التفاسير

< >
عرض

سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ
٢
وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ
٣
-الأعلى

تفسير صدر المتألهين

ليس المراد من صيغة الأمر في مثل "سبِّح" و "أحمد"واشكُر" و "اذكُر" بحسب الوضع العرفي، مجرّد التلفّظ بما يدلّ على وقوع معناه الحِدثي، بل المراد إيقاع معانيها وإدخالها في الوجود بوجه يتأتى من المخاطب المأمور، وكذلك ليس المطلوب في لفظ "سبِّح" هنا مجرّد قولك "سبحان ربّي الأعلى"، ولا في آخر الواقعة مجرّد قولك "سبحان ربّي العظيم" فقط، نظراً إلى ظاهر ما روي في الحديث: انّه "لمّا نزلت: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة:74] قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إجعلوها في ركوعكم، فلمّا نزلت: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } - قال: اجعلوها في سجودكم" . وكانوا يقولون في الركوع "اللهم لك ركعت" وفي السجود: "اللهمّ لك سجدت". بل المقصود الأصلي منه تحصيل العلم والمعرفة بتنزيهه تعالى عمّا لا يصحّ فيه من النقائص الإمكانيّة، وتقديسه عمّا لا يجوز له من المثالب الجسمانيّة، وكل ما يوجب ثلما لوحدانيّته الحقّة، ويلزم نقصاً على وجوب وجوده من التكثّر والتغيّر والتجسّم والتصرّم وساير مذاهب الجاهليّة في ذاته أو في صفاته، والإلحاد في عظمة اسمائه وحيثيّاته، كالجبر والتشبيه والسفه والتعطيل الناشية من قصور أو خلل أو فساد في البصيرة الباطنيّة كحَوَل الفلاسفة، وَعَوَر المعتزلة، وَعَمَه الأشاعرة، وكَمهَ الحنابلة، ونحو ذلك، مثل أن يفسّر "الأعلى" في هذه الآية بمعنى الارتفاع عن درجة الإمكان، والعلوّ عمّا تصل إليه العقول والأذهان بقوّة الدليل والبرهان، لا بمعنى العلوّ في المكان، والإستواء على العرش حقيقة.
وهاهنا سرّ آخر، وهو أنّ المراد بالتسبيح في عرف المتألّهين، كون المسبّح ذاتاً مجرّدة عن الموادّ وعوارضها، والأجسام وصورَها، لأنّ مبدأ كلّ صفة على وجه الكمال، يجب أن يكون في مرتبة ذاته متحقّقاً بها على وجه آكد وأقوى.
فمعنى قوله: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ } أي: جرِّد ذاتك عن الدنيا وغواشيها، حتّى تعرف تقدّس اسم الله عن النقائص الإمكانيّة، واجلُ مرآة قلبك عن مطالعة الكائنات، حتّى يمكنك ملاحظة ذاته وصفاته وأفعاله من غير شوب تشبيه في ذاته وتعطيل في صفاته، وتغيير وتبديل في سنن أفعاله.
ويحتمل أن يكون المراد من { ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } المعلول الأوّل، وهو المَلَك المقدّس الروحاني، فإنّ اسم الحقّ - جلّ شأنه - ليس من جنس الأصوات، وعلامة ذاته لا تكون كعلامة سائر الذوات من الهيآت والتشكيلات العارضة للهواء، الخارج من المخارج، بل علامة ذاته واسمه المقدّس ما يناسب ويليق لحقيقته الحقّة الأحديّة.
والعبارة أيضاً لا تساعد على غير هذا إذ الأمر بتسبيح الاسم - بمعنى الصوت - غير مناسب، لأنّه يسبّح به، لا يسبّح له. بل المأمور به هو الاعتقاد بأنّ الفعل الربّاني والاسم الإلهي موجود روحاني مقدّس عن الأجسام والجسمانيّات، مجرّد عن الأحياز والمكانيّات.
وذلك لأنّ الصادر الأوّل عن الحقّ سبحانه، يجب أن يكون أمراً واحداً بالفعل، مستقلاّ في الوجود والتأثير. وغير الجوهر العقلي لا يكون كذلك لانتفاء الوحدة من الجسم، والفعليّة من الهيولى، واستقلال الوجود عن الصورة والعرض والتأثير من النفس.
ويؤيّده ما ذكرناه قوله سبحانه:
{ { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن:78] لأنّ وصف الشيء بذلك يدلّ على أنّه عاقل لذاته.
واعلم أنّ "اليمين" و "اليَد" و "الأمْر" و "القلَم" في قوله تعالى:
{ { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67] وقوله: { { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10] وقوله: { { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } [الذاريات:47] وقوله: { { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [القمر:50] وقوله: { { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } [العلق:3 - 4] كلّها عبارات عن هذا المَلَك المقدّس الروحاني، الذي هو يمين الله، وواسطة فيضه، وقلم كتابته الحقائق على ألواح النفوس، وحجاب ذاته وسرادق غيبه، الذي ينتهي إليه سير السالكين إلى الله تعالى، فلهذا أمر سيّدهم وقائدهم بتسبيحه وتمجيده الدالَّين علوّ الحقّ ومجده.
