التفاسير

< >
عرض

إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا
١
-الزلزلة

تفسير صدر المتألهين

كلمة "إذا" يراد بها الوقت، ووقت الآخرة ليس كهذه الأوقات الدنيويّة، كما أنّ يومها وساعتها ليس كأيّام الدنيا وساعاتها المضبوطة بحركات هذا الفلك الأقصى، إذ نسبة يوم الآخرة إلى هذه الأيّام، كنسبة الروح الأعظم إلى هذه الأرواح الجزئيّة، وذلك اليوم الحقّ الذي فيه يمترون.
ومن خواصّ ذلك اليوم، أن مقداره بالقياس إلى طائفة خمسون ألف سنة:
{ { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4] وبالقياس إلى طائفة كلمحة واحدة: { { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل:77] { { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج:6 - 7].
فهذا الوقت المدلول عليه بكلمة "إذا" هنا يستوعب سائر الأوقات والأزمنة والساعات، وهو بعينه قد وقع ظرفاً لزلزلة الأرض، والأصل في الظروف الزمانيّة والمكانيّة أن تطابق مظروفاتها ولوازمها من الحركات والأجرام.
وقد بيّن في العلوم القرآنيّة والمعالم البرهانيّة، أنّ الأرض وما فيها دائمة الحركة، فقوله: إذَا زُلْزِلَت -، من قبيل قوله:
{ { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء:104] فكما أنّ طيّ السماء لا يختصّ وقوعه بزمان الدنيا - بل بيوم القيامة، ولا يمكن لأحد مشاهدة ذلك إلاّ من كان من أهل النشأة الآخرة كما قال سبحانه: { { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67] فلذلك زلزلة الأرض هذه غير مختصّة الوقوع بزمان معيّن من هذه الأزمنة، بل ظرف تحقّقها يوم الآخرة، وشاهد وجودها أهل الآخرة وأصحاب اليمين، فهي مطويّة بيمين الحقّ بالقياس إلى أصحاب اليمين.
وأمّا من كان من أصحاب الشمال وأهل الجحيم والنكال، فليسوا مفتوحي العين ولا حديدي البصر حتّى يقرؤوا الكتب السماويّة وينظروا إلى سجلّ دوراتها وطومار أوقاتها دفعة، إلاّ حرفاً بعد حرف، وكلمة غبّ كلمة، ولا يمكنهم أيضاً مشاهدة آيات الأفلاك والأنفس بالحقيقة إلاّ كمشاهدة الدوابّ والأنعام خلف أغشية حجب العزّة والجلال، وأغطية الظلمة والوبال، والبعد عن عالم النور والجمال، فتتوارد عليهم الأوضاع والتغيّرات وتتحكّم عليهم الأزمنة والاوقات.
وأمّا من قوي نظره وحدّ بصره - كما هو عند القيامة - فيطلع على جميع ما في هذا الكتاب الجامع للأكوان دفعة واحدة لا يغادر حرفاً منه، مثل من يطوي عنده السجلّ الجامع للكلمات والحروف، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
"أُوتيتُ جَوامِع الكَلِم" .
إنّما قال: { { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67] لأنّ أصحاب الشمال وسكّان دار الظلمات، لا نصيب لهم من طيِّ السموات، لأنّهم أهل الحجاب - كما مرّ - فهكذا حال هذا الزلزال للأرض ليس ممّا يدركه كلّ أحد، لأنّه غير مختصّ الوقوع بوقت جزئيّ من أوقات الدنيا، فلا يشاهده الإنسان بمشاعر هذا الأدنى، لأنّ هذه الحواسّ التي يشترك فيها الدوابّ والأنعام مع الناس، تختصّ بمشاهدتها بما يحدث هنا من الحوادث الجزئيّة والأكوان الزمانيّة، والقيامة وأحوالها من عظام الأمور الكليّة ليست من جزئيّاتها، { { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج:1].
فكما أنّ أرض القيامة غير هذه الأرض بوجه - لأنها يومئذ مبدّلة مقبوضة - وسماؤها غيره هذه السماء بوجه - لأنّها مطويّة كما قال الله سبحانه:
{ { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم:48]. وقوله: { { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67].
فكذلك زلزلة الأرض يوم القيامة غير هذه الزلازل الجزئيّة.
تنبيه:
إنّ أهل الحجاب وأصحاب الارتياب ذاهلون عن كون الأزمنة والحركات منطوية يوم القيامة منشورة ها هنا، ولا يمكن لهم أن يعرفوا بهما جميعا، والعجَب أنّهم كما لم يؤمنوا هنا بطيّ السموات وما فيها يوم القيامة، لاشتغال قلوبهم بأحوال الدنيا، فكذلك إذا بعثوا إلى الآخرة أنكروا زمان مكثهم في الدنيا ونشر الحركات فيها، إذ تشغلهم أهوال يوم القيامة عن ذلك، كما قال جلَّ ذكره:
{ { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الروم:55 - 56].
حُجّة كلاميّة:
إنّ في قوله تعالى:
{ { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } [الحج:2] بعد قوله - { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج:1] دليلاً واضحاً على ما ذكر، لدلالة الكليّة على الشمول العمومي لجميع المرضعات وذوات الأحمال، متى كان وأين كان.
تنوير قرآني وتذكير برهاني:
إنّ نسبة البعث إليه تعالى كنسبة الخلق:
{ { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان:28] { { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [الأعراف:29] فكما أنّ الله من جهة الخلق أوجد جميع الخلائق - على كثرتها واختلاف أزمنتها - بإيجاد واحد وإفاضة واحدة - وحدة غير زمانيّة -، وهي في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض، أمور متكثّرة متجدّدة، ومختصّة بأزمنتها وأوقاتها، وله تعالى أيضاً شأن واحد في شؤون كثيرة، إذ كلّ يوم هو في شأن، ولا يشغله شأن عن شأن، فكذلك من جهة البعث، يبعث الخلق كلهم في ساعة واحدة على صعيد واحد كقوله تعالى: { { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } [النازعات:13 - 14].
فهذه الساعة:
{ { كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل:77]. من جهة. ومن جهة المخلوقات واختلاف قوابلها واستعداداتها: { { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4] وعليها يقاس حكم الحركات والأمكنة فإنّ لها هاتين الجهتين.
قال تعالى نظراً إلى الزمان من جهة القرب والوحدة:
{ { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر:1]. { { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } [الحج:7] { { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً } [يونس:45].
ومن جهة البُعد بالقياس إلى أهل الحجاب والظلمة:
{ { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } [المؤمنون:36] { { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس:48 - 49]. { { وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [الأنبياء:109]. { { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } [الجن،:25].
وقال نظراً إلى المكان من جهة القرب:
{ { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [سبأ:51] { { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [العنكبوت:54]. { { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [الانفظار:16]. { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [النبأ:40]. ومن جهة البُعد: { { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } [سبأ:52].
وقال نظراً إلى الوجهين:
{ { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج:6 - 7]. فالأوّل: بالقياس إلى المحبوسين في سجن المكان، المقيّدين بقيد الزمان، والثاني: بالقياس إلى المتخلّصين عن رقّ الحدثان، الناظرين إلى حقائق الأشياء بعين العيان.
إشارة نوريّة:
إنّ إضافة الزلزال إلى الضمير العائد إلى الأرض، الدالّة على الاختصاص، تُشير إلى أنّ هذه نوع حركة معهودة من الأرض، مختصّة بها، واقعة منها على حسب الجِبِلة والغريزة، وأنّها مركوزة في طبيعتها، والأمور الغريزيّة للأشياء غير منسلخة عنها، ولا متراخية إلى حين - إذا خليّت وطبايعها - فهكذا حكم هذا الزلزال.
وقد حقّق في المعالِم الإلهيّة بالبراهين النوارنيّة، أنّ الأرض والأرضي كالسماء والسماوي، في أنّ لها حركة ذاتيّة جوهريّة لا تفتر عنها لحظة، وما من طبيعة أو ذي طبيعة إلاّ وهو أبداً في الحركة الاستكماليّة الجوهريّة، وبها يطلب الحقّ الأوّل، ويرجع إليه، كما في قوله سبحانه:
{ { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت:11] فالإتيان لله سبحانه: إمَّا من السماء وما فيها، فكان في أوّل الأمر على جهة الطوع لكونها مفطورة على كمالها الأتمّ في أوّل النشأة، مطيعة لله تعالى بحسب فطرتها الأولى، وإمّا من الأرض ومن عليها فكان على جهة القسر أوّلاً، لأنّها ناقصة الفطرة الأولى، وإنّما اكتسبت الكمال والتقرّب إلى الله بحسب فطرة أخرى ونشأة ثانية. فالأرضيّات بعد استكمالها بالنفوس الكاملة الإنسانيّة، صارت مطيعة لله تعالى بلا إكراه كالسماويّات، فاتّفقتا في سلوك طريق الحقّ والسير إلى الله، والإتيان إليه ولهذا قالتا: أتَيْنَا طَائِعينَ.
