاَ ترى أنّها تنفتح وتعمل فعلها عند رقود هذه الحواسّ، كما في المنام - والنوم أخ الموت -.
وهي أيضاً هناك مباشرة للأحكام وقادرة على الأفعال بنفس تلك الحواسّ، لأنّ مبادي الحواسّ ومبادي الأفاعيل هناك متّحدة، والإمدادات يومئذ متصلة بالجسم والروح بواسطتها، وصورتها في البرزخ على صورة ما غلب عليها من الأعمال والأخلاق والنيّات.
فقوله تعالى:
{ { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } [الطارق:8] - أي: على رجع النفس، والتذكير بتأويل أنّها عين الإنسان المذكور صريحاً، أو المخلوق المذكور ضمناً.
و "اليَوم"، في قوله: { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ }، يوم البرزخ، وهو القيامة الوسطى، إذ فيه تختبر سرائر النفس، لأنّه يوم عَلَنَت الضمائر النفسيّة وخفيت الظواهر الجسميّة، وفيه يحشر الناس على صُور نيّاتهم - كما ورد في الحديث -. وورد أيضاً: "يُحشر بعض الناس على الصورة تحسن عندها القردة والخنازير".
وذلك لاستيلاء الصفات الشهويّة والغضبيّة على نفوسهم أكثر ممّا تستولي على نفوس تلك الحيوانات، وفيه يتميّز الخبيث من الطِّيب المشار إليه في قوله تعالى:
{ { حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } [آل عمران:179] - الآية - وفيه امتياز المجرمين عن المؤمنين، كما في قوله تعالى { { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [يس:59].
فالبرزخ عالم مستقلّ بين عالَمي الدنيا والآخرة المحضة، كالشفق والفجر بين الليل والنهار، وهو مستقرّ الأنفس والأرواح المنتقلة عن هذه الدار من بدو الزمان إلى حين انقضائه لقيام الساعة الكبرى، والقيامة العظمى، وله آيات تشير إليه:
قال الله تعالى:
{ { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون:100] { { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم:62]. وقال: { { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر:46] يعني دار البرزخ.
ونبَّه عن الدار الآخرة بقوله:
{ { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [غافر:46]، لأنّ فرعون وآله كانوا من أهل الشقاوة العقليّة، والحجاب السرمدي عن رؤية ربّهم، كما أشير إليه في قوله: { { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين:15].
وذلك لمكنة استعداداتهم، وعلوّ فطرتهم بسبب مزاولتهم العلوم الجدليّة والمحاجّات السفسطيّة.
وممّا يدلّ على عالم البرزخ أيضاً قوله:
{ { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ } [هود:106] - الآيتان - يعني - والله أعلم -: جنّة البرزخ وجحيمه، لأنّ مدّة الخلود فيهما مقدر بدوام السموات والأرض، فإذا انقضى حكمهما جسماً ونفساً بالتبديل الأخروي إلى عالم العقل والجبروت وموطن الأرواح العقليّة، انقضت مدة الخلود فيهما، فخلودهما لأمد وجوده بشرط غيره.
وليس كذلك دوام أهل الآخرة الكبرى، إذ لا أمد لها، ولا وجودها مقدّر بوجود غيرها.
وممّا يدلّ على البرزخ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران " .
وما وري أيضاً عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ أرواح المؤمنين في حواصل طير بيض، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر، ترتع في الجنّة، وتأوي إلى قناديل معلّقة بالعرش" .
وهذه حالة الروح في جنّة البرزخ، حين تصوّر النفس بالصُّوَر الإنسانيّة البرزخيّة، فهي في هذه الحالة في عالَم بين العالَمين: عالَم الأجسام وعالم الأرواح. فإذا أراد الله تعالى نقل الأنفس من دار البرزخ حين كمل اليوم الدنيوي، نقلت الأنفس من البرزخ بنفخة الفزع، وتعاد إليها الأجساد الدنيويّة كما قال الله تعالى: { { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [النمل:87].
ثمّ بيّن أنّ نفخة الفزع مختصّة بنقل الأنفس من دار البرزخ بقوله تعالى:
{ { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [النمل:87].
وقال أيضاً مخبراً عن النشأة الأخرويّة الروحانيّة بقوله:
{ { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } [العنكبوت:20] وهذه نشأة تكون بعد صعق الأرواح حين يقول سبحانه: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر:16] فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه فيقول: - { { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر:16] وذلك لأنّ المجيب قبل ذلك هو الروح السامعة المجيبة المقرّة الطائعة، فلمّا اجريت عليها هذه الوفاة الممّيزة لها بصفة الحدوث، المنزّهة لبارئها بصفة القِدم، لم تُجبْ. وهذا الصعق هو نهاية الأجل المسمّى عنده، المعبّر عنه بخمسين ألف سنة.
ثم يحي من هذا الصَعق بالنفخة الثانية بمزيد اختصاص التجلّي الأكمل في المظهر الأعظم المظهر للأسماء الباطنيّة التي نبّه عليها بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما روي عنه:
"فأحمده بمحامد لا أعرفها الآن" .
ففي هذه النشأة الأخرويّة الروحانيّة، كانت الروح هي المشهودة المباشرة للأحكام الأخرويّة، والنفس والجسم مندمجان فيها مختفيان تحتها.
وفي قوله تعالى:
{ { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم:11] إشارة إلى هذه النشآت الثلاث، والله أعلم بسرائر الأمور.