التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ
١٤
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ
١٥
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
-الأعلى

تفسير صدر المتألهين

تزكّى، أي: تطّهر من الشرك والمعاصي، والمراد تنقية القلب والباطن عن الرذائل، استعداداً للصلاة العقليّة، واستفاضة المعارف الحقيقيّة بالتكلّم الحقيقي مع الله، فإن الصلاة معراج المؤمن، والمصلّي مناج ربّه، أو تطهّر للصلاة، وهذا بحسب تنظيف الثوب وتهذيب البدن عن الأخباث والأحداث استعداداً للصلاة الجسمانيّة التي هي رياضة جسدية للمؤمن بحسب حياته الحيوانيّة.
ونسبة الصلاة المعنويّة إلى هذه الصلاة الظاهريّة نسبة الروح إلى البدن، حيث يحتاج كلّ منهما إلى الآخرة ما دامت الحياة الدنيا باقية، وأمّا عند الآخرة، فلا تنقطع عن المعارف تلك الصلاة الروحانيّة أبداً.
وقيل: معنى: تَزكَّى - تكثّر في التقوى، لأنّه من الزكاء وهو النماء، أو "تفعّل" من الزكاة، كتصدّق من الصدقة.
فَصَلّى - أي: فصلّى الصلوات الخمس وغيرها، كمثل قوله:
{ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } [البقرة:177].
وعن أمير المؤمنين (ع): أي: أعطى زكاة الفطر فتوجّه إلى المصلّى فصلّى صلاة العيد. وذكر اسم ربّه فكبَّر تكبيرة الافتتاح.
وبه يحتجّ على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنّها مغايرة للصلاة لأنّها معطوفة عليها، وعلى أنّ الافتتاح جايز بكلّ اسم من أسماء الله تعالى.
وعن ابن عباس: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربّه فصلّى له.
والوجه العرفاني في هذه الآية: أنّ الصلاة الجسمانيّة وإن كانت عبدة بدنيّة، لكن صحّتها موقوفة على معرفة المعبود، وتذكّره بأسمائه وصفاته التي تليق به، بل الأعمال كلّها لا تتمّ شرعيّتها وصحّتها إلاّ بنيّة التقرّب اليه، والطاعة لأمره ونهيه، وخصوصاً الصلاة من جملتها، لأنّها عماد الدين، وبها تمتاز هيئة الإنسانيّة في ظاهر الأمر عن هيئة الحيوانات التي لا خضوع لها، فذكر "الذكْر" هنا من باب المقدّمة لما ذكرنا أنّ سَوْق الآية لبيان قسمة حال الإنسان إلى السعادة العمليّة والشقاوة التي بإزائها فيما تقدّم. والوجه في اختصاص الصلاة والزكاة من بين الأعمال الصالحة هو أنّ الغرض من الأعمال الرياضة البدنيّة لتحصل للروح هيئة التنزّه عن الأعراض الحسّية والتجرّد عن الأمور الكثيفة الماديّة الظلمانيّة، وصفة الاستعلاء لها على القوى الإدراكيّة والتحريكيّة لتجرها بالتعويد من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن معدن الجور والزور والثبور إلى منبع الحياة والرحمة والنور، حيث لا تزاحمها في مطالبها بل تشايعها في مآربها وتهتدي بهداها وتطيعها وتسلم لها في أوامرها وزواجرها حتّى تنخرط معها في سلك طاعة الله وعبوديّته.
ثمّ لا شبهة في أنّ بناء تمرّد القوى وعصيانها عن طاعة الله إنّما يكون بأحد أمرين: أولهما: ميلها إلى الشهوات والمرغوبات الحسيّة المضادّة للأمور الروحانيّة والأغراض العقليّة. وثانيهما: الكسل والتبطّي عن طاعة العقل وإزالة كلّ منهما لا يكون إلاّ بقطع سببه وحسم مادّته أو بورود ضدّه عليه، وعمدة أسباب الوصول إلى الشهوات هو المال، لأنّ بالمال يتمكّن الإنسان من تناول كلّ لذيذ، ومباشرة كلّ شهيّ فبترك المال يقطع جميع أسباب الشهوات الدنيوية، وهو المراد بقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ }.
