التفاسير

< >
عرض

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ
٦
-الزلزلة

تفسير صدر المتألهين

صدور الناس: خروجهم من مكامن قبروهم وأجداث أجسادهم الأرضيّة إلى الله تعالى، كما في قوله: { { فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس:51]. وقوله: { { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج:43]. وبروزهم من أغشيتهم الماديّة وأغطيتهم الهيولانيّة إلى عالم الآخرة كما في قوله: { { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [إبراهيم:21]. أشتاتاً متفرّقين وأنواعاً متكثّرين.
فحشر الخلائق على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم وأفعالهم ونيّاتهم ومعتقداتهم، فلقوم على سبيل الوفد
{ { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم:85]. ولقوم على نهج سياق الدواب: { { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } [مريم:86]. ولقوم: { { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } [غافر:71 - 72]. ولقوم: { { وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [طه:102]. ولقوم: { { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } } [طه:124]. وقوم مكبّون على وجوههم: { { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ } [الملك:22].
وبالجملة يحشر كلّ أحد إلى غاية سعيه ونهاية عمله، وما كان يحبّه في الدنيا ويعمل لأجله، حتّى أنه لو أحبّ أحدكم حجراً لحُشر معه.
فإنّ تكرّر الأفاعيل يوجب حدوث المَلَكات، وكلّ مَلَكة وصفة نفسانيّة تغلب على باطن الإنسان تتصوّر في الآخرة بصورة تناسبها
{ { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء:84] ولا شكّ أن أفاعيل الأشقياء المردودين المدبرين إنّما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانيّة، وتصوّراتهم مقصورة على أغراض بهيميّة أو سَبُعيّة تغلب على نفوسهم، فلا جَرَمَ يُحشرون على صور تلك الحيوانات المناسبة لأفعالهم ومَلَكاتهم، كما في قوله تعالى: { { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير:5].
وفي الحديث:
"يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القِردة والخنازير" .
حكمة إلهية:
إنّ الإنسان من حيث بدنه الدنيوي، ونفسه المتعلّقة بها، نوع واحد وله حد واحد، ولكن من جهة نشأته الثانية، والصورة الأخرويّة والفائضة على موادّ النفوس بحسب هيآتها النفسانيّة، ستصير أنواعا كثيرة.
والسبب اللِمّي في ذلك أنّ النفس الإنسانيّة لها جهتان: جهة قوّة وجهة فعل.
فهي من حيث فعليّتها صورة فائضة على مادّة البدن، وهي من هذه الحيثيّة أمر واحد هو مبدأ فصل الإنسان، يمتاز به عن سائر المركّبات الحيوانيّة وغيرها.
وأمّا من جهة كونها بالقوّة، فلها استعداد كلّ صفة من الصفات النفسانيّة، ولها قوّة كلّ صورة من الصوَر الأخرويّة، فتخرج من القوّة إلى الفعل في كلّ أمر يغلب عليها صفاته وهيآته.
وهاتان الجهتان لا تكثّران ذاته، ولا توجبان تركّبه من مادّة وصورة، لأنّهما بحسب نشأتين، فما هو صورة في هذه النشأة فهو بعينه مادّة النشأة الثانية، فهي كأنّها واسطة بين الطرفين، وبرزخ بين العالَمَين, وحاجز بين البَحْرين، وسور له باب باطنُهُ فيه الرحمة وظاهرُهُ من قِبَله العذاب، ولهذا المعنى سمّاها بعض المحقّقين طراز عالم الأمر، لأنّها نهاية الجسمانيّات وبداية الروحانيّات.
فثبت بالحكمة الموضحة والبرهان النيّر، أنّ الإنسان - وإن كان بحسب النشأة الحسيّة نوعاً متشابهة أفراده متماثلة أعداده -، إلاّ أنّه عند خروج أعداد نفوسها من القوّة الهيولانيّة إلى فعل الصور الباطنيّة، ستصير أنواعاً متخالفة بحسب غلبة الصفات ورسوخ المَلَكات، كلّ نوع من جنسِ ما يغلب عليه من صفات البهائم أو السباع أو الشياطين أو الملائكة، إذ قد خمّر في طينة الإنسان من جهة قوته العلميّة المتشعّبة إلى العاقلة المدركة للكليّات بذاتها، والواهمة المدركة للجزئيّات بآلاتها الخياليّة الحسيّة والعمليّة الشوقيّة المتشعبّة إلى قوّة الشهوة لطلب الملائم، وقوّة الغضب لدفع المنافر.
