التفاسير

< >
عرض

سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
١٠
وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى
١١
ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ
١٢
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
١٣
-الأعلى

تفسير صدر المتألهين

وبيان ذلك: أنّ الخلق في كيفيّة قبول دعوة النبوّة وتبليغ الرسالة، وإخراجهم بتعليم الهداية عن ورطة الضلالة، ينقسمون إلى قسمين:
منهم من ينتفع بتعليم الأنبياء، ويتذكّر بتذكير المرسلين، لأجل رقّة قلبه، ولين طبعه، وخوفه وخشيته من سوء العاقبة.
ومنهم من لا ينتفع ولا يتذكّر. وذلك لغِلظة قلبه وجمود طبعه، وغفلته عن عواقب الأمور، ونسيانه أمر الآخرة وأمر النفس، وكيفيّة عوده إلى النشأة الثانية.
فالقسم الأوّل: هو المشار إليه بقوله: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } - فإنّ الخشية والتذكّر متلازمان، كلّ منهما يوجب الآخرة فإنّ من سمع دعوة الأنبياء ثمّ خطر بباله أنّ هذه الدنيا واهية فانية، داثرة فاسدة على كلّ حال، فلو لم يشتغل بعمارة النشأة الآخرة، فربما وقع في الهلاك السرمدي، فقد حصل له الخوف، فإذا حصلت له هذه الخشية، تحمله على النظر في دعوة الأنبياء، والتأمّل في أمور الآخرة، ومراتب سعادة النفس وشقاوتها، وما به نجاتها أو هلاكها، وهذا التذكّر وهذا التذكير يبعثه على الاجتناب عن المعاصي والرذائل، والاكتساب للطاعات والفضائل، خوفاً من الهلاك والعذاب، وطمعا للنجاة والراحة، فهو الذي ينتفع بدعوة الأنبياء.
وأمّا القسم الثاني: الذين لا ينتفعون بدعوتهم، ولا تحملهم الخشية على تحصيل الدرجات، وطلب التخلّص عن العقوبات، فإليهم الإشارة بقوله تعالى: { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ }. وذلك لأنّ من أعرض عن ذكر الآخرة لأجل تسلّط الشهوات الدنيويّة على قلبه، واستيلاء الحرص في طلب المآرب الحيوانيّة من المال والجاه والنساء والبنين وغيرها على طبعه، لا يكون بصدد استكمال النفس بالعلم والعمل، ولا يشتغل بفعل الطاعات وترك المعاصي والشهوات، فيتوغّل في الدنيا الدنيّة، ويخلد إلى الأرض، وتستحكم علاقته مع البدن والشهوات، وتقوى محبّته لها، وكلّ من اشتدّت محبّته وعلاقته لشيء، فإن زال اشتدّت محنته ومصيبته عند مفارقته ومزايلته عنه، فإذا مات الإنسان الذي تأكّدت علاقته الشوقيّة مع الدنيا ولذّاتها، فقد فارق ما كان محبوباً، وذهب إلى موضع ليس له به معرفة ولا له بأهل الآخرة انس ومعارفة، فالبضرورة، كان له أذى عظيم أعظم من احتراق هذه النار الدنيويّة التي هي النار الصغرى كلّ ذلك لأجل إعراضه عن الذكر في أمر آخرته عند رجوعه إلى بارئه، كما في قوله تعالى:
{ { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [طه:124] وقد ظهر بالمشاهدة الروحانيّة للأنبياء ومن تبعهم حقّ المتابعة، ظهوراً أوضح من المعاينة الحسيّة، أنّ أصناف الآلام الأخرويّة المتعاقبة على روح من آثر الحياة الدنيا، ثلاثة كلّها روحانيّة واقعة قبل مقاساة عذاب النار الجسمانيّة، التي تكون في آخر الأمر، وهي حرقة المشتهيات، وخزي خجلة المفضّحات، وحسرة فوت المحبوبات.
وبيان كلّ منها يحتاج إلى بسط في الكلام لا يسعه هذا المقام.
