التفاسير

< >
عرض

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
٧
وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ
٨
-الزلزلة

تفسير صدر المتألهين

الذَرَّة: النملة الصغيرة، وقيل: الذرة: ما يرى شعاع الشمس من الهباء المنثور في الهواء.
أي: كلّ أحد إذا بُعثر ما في القُبور، وحصَّل ما في الصدور، يرى ما عمله في الدنيا من خير أو شرّ مْحضراً، ويصادف دقيق ذلك أو جليله مسطراً في ميزان عمله، وكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، ووجدوا ما علموا حاضراً، ولا يظلم ربّك أحداً.
وذلك الكتاب، إمّا صحيفة ذاته، أو صحيفة أعلى منها، فكلّ إنسان يكون بعد كشف غطائه ورفع حجابه وحِدّة بصره مبصراً لنتائج أعماله، ومشاهداً لآثار أفعاله، قارياً لصفحة كتابه، مطّلعاً على حساب حسناته وسيّئاته، قال الله سبحانه:
{ { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:13 - 14].
فمن جملة أحوال القيامة نشر الصحائف، وتطاير الكتب، لأنّ صحائف الأعمال وكتب القلوب وألواح النفوس وأقلام العقول كلّها مكنونة ها هنا، مطويّة مستورة عن الأبصار في الدنيا، وهي بارزة منشورة يوم القيامة، مكشوفة على الأبصار. كما أنّ منشورات هذا العالم تصير مطويّة في الآخرة، لأنّ الأرواح منغمرة هنا في هذه الأجسام، وفي القيامة على عكس هذه الحال، فكلّما يدركه الإنسان هنا بحواسّه، ويعلمه بجوارحه وآلاته، يرتفع منه أثر إلى الروح، ويجتمع في صحيفة قلبه، ويختزن في خزانة معلوماته. كما قال سبحانه:
{ { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية:29].
وهو كتاب منطو اليوم عن مشاهدة الأبصار والحواسّ، فإذا ارتفع الحجاب، وانكشف الغطاء، وزال غبار الطبيعة عن لوح النفس، وانجلى، يشاهد كلّ أحد في ذاته ما يغيب عن بصره في الحياة الدنيا مسطوراً مكشوفاً، فيطالع صحيفة ذاته، ويقرأ كتاب نفسه، وإذا حان وقت أن يقع بصره إلى وجه ذاته عند فراغه عن أشغال الحياة الدنيا، وما توردها الحواسّ والتفاته إلى صفحة باطنه ووجه قلبه، وهو المعبِّر عنه بقوله:
{ { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } [التكوير:10].
ومن كان في غفلة عن أحوال نفسه وروحه، يقول عند حضور ذاته لذاته، وكشف غطائه, وحِدّة بصره عند البعث، ومطالعة صفحة كتابه:
{ { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف:49]. { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [آل عمران:30].
وممّا يجب أن يُعلم، أنّ الإنسان إن كان الغالب عليه التصّورات العقليّة والتأمّلات القدسيّة، وفعل الخيرات والطاعات، فيكون كتابه في علّيين، وعلّيّون، هم الملائكة المقرّبون المرتفعون عن حضيض الأجرام:
{ { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [المطففين:18 - 21].
وإن كان الغالب عليه فعل الخيرات والحسنات، وسلامة الصدر عن الأمراض النفسانيّة - مبادي السيّئات - فهو من أصحاب اليمين، ويأتي كتابه من جانب اليمين
{ { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [الإنشقاق:7 - 9].
وإن كان من الفجّار المنافقين، الذين قرؤوا كتاباً لمُكنة استعدادهم ودرسوه ثمّ لم يعملوا به لمرض قلوبهم، وأهملوه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً - فبئس ما يشترون -، فيأتي كتابه من وراء ظهره
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } [الإنشقاق:10 - 12].
وإن كان من الجهّال والمردودين إلى أسفل السافلين، المجرمين المنكوسين فهو من أصحاب الشمال، ويأتي كتابه من الجهة السافلة، وعالَم النكال والوبال
{ { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [الحاقة:25 - 26].
فالطائفة الأولى: من أهل البرهان واليقين، وهم السابقون السابقون، أولئك المقرّبون، درجتهم في أعلى علّيين، وكتابهم في صحُف مكرّمة مرفوعة عن النَسخ والتغيير، لا يمَسُّه المطهَّرون عن أدناس الطبيعة
{ { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج:21 - 22]. عن مسِّ الشياطين المضلِّين.
وأمّا الثانية: فهم أهل السلامة
{ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } [الواقعة:91] وحسن الظن بربّهم { { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [الحاقة:19 - 22].
وأمّا الثالثة: فهم أهل الشكّ والجحود والعداوة لأهل الله، والنفاق، وهم الذين يكذّبون بيوم الدين
{ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين:14 - 15]. ولا كتاب للمنافق يوم القيامة، إذ كتابه هو الذي نبذه وراء ظهره واشترى به ثمناً قليلا، وإنّما قرينه الشيطان بتسويلاته وتخييلاته المضلّة، وأغاليطه الكاذبة { { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف:36].
فإذا كان يوم القيامة قيل له. خذ كتابك من وراء ظهرك، من الموضع الذي نبذته فيه في حياتك الدنيا
{ { قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } [الحديد:13]. فإنّه حين نبذه وراء ظهره { { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [الإنشقاق:14] أي جزم، كما قال الشاعر:

فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجج

أي: أجزموا -.
وأمّا الرابعة: فهم أهل الجهل والظلمات، المحترقين بنار الشهوات، المختوم على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم كما للمنافقين عذاب أليم، مرجعهم أسفل سافلين وكتابهم في سجّين
{ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [المطففين:7 - 9]. بالكلمات الباطلة والنقوش المعطّلة، صالح لللاحتراق بنار الجحيم، فإنّ أصل كّل سعادة هو العلم واليقين، ومادّة كلّ شقاوة هي الجهل بالله وبيوم الدين، والنفوس الساذجة بمنزلة قرطاس خالية عن ذكر الحسنات والسيئّات، فإذا انتقشت بالعلوم والحكمة والأدب، صلحت لأن تكون خزانة أسرار الملك، وإذا انتقشت هي بعينها بالكلمات الواهية المعطّلة المزخرفة، لم تصلح إلاّ للإحتراق بالنّار والانمحاق.
حكمة قرآنية:
إعلم أنّ القول والفعل ما دامت حقيقتهما في أكوان الأصوات والحركات، فلا حظَّ لها من البقاء والثبات، فإذا تكوّنت بالوجود الكتبي، حصلت لها مرتبة من البقاء والثبات، وكذا كلّ من فعَل فِعلاً وتكلّم بكلام حصل منه أثر في نفسه وحال تبقى زماناً، وإذا تكرّرت الآثار في النفس فصارت الأحوال مَلَكات تصدر بسببها الأفعال بسهولة من غير رويّة وقصد وحاجة إلى تجشّم اكتساب ومزيد اعتمال، فالحال والمَلَكة في عالم النفس، بإزاء التكلّم والكتابة في عالم البدن، ومن هذا النمط تستنبط الصنايع وتتعلّم المكاسب العلميّة والعمليّة.
ولو لم يكن للآثار الحاصلة في النفس من الأعمال والأقوال دوام وثبات وقوّة واشتداد يوماً فيوماً، إلى حدّ تصير ملكة راسخة، لم يكن لأحد تعلّم شيء من الصنايع والحِرَف، ولم ينجع فيه التأديب والتهذيب، ولم يكن في تأديب الأطفال وتمرينهم فائدة، ولا لهم تفاوت من أوّل الحداثة إلى آخر حدّ الكمال، وتكون التكاليف الشرعية عبثاً لا فائدة فيها في العاقبة.
فعلم أنّ الآثار الحاصلة من الأحوال والأقوال في القلوب والأرواح، بمنزلة النقوش الكتابيّة في الألواح
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة:22].
وتلك الألواح النفسيّة يقال بها: "صحائف الأعمال" وتلك الصور والنقوش الكتابيّة تحتاج في حصولها إلى مصوّر وكاتب، لأنّها ممكنة معلولة، والمعلول لاينفك عن علّته القريبة، فالمصوِّرون والكُتّاب - كتابة غائبة عن هذه الأبصار - هم الكرام الكاتبون المرتفعون عن الوقوع في نقائص هذا العالم، الغائبون عن إدراك حواسّ الناس إلاّ أهل الله، وهم ضَرْب من الملائكة المتعلّقة بأعمال العباد وأقوالهم
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق:18].
وإنّهم طائفتان: إحداهما: ملائكة اليمين، وهم الذين يكتبون أعمال أصحاب اليمين، والأخرى: ملائكة الشمال، وهم الذين يكتبون أعمال أصحاب الشمال
{ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق:17].
وفي الحديث: "من قال:
"سبحان الله العظيم غرست له نخلة في الجنّة" .
وفي الخبر: "إنّ من عمل حسنة كذا، يخلق الله منه مَلَكاً يثاب به، ومن عمل سيئّة كذا، يخلق الله منها شيطاناً يعذّب به" .
قال الله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [فصلت:30] إلى قوله: { { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [فصلت:31].
وفي الطرف الآخر قوله:
{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء:221 - 222].
وكذلك قوله:
{ { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف:36].
واعلم أنّ هذا المبدأ الداعي للنفوس إلى الخير أو الشرّ، هو المسمّى عند الحكماء باسم المَلَكة، وعلى لسان الشريعة باسم المَلَك والشيطان، أحدهما المُلْهم للخير، والآخر المُلهِم للشرّ. ولو لم يكن لتلك المَلَكات من البقاء والثبات ما يبقى أبد الآباد، لم يكن لخلود أهل الطاعات في النعيم وأهل المعاصي في الجحيم وجه- كما أشرنا إليه -، فإنّ منشأ الثواب أو العقاب على وجه الاستيجاب، لو كان نفس العمل والقول - وهما زائلان -، فكيف يتصوّر بقاء المعلول مع زوال السبب الموجب؟ وكيف يكون الفعل الجسماني الواقع في زمان معيّن قليل المقدار، باعثاً للجزاء السرمدي؟ ومثل هذه المجازاة لا تليق بالحكيم وقد قال:
{ { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق:29]. وقال: { { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة:225].
ولكن إنّما يخلد أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار بالثبات والدوام الحصلين للأخلاق والمَلَكات.
وفي كلام بعض أوائل الحكماء، أنّه ستعارض لك في أقوالك وأفعالك وأفكارك، وسيظهر لك من من كلّ حركة قوليّة أو فعليّة إلى آخره، ومنشأ ذلك، أنّ موادّ الصور الأخرويّة هي التصورّات الباطنة والتأويلات الفكريّة والأفكار.
وفي الحديث:
"إنّ الجنة قاع صفصَف، وإنّ غراسها سُبْحَانَ الله " .
فالإنسان إذا انطقع وانكشف عنه الغطاء، وتجرّد عن غشاوة الطبيعة، كان الغيب له شهادة، والعلم عيناً، والخبر معاينةً.