فهذه رؤساء القوى المركوزة في جِبِلّة الآدمي، وبكلّ قوّة منها يشارك جنساً من أجناس الملائكة والشياطين والبهائم والسباع، وليس في جواهر الممكنات شيء خارج عن هذه الأربع، فإذا صارت القوّة فعلاً، والاستعداد صورةً، بورزت الإعتقادات والسرائر، وظهرت النيّات والضمائر،
{ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } [العاديات:9 - 10]، { { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [النازعات:36] { { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الشعراء:91].
فكلّ إنسان يوم القيامة إمّا بهيمة من البهائم، إن كان الغالب عليه صفة الشهوة والحرص، وما يجري مجراهما من فروعات النفس الشهويّة.
وإمّا سَبُعاً من السباع، إن كان الغالب عليه صفة الغلبة وحبّ الرياسة وأمثالها من دواعي النفس الغضبيّة.
وإمّا شيطاناً من الشياطين إن كان الغالب عليه صفة المكر والخديعة والغرور، وأشباههما من دواعي النفس الشيطانيّة.
وإمّا مَلَكاً من الملائكة إن كان الغالب عليه إدراك المعقولات والتجرّد عن الجسمانيّات، والسلامة عن هذه الأمراض النفسانيّة.
فأفراد الإنسان وإن كانوا متماثلين في عالم الشهادة وبحسب الظاهر، إلاّ أنهم متخالفو الحقائق بحسب الباطن عند الشحر، فها هنا يصدق عليهم حدّ الإنسانيّة -، وهو الجوهر الناميّ الحسّاس الممّيز المتفكّر - وما هو مبدأ فصله الأخير معنى واحد - وهو الجوهر النطقي والعقل المنفعل منه -، وهو بعينه يصير مادّة صورته الأخرويّة، والمعنى الواحد وإن لم يجز أن يكون فصلاً أو صورة لحقائق مختلفة، ولكنّه يجوز أن يكون جنساً أو مادّة لحقائق مختلفة، وذلك لاعتبار التعيّن والتحصّل في الأوّل، والإبهان والنقص في الثاني، والنفس صورة تماميّة لهذه الأجسام الحسيّة الدنيويّة، ومادّة منفعلة للصوَر الأخرويّة والنشآت الثانويّة.
وهذا المعنى أمر ثابت محقّق عند أئمّة الكشف والشهود، والمعتضد بإشارات قرآنيّة، ورموز نبويّة، دلّت عليه آيات كثيرة وروايات غير يسيرة:
أمّا الآيات: فمثل قوله تعالى:
{ { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم:14].
وقوله:
{ { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل:83].
وقوله:
{ { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [يس:59].
وقوله:
{ { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } [القلم:35].
وقوله:
{ { أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص:28].
وقوله:
{ { هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر:9].
وقوله:
{ { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [الجاثية:21].
كلّه على سبيل الاستفهام الإنكاري - وهو أبلغ -.
وممّا يدلّ على كون الإنسان متّحد الماهيّة في النشأة الدنيا والفطرة الأولى، متخالف الحقائق في النشأة الأخرى والفطرة الثانية، من جهة سبق أعمال واعتقادات ومَلَكات، قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ } [يونس:19] وقوله: { { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [النحل:93]. وقوله: { { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [النبأ:18].
ومن هذا الباب الآيات الدالّة على النسخ، فإنّ المراد منها نسخ البواطن، وقد أوّلها أهل التناسخ إلى انتقال النفوس إلى أبدان أخرى حيوانيّة في هذه النشأة، وحرّفوا الكلم عن مواضعه، وقد بيَّنا فساد ما ذهبوا إليه في موضعه ببرهان خاصّ عرشي لا نطوّل الكلام بذكره، وهي مثل قوله:
{ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [الأنعام:38].
