التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

تفسير صدر المتألهين

يعني أنّ هذه المعارف المسطورة في هذه السورة والمشار إليها في طيّ هذه الآية الكريمة الإلهيّة، واردة من الله في الصحف الأولى للأنبياء، فائضة على صفحات ضمائر الأولياء، لأنّ سعادة الإنسان وكرامة نفسه لا تحصل إلاّ بالاشتغال بهذه المطالب، وخلاصه عن شقاوة الجهل منوط بالإعراض عن الدنيا وساير الرغائب.
وروى صاحب الكشّاف مرفوعاً
"عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أنّه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كمْ أنزل الله من كتاب؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): مائة وأربعة كتب. منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ - وهو إدريس - ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوارة، والزبور، والإنجيل، والفرقان"
.
وجميعها مشتركة في طريق واحد ومسلك جامع، هو العلم بالله وأسمائه وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الخلوص عن غشاوة الدنيا بإصلاح الجزء العلمي من النفس، وهذه سبيل الموحّدين جميعا من الأنبياء والأولياء والعرفاء.
وقال الله تعالى:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء:25].
وقال تعالى:
{ { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف:108].
وسلّم هذه المعارف هو علم حقيقة النفس، وكيفيّة استكمالاتها وتطوراتها من لدن حدوثها وكونها عقلا هيولانيّا، إلى غاية تمامها وكمالها عقلا فعّالا متّصلا بعالم القدس والحضرة الإلهيّة، والغرض الأصلي من بعثة جميع الأنبياء والمرسلين يرجع ألى أمرين: التجرّد عن العلائق، والاستكمال بالحقائق.
قال بعض العرفاء: وكما أنّ الاسم الإلهي جامع لجميع الأسماء مشتمل عليها مع أحديّته، كذلك طريق عرفانه ودعوته، جامع طرق جميع الأسماء كلّها ودعوتها، وإن كان كلّ من تلك الطرق مختصّا بالاسم الذي يريد صاحبه ومظهره، ويعبده للظهور من ذلك الوجه، ويسلك سبيله المستقيم الخاصّ بذلك الاسم.
وليس الجامع لها إلاّ ما سلك عليها المظهر المحمّدي (ص) والنشأة الجامعة الأحمديّة - صلوات الله وسلامه عليه وآله وأتباعه إلى يوم القيامة - وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء، ومنها تتفرّق الطرق وتتشعّب.
روي أنّ رسول الله (ص) لمّا أراد أن يبيّن ذلك للناس، خطَّ خطّاً مستقيما، ثمّ خطَّ عن جانبيه خطوطاً خارجة من ذلك الخطّ، وجعل الأصل، الصراط المستقيم الجامع، والخطوط الخارجة منها سُبل الشيطان. كما قال:
{ { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام:153].
واعلم أنّ الحقائق والمعارف التي بها يستكمل الإنسان، ليس عند جمهور الناس شيء منها إلاّ الخيالات والأشباح، ولذلك لا يحصل لهم منها بعد تقليدهم من الأنبياء واعترافهم بها تسليماً وانقياداً إلاّ شبح الكمال ومثاله، دون حقيقته، لأنّها علوم وأسرار لطيفة لا تنكشف لأحد إلاّ بعد تلطّف نفسه، وتنّور روحه، وتقدّس جوهره، وصفاء ذهنه، إمّا بحسب الفطرة كما للأنبياء والأولياء، أو بحسب الرياضة كما للحكماء والعلماء.
ولهذا قال بعض الحكماء: من أراد الحكمة الإلهيّة فليستحدث لنفسه فطرة أخرى.
فالأنبياء، لغاية نقاء أذهانهم، وفرط ذكاء عقولهم، أخذوا هذا العلم عن الملائكة الفعّالة وحياً وإلهاماً بتأييد الله - عزّ وجلّ -، وأمّا الجمهور من الناس، فليس لهم طريق إلى هذه المعرفة إلاّ إيماناً وتسليماً وتصديقاً بما جاء به المخبرون الصادقون عن الله تعالى.
وأمّا الذين لا يرضون أن يأخذوا هذا العلم تسليماً وتصديقاً، بل يريدون طريق الكشف والبرهان، والوصول إلى الحقائق واستيضاحها بالبصائر العقليّة التي نسبتها إلى العقليّات الحقيقيّة المنوّرة بنور الحقّ، نسبة البصر إلى الحسيّات المادّية المستنيرة بنور الشمس، فهم يحتاجون إلى أن تكون لهم نفوس زكيّة، وقلوب صافية، وأذان واعية، وأخلاق ظاهرة، وأن يكونوا غير متعصّبين لمذهب دون مذهب في هذه الآراء التي لا تختلف باختلاف الأديان والملل، كما نبَّه عليه قوله تعالى:
{ { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ * لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة:285 - 286].