فمن جملة الطرق الموصلة إلى معرفة علوّه ورفعته في كونه تعالى رفيعاً في وجوده عن درجة الأجسام، الاستدلال عليه بخلق الحيوان الذي هو أشرف ما في العناصر والأركان، بنوعين من البيان، حسب تركّب حقيقته من النفس والبدن.
أمّا الاستدلال على علوِّ ذاته وسموِّ صفاته عن درجة الأجرام بخلقة الحيوان، فهو الذي أشار تعالى إليه بقوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ }.
وذلك: أنّ بدن كلّ مقدّر بمقدار معيّن وكميّة خاصّة تتعيّن له وتختصّ به، لأجل صدور أفعاله المختصّة، وحركاته وانفعالاته الناشية عن قوّته التحريكية والإحساسيّة، فلا جَرَمَ قدّر الباري بعنايته المحكمة لكلّ حيوان مقداراً من التجسّم الصالح لصدور أفعاله وآثاره الحيوانيّة، وهذا التقدير هو الخلق، لأنّ الخلق في اللغة هو التقدير.
وأيضاً كلّ بدن حيوانيّ مركّب من عناصر وأجزاء بعضها حارّ خفيف، وبعضها بارد ثقيل، وبعضها رطب لقبول الهيئة والتشكّل، وبعضها يابس لحفظ ما أفيد من التقويم والتعديل، ويجب أن يكون لكلّ منها قدر معيّن، ليقع بينها التصالح والتقاوم حتّى يتولّد عن كيفيّاتها المتعادلة المتفاوتة، المزاج المخصوص، ولو زادت تلك الأجزاء أو نقصت، كان الحادث غير مزاجه الخاصّ به، وهذا هو التسوية.
فعلم من إيجاده قدراً معيّنا من أقدار الجسم لائقاً بخلقة نوع من الحيوان، وقدراً معيّنا آخر منها لائقاً بخلْقة نوع آخر منه، تساوي نسبته إلى جميع الأجسام، وكلّ ما يكون كذلك لا يكون جسماً ولا جسمانيّا.
أمّا الأوّل: فلظهور أنّه لو كان جسماً لكان فرداً خاصّا منه، له مقدار معيّن - إذ العام لا وجود له في الخارج -، وقد ثبت تساوي نسبته إلى سائر الأجسام، فيلزم الترجيح من غير مرجّح.
ولأنّه لو كان جسماً، لامتنع كونه موجداً لجسم، لامتناع تقدّم بعض أفراد طبيعة واحدة على بعض، وأولويّته منه - حسبما تقرّر في مقامه -.
وأمّا الثاني: فلأنه لو كان أحدهما لزم إمّا اختصاصه بفرد من الجسم، أو افتقاره إليه، وقد نفيناه عنه.
وقد عُلم أيضاً من التسوية، تصرّفه في الأجسام كيف يشاء في التركيب والتفصيل، والنضج والتحليل، فلا يكون جسماً ولا جمسانيّا.
وأمّا الاستدلال على ذلك بنفس الحيوان، فهو قوله: { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } -، لأنّ معناه: أنّه سبحانه قدَّر لكلّ واحد من أعضاء الحيوان وأجزائه المخصوصة قوّة مختصّة بذلك العضو، مصدراً لأفاعيله، ومبدأً لآثاره ومنافعه ومصالحه، مثل القوّة الباصرة للعين، والسامعة للأذن، والهاضمة للمعدة، والنفسانيّة للدماغ، والحيوانيّة للقلب، والطبيعية للكبد، فقدَّر لكلّ مزاج حيواني نوعاً من القُوى، وجعل كلّ مركّب مزاجي آلة لقوة نفسانيّة أو طبيعيّة، وهداها إلى خصائص أفاعيلها وخصوصيّات ما ينفعل منها، وألهمها إلى ما يُنتفع منها.
فانظر إلى النحل كيف أوحى الله تعالى إليه في وضع بيوتها على هيئة المسدّسات وإلى العنكبوت كيف هداها إلى وضع المشبّكات لاقتناص ما يتقوّت به من الذباب والبعوض، وممّا يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عُميت وقد ألهمها الله إن مسَح العين بورق الرازيانج الغضّ يُرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيّام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج - لا تخطئها - فتحكّ بها عينيها وترجع باصرتها بإذن الله تعالى.
وهدايات الحقّ وإلهاماته للحيوانات - نواطقها وعجمها وطيورها وبهائمها، وهوامها - إلى ما لا يحد من مصالحها، ولا يعدّ من حوايجها في أغذيتها وأدويتها، وفي باب أولاها وأخراها ودنياها باب واسع من معرفة الله تعالى، لا تحيط به العقول والأوهام، بل إنّ لكلّ جسم طبيعيّ أو فلكيّ مبدأً فاعليّا وجوهراً نفسانيّاً وصورة محرّكة طالبة لفعل خاصّ يكون بصدوره منها على كمالها الخاصّ بها محصّلة به، وكونها على أشرف حالها مبتدية به إلى ما يقربها إلى باريها وجاعلها، ومتشبّهة في إفاضة الخير والمنفعة على الغير بغايتها وفاعلها، - جلّت عظمته وعظمت إلهيّته -، فإيجاده بعلمه وحكمته لكلّ جسم من الأجسام أمراً ملكوتيّا وقوة باطنيّة تكون مقوّم نوعه وحافظ كماله، خدمة لبارئها وطاعة لربّها، وعبادة لمعبودها، دليل واضح على علوّ ذاته عن المُلك والملكوت، وسموّ درجته عن الخلق والأمر، وبُعد سمكه عن عالَم السموات والأرضين وارتفاع حضرته عن جملة الأجسام والجسمانيّين.
فسبحان ربّي الأعلى من العلّيّين، وأعظم من عوالي القدّيسين والكرّوبين.