وفي الكشّاف: معنى هذه الإضافة، زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة، وهو مشية الله، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده، ونحوه قولك: أكرم التقيَّ إكرامه، وأهِن الفاسق إهانته. تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. أو زلزالها كلّه وجميع ما هو ممكن منه.
وقد أجرى الله على لسانه من الحقّ ما يمكن أن يراد منه مجموع الانتقالات الأرضيّة الواقعيّة من جملة الأرض وما فيها من ساير المركبات التامّة والناقصة، وبسائطها إذا أخذت دفعة واحدة، وشوهدت شهوداً أخرويا، وما يختصّ بأهل الآخرة وبأهل المعرفة وإن لم يحشروا بعدُ بحسب قالبهم إلى الله، وذلك لأنّهم قد حشروا إلى الله بحسب قلوبهم.
وهذه الحركة إذا أخذت هكذا، فهي حركة عقليّة شوقيّة من الله مبدأها، وإلى الله منتهاها، وباسمه مجراها ومرساها، كما قال تعالى
{ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } [النازعات:42 - 44].
وقد بين أيضاً في المعالم الإلهيّة إثبات العقل والإرادة للأرض بالبرهان المنوّر بأنوار القرآن، مثل قوله:
{ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت:11] { { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [الزمر:69]. وقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } [فصلت:39]. ومن اكتحلت عين بصيرته بنور الحكمة الحقّة، يعلم أنّ كل جرم - غليظاً كان أو لطيفاً - فله حياة ونفس وعقل، إذ ما من جسم إلاّ وله صورة طبيعيّة هي مبدأ حركته القريب، وكلّ جسم من شأنه التفرّق والانقطاع والتكثّر، وعند القطع والتكثير تنعدم ذاته ويزول اتّصاله، وكلّ طبيعة من شأنها الاستحالة والسيلان دائماً - كما حقق في مقامه - فالنفس الروحانيّة هي علّة اتّصال الأجرام ووحدانيّته، فالوحدة والاتّصال مستفادان في كل جرم من النفس، وكذا البقاء والاستمرار له لسيلان طبيعته واستحالتها - لما مرَّ -.
والنفس لا يتمّ وجودها إلاّ بالعقل، لأنّها أيضا من حيث الفعل والتدبير طبيعة، ومن حيث الذات والحقيقة عقل، فثبت أنّ الأرض ذات حياة نفسانيّة، ولها كلمة فعّالة روحانيّة.
واستدلّ معلّم أسلاف الحكماء، على أنّ الأرض ذات حياة بأنّها تنمو وتنبت الجبال - فإنّها نبات أرضي -، وفي داخل الجبال حيوانات كثيرة ومعادن، وإنّما تتكوّن هذه منها لأجل الكلمة ذات النفس فإنّها هي التي تصوّر في داخل الأرض هذه الصورة. وهذه الكلمة هي صورة الأرض الفاعلة فيها هذه الأفاعيل، ولا يمكن أن تكون ميتة وتفعل هذه الأفاعيل العجيبة العظيمة، فان كانت حيّة فانّها ذات نفس لا محالة.
فإن كانت هذه الأرض الحسيّة حيّة - وهي صنم - فبالحريّ أن تكون الأرض العقليّة حيّة - انتهت حكاية كلامه -.
وبناؤه على أنّ لكلّ طبيعة جسمانيّة صورة عقليّة في عالَم الأرواح العقليّة - وهي المسمّاة بالمثل النوريّة والصور المفارقة عند شيخه أفلاطون، ومن تقدّمه من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وعرجوا بنفوسهم الصافية وقلوبهم الطاهرة إلى عالم القدس، وشاهدوا هذه الصورة الإلهيّة مظاهر أسماء الله تعالى، فهم أهل بيت الحكمة، كما أنّ أئمّتنا أهل بيت النبوة والولاية - سلام الله عليهم أجمعين -.
