التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ
٤
فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ
٥
-الأعلى

تفسير صدر المتألهين

"الغُثاء" - بالضمّ - الدَرْن اليبس الذي يحمله السيل.
و "الأحوى": الأسود. فأحوى صفة لغُثاء، أي: أخرج المرعى وأنبت العشب فجعله بعد طراوته وخُضرته هشيماً درينا أسود، ويحتمل أن يكون "أحوى" حالاً من "المرعى"، أي: أنبته أسود، لشدّة الخضرة والرعي فجعله غثاء بعد حوية.
ووجه الاستدلال به نوعان:
الأوّل: هو أنّ النبات جسم مؤلّف من عناصر متضادّة متداعية إلى الإنفكاك والإفتراق إلى أمكنتها الطبيعيّة، فلا بدّ في اجتماعها في مكان واحد من قاهر مختار يجبرها على الإلتيام وحفظها عن الافتراق، وليس هو نفسها النباتيّة، لأنّ حدوثها مسبوق بحدوث المزاج المسبوق بحدوث الاستحالات النباتيّة في كيفيّاتها المتضادّة، والحركات لا تقع إلاّ في زمن مسبوق بحالة اجتماعها، فلو كان الجابر لها على الالتيام، والحافظ لها عن الافتراق هو النفس النباتي، لزم تقدّم الشيء على نفسه بمراتب، ولا نفس حيوانيّة لتقدّم النبات على الحيوان طبعا، فلو كان نفسه سبباً لاجتماعها لزم الدور - وهو محال -.
فثبت أنّ الموجد لأجزاء النبات، والمتصرّف فيها بالجمع والحفظ عن الافتراق والإنبتات، موجود مقدّس عن التركيب والامتزاج، مرتفع عن عالَم الأجسام والأحياز وعن التخصّص بالأمكنة والجهات.
النوع الثاني: في الاستدلال باختلاف أحوال النبات من ريعانه وطراوته أوّلاً، ويبسه وفنائه أخيراً، فإنّ المحيل له من حال إلى حال، والمتصرّف فيه من جهة الحدوث والزوال، موجود باق متعال عن التجدّد والانتقال، إذ لو جاز فيه التحوّل والتغّير - وكلّ متحوّل لا بدّ فيه من محوّل يحوّله وهكذا، ننقل الكلام من حاله إلى حال، فلو لم تنته السلسلة إلى محوّل غير متحوّل، وإلى مغيّر غير متغيّر يلزم الدور أو التسلسل - وكلاهما مستحيلان.
فثبت وجود موجود مقدّس عن التغّير والزمان، ومتعال عن التجسّم والمكان، إذ الزمان والمكان متلازمان.
فإن قال قائل: لِم لا يجوز أن يكون المؤثّر في خلْق الحيوان وتوليد النبات شيء من طبائع الأفلاك والكواكب بحسب الأوضاع والأنوار، لا الفاعل المختار؟
قلنا: هذا مستحيل عند العقل، لأنّ المني الذي يتولّد من الحيوان، والبذر الذي يتكوّن منه النبات، جسم متشابه في نفسه، وبحسب وضعه عند الفلك، وقبوله لنور الكواكب، لكونه مع سائر أجزاء الأرض والمركّبات التي فيها وعليها، كنقطة واحدة بالقياس إلى الجرم الأثيري البسيط المتشابه طبعاً وتأثيراً، فالجسم البسيط المتشابه إذا أثر في جسم متشابه الذات متشابه النسبة الوضعيّة والاستعداديّة تأثيراً متشابهاً، فيستحيل أن تتولّد وتتكوّن منه أحوال مختلفة وأعضاء متباينة في الصورة والكيفيّة.
ألا ترى إذا وضع أحد شمعاً مضيئاً، وكان ما يستضاء منه خمسة أذرع من جانب، وجب أن يضيء بهذا المقدار من سائر الجوانب؟ وأمّا أن يضيء من أحد الجوانب خمسة أذرع ولا يضيء من الجانب الآخر إلاّ نصف ذراع - من غير حاجز ولا مانع ولا اختلاف في الجسم الذي حوله بالشفيف وعدمه، واللطافة والكثافة - فهو غير معقول.
فثبت أنّ مؤثّرات الطبائع الجسمانيّة يجب أن يكون تأثيراتها متشابهة، فلمّا رأينا كيف تولّدت من بعض أجزاء النطفة العظام، ومن بعض أجزائها أعصاب وعضلات وعروق ورباطات، ورأينا كيف تكوّنت من بعض أجزاء البذر والأوراق، ومن بعضها الأغصان والعيدان والقشور والثمار، علمنا وتيقّنّا أن التأثير فيها ليس تأثير مؤثّر يفعل بالطبع والإيجاب والإجبار، بل تأثير مؤثّر قادر يفعل بالعلم والاختيار، وحكيم يؤثّر بالجهات والحيثيّات حسبما اقتضاه علمه بوجوه المنافع والخيرات، وأفادت حكمته الداعية إلى إخراج ما في عنايته وقضائه من المكونات إلى القدر بحسب مصالح الممكنات في المواد والأوقات، فسبحان العليم القدير، الذي حكمته أفادت هذه المكوّنات، وقدرته أوجدت هذه المركّبات، ليعلم المتوقّد الذكي أنّه مقدّس عن عالَم الأجسام والجسمانيّات، متعالي المنزلة عن الأمكنة والمكانيّات.