- وبالجملة -، العذاب والألم ليس منحصراً في الإحراق بالنار، والتجميد بالزمهرير اللذين مرجع التألّم فيهما إلى تفرّق الاتّصال في جوهر مباين لجوهر الروح التي لها نوع تعلّق جسمي، وارتباط شوقيّ به وبأحواله، بسبب ذلك، يتألّم بفقد حالة من حالاته، وبالحقيقة، منشأ هذا التألّم الحاصل من النار الجسمانية، الذي يكون أشدّ مراتب آلام الحسّية، هو المحبّة والإلف بالبدن وهو جسم، والأجسام خارجة عن حقيقة الروح.
فإذا كان هذا حال الروح لأجل فقد الاتّصال أو الامتزاج بين أجزاء هذا المحبوب المباين عن ذات الروح، فكيف يكون حالها عند وجدان الخلل والقصور والافتراق في جوهر ذاتها عند فقد آلات الوصول إلى مشتهياتها ومحبوباتها كلّها، كما في قوله تعالى:
{ { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ54].
فهذه هي نار الله المعنويّة
{ { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [الهمزة:6 - 7]، التي نسبة إيلامها إلى إيلام هذه النار الجسمانيّة نسبة الروح إلى البدن في الوجود والإدراك، وسائر الأشياء التي تتصّف بها الروح بالأصالة، والذات والبدن بالتبعيّة والعَرَض، فقوله سبحانه: { يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } -، يمكن أن يكون إشارة إلى النار المعنويّة، التي ملاكها عدم الإيمان مع الجحود والجهل المضادّ للعلم بالمعارف الحقّة الإلهيّة التي بها قوام الروح الإنسانيّة ووجودها الإستقلالي - كما برهن عليه في مقامه -، مع اكتساب الرذائل في إيثار الدنيا على الآخرة، وهي غير النار الجسمانيّة الصغرى التي ينضمّ إيلامها إلى إيلام الكبرى، فإنّ ألم الكبرى يتعلّق بالروح لأجل ترك التذكّر لمعرفة الله بالجهل المركّب والرذائل النفسانيّة، وألم الصغرى يتعلّق بالجسم لأّجل المعاصي البدنيّة والمظالم الحسيّة التي تشهد بها الجوارح والأعضاء.
ويؤيّد ذلك ما قيل: الكبرى نار الآخرة، والصغرى نار الدنيا.
وقوله تعالى: { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } - يرجّح ما ذكرناه وأشرنا إليه، وبيانه بوجه إجمالي؛ أنّ الحياة الأخرويّة وما به قوام الروح في النشأة الآخرة، إنّما يكون بالمعرفة بأحوال المبدأ والمعاد، وكيفيّة إنزال الكتب وإرسال الرسل، والاعتقاد بحقيقة ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تدلّ عليه النصوص الشرعيّة والأحكام العقليّة، وقد بسطنا القول فيه في بعض كتبنا الحكميّة الإلهيّة.
وهذه الحياة الحاصلة للروح لأجل المعارف، حياة روحانيّة، وما به تزول هذه الحياة عنها - وهي الجهل المضادّ لها -، هي نار معنويّة لا محالة، فأقلّ مراتب الحية المستقرّة للروح الإنسانيّة عند الآخرة، إنّما يحصل بتحصيل هذه المعارف الإيمانيّة على وجه يطمئنّ به القلب، وإن لم يبلغ إلى درجة البرهان القطعي، ولم يتجاوز عن الظنّ الغالب - كما في أكثر عوام أهل الإسلام -، بشرط السلامة عن الهيآت الخبيثة الشديدة، والرذائل الراسخة في القلوب، وذلك أقلّ مراتب النجاة.
ثمّ كلّما ازداد يقينا وانكشافا، ازدادت حياته قوّة واستقرارا، حتّى يلتذّ بلذّات النعيم الأخرويّ على وجه الكمال، كإنسان تامّ الأعضاء، صحيح المزاج، قوي القوى الإدراكيّة.