فهذه الآية إشارة إلى هذه المراتب الثلاثة للإنسان في الاعتقاد بالمعارف الإلهيّة.
فقوله:
{ { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [البقرة:285] -، إشارة إلى مرتبة الأنبياء، وهي الدرجة العليا في الإيمان والمعرفة، لأنّها حاصلة من جهة نزول المعارف الإلهيّة، وفيضان الحقائق الربّانيّة على عقولهم الزكيّة النوريّة، التي يكاد يضيء زيت نفوسهم الناطقة لفرط استعدادها نوراً عقلانيّا ولو لم تمسسه نار التعليم البشري، كالكبريت الذي ربما يشتعل بنفسه بأدنى وصول حرارة إليه، ناراً محرقاً تمامه من غير تخلّف مادة رماديّة، لا يقبل الناريّة والنور، كذلك حكم نفوس الأنبياء، حيث إنّ أبدانهم المكتسبة، لها خاصيّة الروح من جهة الإدراك والصعود إلى عالم الأفلاك، والولوج في عالم الجنان، ودار الحيوان مع الأبدان.
وقوله:
{ { وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ } [البقرة:285] الى قوله: - { { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة:285] - إشارة إلى مرتبة الحكماء والعرفاء والعلماء الربّانيّين، حيث بلغوا إلى مراتب العلم والعرفان، ووصلوا إلى حقائق الإيمان من العلم بأحوال المبدأ وكيفيّة الصنع والابداع وكيفيّة خلقة الملائكة الروحانيّين وإفاضة العلوم والمعارف الحقّة على الألواح العقليّة المحفوظة عن الفساد، ثمّ على الكتب السماويّة المحروسة عن النسخ والآفات، ثمّ على قلوب أنبيائه الصالحين المعصومين عن الخطأ بحسب مصالح العباد على وجه كلّي يؤدّي إلى سعادتهم في المعاد، من غير اختلاف لأحد من الرسل وأصحاب الأديان في وصول الحقائق الحاصلة لهم من الله سبحانه بقوّة ملكوتيّة، ولخواصّ أمّتهم بقوّة الذكاء والوجدان وتصفية الباطن بالرياضات العملية والعبادات القلبيّة، واتّباعهم للأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - في طريق السلوك إليه تعالى، بتكميل ذواتهم بصفة الكمال الذي ينحصر في المعرفة بالله وصفاته وأفعاله، بعد إصلاح الجزء العلمي من نفوسهم بسماع الآيات والذكر الحكيم وطاعة الملكوت في تسخير القوى الشهويّة والغضبيّة والوهميّة واستخدامها في أوامر الله ونواهيه بحسب ما تقتضيه الشريعة الحقّة ابتغاء لغفران الله ورضوانه عند المصير اليه والانقطاع عنها وعمّا تعلّقت بها.
وقوله:
{ { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:286] إشارة إلى النفوس الساذجة التي ليس فيها ما يوجب التمرّد والاستكبار عن قبول الحقّ من دواعي الشرّ والفساد، وطلب الرياسة والعناد واللداد كعوامّ أهل الإسلام، حيث أجابوا دعوة الحقّ انقياداً وتسليماً، وقبلوا النصائح والمواعظ في فعل الطاعات البدنيّة والعبادات الجسمانيّة وترك المعاصي والإفراط في اللذّات والشهوات لئلاّ يكونوا هائمين غافلين بالكليّة عن الله واليوم الآخر، غير مقرّبين بالثواب والعقاب والجزاء في الأعمال والأفعال يوم الحساب.
فلا محالة لهم نصيب من الرحمة الإلهيّة التي وسعت كلّ شيء، فإنّ الاستحقاق للرحمة المبذولة، إنّما يتحقّق بمجرّد عدم المضادّة للرحمة المنافي للمغفرة - أي الهيآت الرديّة والأخلاق الظلمانيّة الحاصلة للنفوس بسبب تكرّر الأعمال القبيحة، والتمرّد عن طاعة الحقّ، والاستكبار عن سماع الآيات والإعراض عن تكلّم الكلمات -.
والداءُ العضال الذي لا نجاة معه يوم الآخرة، حبُّ الرياسة وطلب الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة، فبقدر قوّة ذلك، يكون الإنسان بعيداً عن درك الحقّ ونيل السعادة الأخرويّة.
أعاذنا الله تعالى - من الإنكباب إلى عالم الغرور والزور، ونجّانا عن صحبة المؤذيات والظلمات في معدن الآفات والشرور، وَصَعَد بنا - بمساعدة العلم والتقوى - إلى منبع النور ودار الرحمة والسرور - إنّه وليّ الجود وغاية الوجود.