وكقوله:
{ { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [القمر:48].
وقوله:
{ { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الملك:22].
وقوله:
{ { ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [الفرقان:34].
وقوله تعالى:
{ { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء:97].
وقوله:
{ { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [الأنفال:22].
وقوله:
{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء:84].
وقوله:
{ { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الفرقان:44].
وقوله في حَقِّ بلعم وأمثاله:
{ { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } [الأعراف:176] - الآية -.
وأمّا الحديث فكما مرّ، وكقوله:
"يحشر الناس يوم القيامة على صوَر نياتهم" .
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يحشر الناس على وجوه مختلفة" .
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صفة أقوام: "إخوان العلانية أعداء السريرة، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرُّ من الصبر، يلبسون للناس مسوك الكباش من اللين، وقلوبهم كقلوب الذئاب" .
وقول أمر المؤمنين (ع): الناس أبناء ما يحسنون.
فهذه الأحاديث أيضاً دالّة على مسخ البواطن وانقلابها، وهذا كثير في هذه الأمة، فترى الصورة أناسي، وفي الباطن غير تلك الصورة من ملَك أو شيطان أو كلب أو أسد أو ذئب أو قرد أو خنزير وغير ذلك، كما كثر المسخ في الصورة الظاهرة في بني إسرائيل، كما قال سبحانه:
{ { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } [المائدة:60]. وقوله: { { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65].
وقد بيّنا في الشواهد الربوبيّة منشأ الفرق بين مسخ الظواهر على هذا الوجه الجايز الذي كان في قوم موسى (ع)، وبين التناسخ على الوجه المستحيل الذي ذهبت إليه التناسخيّة، والعلة في جواز ذلك، وبطلان ما ذهبوا إليه، وهذا أيضاً من العلوم الشريفة التي تختص بأهل القرآن، وهم أهل الله خاصّة كما ورد في الحديث.
قوله عزَّ من قائل:
{ لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ }
قيل: أي جزاء أعمالهم - بحذف المضاف -، ولا حاجة إليه، لما تحقّق عند أهل الحقيقة أنّ الصوَر الأخرويّة هي صوَر الأعمال القلبيّة والنيّات الباطنيّة، وهذه الصوَر - سواء كانت مؤلمة كما للأشقياء، أو ملذّة كما للسعداء - موجودة الآن في باطن كلّ إنسان، إلاّ أنّها مستورة مختفية عن الأبصار غير مترقّبة عليها الآثار لخفائها وضعفها، وإنّما موطن ظهورها وإلذاذها وإيلامها هو الدار الآخرة. فلا فرق بينها في الدنيا والآخرة إلاّ من جهة الخفاء والظهور، ولهذا قال: { لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ }. وقال:
{ { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف:49].
وقراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "لِيَرُوا - بالفتح - وهذا أصرح في المعنى وأشدّ ملائمة لما بعده.
وقرأ ابن عبّاس وزيد بن علي (ع) "يُره" - بالضمّ،
وهو أنّه قد مرَّ أنّ أفراد الإنسان بحسب مزاولة الأعمال الحسنة والسيئّة، يحشرون على وجوه مختلفة، وأنّهم أبناء ما عملوا وثمرات ما فعلوا، فيصدق على المحشور من كلّ واحد أنّه صورة عمله، كما قال سبحانه في حقّ ابن نوح النبي (ع):
{ { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود:46] وقال: { { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً } [الإسراء:84].
وفي الخبر:
"خلق الله الكافر من ذنب المؤمن" .
تذكرة:
هذه اللام للغاية، أي يصدر الناس أشتاتاً من مقابرهم وأجسادهم إلى عالَم الآخرة، ويخرجون يوم القيامة أشتاتاً متفرّقين على صور مختلفة، وهيآت متباينة ليشاهدوا صور أعمالهم، وغاية سلوكهم وحركاتهم، ومنتهى قصودهم ونيّاتهم، وجزاء حسناتهم وسيّئاتهم، فيُثابون أو يُعاقبون بحسبها.