وأمّا فاقد أصل الإيمان أو العمل رأساً، فهو بمنزلة إنسان مقطوع الأعضاء والأطراف، الذي لا استقرار لحياته الجسمانيّة، فكما أنّ من هذا حاله في الدنيا يقال: "إنّه متوسّط بين الحياة والموت في الدنيا"، فكذلك حال الروح التي ليس لها معرفة حقيقيّة ولا اعتقاد حقّ، حالها في الآخرة أنّها: { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا }.
فقد ظهر أنّ الله تعالى - لسابق قضائه الأزلي - نظّم ترتيب العالم الأخرويّ على وفق نظام العالم الدنيوي، فكما أنّ بعض الناس بحسب الحالة الدنيويّة سعيد وبعضهم شقيّ، فهكذا في الآخرة، بعضهم سُعداء أخيار، وبعضهم أشقياء أشرار، كلّ ذلك يدل على علمه بوجه النظام الأوفق. وقدرته على إيجاد كلّ مرتبة من الوجود واعطائه لكلّ شخص ما هو له أليق.
وكما أنّ السعادة قسمان: دنيويّة وأخرويّة. والدنيويّة قسمان: داخليّة - كالصحّة والسلامة -، وخارجيّة - كترتّب أسباب المعاش، وحصول ما يحتاج إليه من المال والجاه -.
والأخرويّة أيضا قسمان: علميّة - كالمعارف والحقائق -، وعمليّة - كالطاعات والخيرات -، فكذلك تتعدّد أقسام الشقاوة بإزائها، لكنّ السعادة والشقاوة بحسب العلم والجهل ذاتيّتان أزلاً وأبدا، مخلّدتان دائماً وسرمداً. وأمّا بحسب الأعمال الحسنة والسّيئة فتترتّب عليها المجازاة والمكافاة، وتتقدر بحسبها المثوبات والعقوبات، كقوله تعالى:
{ { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [التوبة:82] فلا يكون أصحاب هذه الشقاوة مخلّدين إلاّ ما شاء الله ويتركّب بعضها مع بعض ويتفرّد، إلاّ أنّ أكثر السيئّات وأكبرها يتبع الجهل المركّب، وأغلب الحسنات وأعظمها يتبع العلم.
ولهذا قد وقعت أوّلاً الإشارة إلى قسمة الخلق بالسعادة والشقاوة اللتين بحسب العلم والجهل - المعبّر عنهما بالتذكّر والتجنّب - إلى من يخشى بسبب تذكّره الأمور الآخرة، والى من لا يخشى بجهله وغفتله عنها، وبيّنت وخامة عاقبة الموصوف بشقاوة الجهل بأشدّ وجه، حيث عبّر عنه بصيغة التفضيل، المشعر بأنّ شقاوة الجهل أعظم من شقاوة المعاصي البدنيّة، وأوعَد عليه بصِلّي النار الكبرى المعنويّة التي إيلامها أشدّ مراتب الإيلام.
ثمّ أخبر بأنّه لا رتبة له في الوجود، لكونه كسائر الأشياء الضعيفة القوام والوجود - كالهيولى والزمان والحركة التي لا قوام لها في أنفسها إلاّ بأمر خارج عن ذاتها كالمحلّ وغيره -، وذلك لأن قوام الدار الآخرة بالمعارف، فمَن لا معرفة له لا حياة له ولا موت أيضاً، لأنّ الروح الإنسانيّة الناطقة لا تفسد بالكليّة - كما برهن عليه -، فلها عند قصورها عن درجة التمام حالة متوسّطة بين الحياة المستقرّة والوجود الاستقلالي، وبين الموت والعدم المحض.
وأهمل بيان عاقبة الموصوف بسعادة العلم، لعدم إمكان تفهّم الناس كيفيّة ما وعد للعرفان الإلهيّين - وأعدَّ لهم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -، فبعد ذلك وقعت الإشارة منه إلى قسمة الناس بالسعادة والشقاوة بحسب العمل، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.