تذكرة:
هذه الحركة الأرضيّة، التي قد مرّت الإشارة إلى أنّها إراديّة شوقيّه عقليّة، ليست واقعة في احدى المقولات الأربع العرضيّة، لما مرّ أنّها غير محسوسة، ولا قابلة لأنّ تحسّ بإحدى هذه الحواسّ، بل هي حركة ذاتيّة واقعة في مقولة الجوهر. والمقتصرون على البحث البحت من النظّار وذوي الأفكار، لم يجوّزوا الحركة في مقولة الجوهر، ولم يمكنهم أن يتفطنّوا بدقّة أفكارهم وحِدّة أنظارهم لِهذه الحركة الذاتيّة، لأنّ إدراكها يحتاج إلى تأييد إلهي وإلهام نوري ربّاني، يختصّ بأصحاب المكاشفات للقلوب المنوّرة بنور الإيمان ثمّ العرفان.
فهُم قد رأوا بالمشاهدة العيانيّة، أنّ الأعيان الجوهريّة دائمة التوجّه إلى الله تعالى توجُّها معنويّا وحركة ذاتيّة، وما من جوهر عينيّ له صورة وجوديّة إلاّ وله هذا السير الحثيث إلى الحضرة الإلهيّة، وهو أبداً في الانتقال من صورة إلى صورة، ومن طور إلى طور - حركة رجوعيّة وسيراً استكماليّاً - كما قال سبحانه:
{ { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [النمل:88].
فهكذا حكم الإنسان، فإنّه أبداً بحسب غريزته، والتبدّل والميلان من نشأة إلى نشأة، وطور إلى طور، ومن هويّة إلى هويّة، ومن تبدّل هذه الهويّات عليه، تستمرّ له هويّة ثابتة يحكم بها عليه أنّ ذاته هي التي كانت موجودة أوّلاً، فله هويّة ثانية هي التي بعينها متبدّلة، فانظر ماذا ترى.
وعلى هذه الحركة الانقلابيّة للإنسان شواهد كثيرة من القرآن، مثل قوله جلّ اسمه:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } [الانشقاق:6] وقوله: { { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [الانشقاق:9]. وقوله: { { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [البقرة:156]. وقوله: { { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [الانبياء:93]. وقوله: { { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت:21].
وهذه الحركة الجِبليّة إليه تعالى وإلى الدار الآخرة، ولا تنافي الشقاوة والكفر، بل تعمّ السعيد والشقيّ، والمؤمن والكافر، كما بيّن، وكذا لا تنافى الذبول الطبيعي والموت الطبيعي، لأنّ توجّه النفس إلى جهة الآخرة بعد تمام الاستكمال البدني، يوجب انصراف تدبيرها عن البدن شيئاً فشيئاً، حتّى إذا تمّ التوجّه إليها والانصراف عنه بالكليّة عرض له الموت، فلهذا المعنى يكون الذبول طبيعيّا والموت طبيعيّا، لا كما اشتهر فيما بين الناس من أنّ سببهما نقصان القوّة من الأوّل وفناؤها في الثاني. فإذن قد بزغ الحقّ، وانكشف الأمر في أنّ الأرض بما فيها دائمة التحوّل والحركة من جوهر محسوس أدنى إلى جوهر محسوس أعلى، ثمّ تتحرّك بعد طيّ مراتب المحسوسات الجوهريّة إلى الجواهر الغير المحسوسة، فيتحرّك من الأخسّ منها وجوداً والأقل آثاراً إلى الأشرف منها وجوداً والأكثر آثاراً، وهكذا تتدرجّ في الاستكمال وتسير في الأطوار السلوكيّة والأحوال من صورة إلى صورة حتّى تنتهي نوبة الانتقال والإرتحال من الجواهر النفسانيّة إلى الجواهر العقلانيّة، فإذا وصلت إلى الحضرة الإلهيّة وعالم الأسماء بعد عالم الأرض والسماء، فيحشر إلى اسم من أسمائه -
{ { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم:48].
تذكرة:
هذه الحركة المعنويّة للأرض، التي تعود بجملة ما فيها ومعها إلى الدار الآخرة، وترجع بها إلى الله تعالى، قد وقعت الإشارة إليها في آيات كثيرة من الكتاب الإلهي، مثل قوله:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } [الحج:5] إلى قوله: { { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج:6 - 7].
وقوله:
{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } [الزمر:71] إلى قوله: { { قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ * وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } [الزمر:72 - 73] إلى قوله: { { فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر:73].