ومنشأ الكسالة في الطبع، هو إنّما يكون لأجل استيلاء السكون والضعف، وعدم النشاط والانبعاث في القوى المحرّكة، فيعالج هذا المرض والآفة فيما بفعل ضدّه، وهو التحريكات البدنيّة كالصلاة والصوم والحجّ، فالصلاة عمدة الجميع، فاكتفى بذكرها، إذ مع كونها متضمنّة للأذكار والأوراد، مشتملة على الحركات البدنيّة من القيام والقراءة والركوع والسجود، حتّى قيل إنّ بدن الإنسان - لأجل قواه النفسانيّة - بمنزلة خشبة جامدة يراد انعطافها ولينها، فعرضت على النار فلانت، فلذلك يجعل البدن منحنياً بالركوع، ثمّ يترك ليستقيم مرّة أخرى، ثمّ يجعل أشدّ انحناء بالسجود مرّتين، فإنّ هذا الدين متين فأوغِل فيه بالرفق لا تبغِّض طاعة الله على نفسك.
وقيل أيضاً: إذا وقعت السجدة الثانية فقد حصل ثلاثة أنواع من الطاعة: ركوع واحد وسجدتان. فالبركوع ينجو من عقبة الشهوات، وبالسجود الأوّل من عقبة الغضب - الذي هو رئيس بالموذيات -، وبالسجود الثاني من عقبة الهوى الداعي إلى كلّ المضلاّت، فاذا تجاوزت نفس الإنسان عن هذه الدركات، وتخلّصت عن هذه المهلكات، وصلت إلى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات.
وأمّا الحجّ؛ فلاشتماله على الحركات الشديدة في البراري، والرياضات البدنيّة وغيرها لا يحتاج إلى البيان لظهوره.
وأمّا الصوم؛ - فإنه وإن كان في ظاهر الأمر من باب السكون - إلاّ أنّه يحرّك الباطن تحريكاً شديداً، ويشوقه إلى طلب المعارف والسلوك إلى الجنبة العالية كما يحكم به الوجدان.
فالحاصل، أنّ فعل الصلاة وإيتاء الزكاة عمدتا الأعمال الصالحة البدنيّة، وهما مستلزمان لسائر الخيرات والطاعات العمليّة التي بها تحصل للانسان السعادة الأخرويّة.
وأمّا الشقاوة التي تكون بإزائها فهي إنّما تحصل للإنسان لأجل فعل المعاصي وترك الطاعات، ومنشأ ذلك انقياد القوّة العقليّة وطاعتها للنفس الأمّارة وهواها الشيطاني وقواها الشهويّة والغضبيّة. والعقل الإنساني في طاعته وخدمته لهذه القوى الثلاثة - أي الهوى والشهوة والغضب - بعينه بمنزلة إنسان يخدم شيطاناً مَريداً وكلباً عقوراً وخنزيراً نجساً ويتردد في تحصيل مطالبها، ويصرف عمره في تيسير ملاذّها ومرغوباتها.
ومثل هذا الإنسان، لو بقي هكذا مدّة عمره، ولم يرجع إلى طاعة الله بالتوبة والإنابة والتدارك فيما فرّط في جنب الله تعالى، ولم يسع في تلافي ما وقع منه، فمنزلته أخسّ من منزلة الحيوانات الهالكة لقوله تعالى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف:179]. لأنّ خادم الشيء ووسيلته أدون منزلة من المخدوم والغاية.
فسبحان من أفاد الخير والسعادة برضائه ومنّته، وأحدث الشرّ والشقاوة بقضائه وحكمته، جلَّ جنابه عن النقص والقصور في الصفات والأفعال، وتقدست ذاته عن تخيّل الأشباه والأمثال، وتمجّد جنابه عن تصوير الأضداد والأنداد - وغير ذلك ممّا يتوّهمه الفكر والخيال من المحال، تعالى عمّا يصفه العقلاء فضلا عن الجهّال.

باك از آنها كه عاقلان كَفتند باكتر زانكه غافلان كَفتند