التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
١٦
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
١٨
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (16) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى }: باعوا دين الله واعتاضُوا منه الكفر بالله { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ } مَا ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنّهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنّة التي كانت معدّة لهم لو آمَنُوا { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } إلى الحقّ والصّوَاب.
أقولُ: ولا لطرق التجارة لأنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء أضاعوا رأس مالهم الذي هو الفطرة السليمة بما اعتقدوه من الضلالات ولم يربحوا.
{ (17) مَثَلُهُمْ } حالهم العجيبة قيل إنّما يضرب الله الأمثال للناس في كتبه لزيادة التوضيح والتقرير فإنها أوقع في القلب وأقمعُ للخصم الألدّ لأنّها ترى المتخيّل محقّقاً والمعقول محسوساً { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } طلب سطوع النار ليبصر بها ما حوله { فَلَمَا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } قيل أي النّار ما حول المستوقد أو استضاءت الأشياء التي حوله ان جعلت اضاءت لازمةً { ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ } بارسال ريح أو مطر أطفأها وذلك أنّهم أبصروا بظاهر الإِيمان الحق والهدى وأعطوا أحكام المسلمين من حقن الدم وسلامة المال فلمّا أضاء إيمانهم الظاهر ما حولهم أماتهم الله وصاروا في ظلمات عذاب الله في الآخرة لا يرون منها خروجاً ولا يجدون عنها محيصاً { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ } في العيُون عن الرضا عليه السلام أن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ولكنّه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم.
{ (18) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ }: يعني في الآخرة كما قال عز وجلّ:
{ { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء: 97].
أقول: وفي الدنيا أيضاً عمّا يتعلّق بالآخرة من العلوم والمعارف ولذلك يحشرون يومئذ كذلك قال الله تعالى:
{ { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } [الأعراف: 179] يعني أمور الآخرة في الدنيا. وقال أيضاً { { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] وقال أيضاً { { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [الأعراف: 198] فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عن الضلالة إلى الهدى.
{ (19) أَوْ كَصَيّبٍ }: قيل يعني أو مثل ما خوطبوا به من الحق والهدى كمثل مطر إذ به حياة القلوب كما بالمطر حياة الأرض مِنَ السّمَاءِ من العلوّ.
{ فِيهِ ظُلُمَاتٌ } مثل للشّبهات والمصيبات المتعلّقة به { وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } مثل للتخويف والوعيد والآيات الباهرة المتضمنة للتبصير والتسديد { يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ } لئلا يخلع الرّعد أفئدتهم أو ينزل البرق بالصاعقة عليهم فيموتوا فان هؤلاء المنافقين فيما هم فيه من الكفر والنفاق كانوا يخافون أن يعثر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم على كفرهم ونفاقهم فيقتلهم أو يستأصلهم فإذا سمعوا منه لعناً أو وعيداً لمن نكث البيعة جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا فتتغيّر ألوانهم فيعرف المؤمنون أنّهم المعنيّون بذلك { وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرينَ } مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم وأبدى لك أسرارهم وأمرك بقتلهم.
{ (20) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ } يذهب: بها وذلك لأنّ هذا مثل قوم ابتلوا ببرق فنظروا إلى نفس البرق ولم يغضّوا عنه ابصارهم ولم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلألؤه ولم ينظروا إلى الطريق الذي يريدون أن يتخلّصوا فيه بضوءِ البرق فهؤلاء المنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة الدالة على صدق النبيّ صلّى الله عليه وآله التي يشاهدونها ولا يتبصرون بها ويجحدون الحق فيها يبطل عليهم سائر ما عملوه من الأشياء التي يعرفونها فان من جحد حقاً أدّاه ذلك غلى أن يجحد كلّ حقّ فصار جاحده في بطلان سائر الحقوق عليه كالناظر إلى جرم الشمس في ذهاب نور بصره { كُلّما أَضَاءَ لَهُمْ } ظهر لهم ما اعتقدوه انه الحجّة { مَشَوْا فِيهِ } وهؤلاء المنافقون إذا رأوا ما يحبّون في دنياهم فرحوا ببيعتهم ويتمنّوا باظهار طاعتهم { وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } وقفوا وتحيّروا وهؤلاء المنافقون إذا رأوا في دنياهم ما يكرهون وقفوا وتشاءموا ببيعتهم التي بايعوها قيل مثلُ اهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يتطلع إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيّرهم وتوقّفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة او تعنّ لهم مصيبة بتوقّفهم إذا أظلم عليهم [وإنما قال مع الاضاءة كلما ومع الاظلام إذا] لأنهم حرّاص عن المشي كلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف { وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ } حتى لا يتهيّأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك فتوجب قتلهم { إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء.