التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
-البقرة

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (253) تِلْكَ الرُّسُلُ } إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره { مِنْهُم مَن كَلّمَ اللهُ } من غير سفير كموسى عليه السلام ليلة الحيرة في الطور ومحمد صلّى الله عليه وآله ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى وبينهما بون بعيد { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } بأن فضّله على غيره من وجوه متعددة وبمراتب متباعدة فمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم حيث أوتي ما لم يؤت أحد من المعجزات المرتقية غلى الألف وأكثر وبعث إلى الجن والإنس وخصّ بالمعجزة القائمة إلى يوم القيامة.
وفي العيون عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم
"ما خلق الله خلقاً أفضل مني ولا أكرم عليه مني، قال عليّ صلوات الله عليه فقلت يا رسول الله أفأنت أفضل أم جبرائيل فقال إن الله تعالى فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين وفضّلني على جميع النبيين والمرسلين والفضل بعدي لك يا علي والأئمة من بعدك وإن الملائكة لخدامنا وخدّام محبينا" .
{ وَآتَيْنَا عِيسَىَ ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص { وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } جبرائيل كما مر في تفسير الإمام عليه السلام { وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ } من بعد الرسل { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } المعجزات الواضحات لاختلافهم في الدين وتفضيل بعضهم بعضاً { وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ } بالتزام دين الأنبياء { وَمِنْهُم مَن كَفَرَ } لإِعراضه عنه { وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا } كرره للتأكيد { وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } من الخذلان والعصمة عدلاً وفضلاً.
في الكافي عن الباقر عليه السلام وفي هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلم قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
والعياشي سئل عن أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل كبر القوم وكبّرنا وهلل القوم وهللنا وصلّى القوم وصلّينا فعلى مَا نقاتلهم فتلا هذه الآية ثم قال نحن الذين من بعدهم وقال فنحن الذين آمنّا وهم الذين كفروا.
وفي رواية قال فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله عز وجل وبالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبالكتاب وبالحق فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا وشاء الله قتالهم بمشيئته وإرادته.
{ (254( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } وقرئ بالفتح فيها اجمع أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون على تدارك ما فرطتم والخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصّلون ما تنفقونه وتفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يعينكم عليه اخلاّؤكم أو يسامحونكم به لأن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين ولكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولاً حتى تتكلموا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم ويحتمل أن يكون المراد به يوم الموت كما مرّ في قوله عز وجل واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً وهو اظهر { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ } حيث بلغ ظلمهم بأنفسهم الغاية وبلغ حرمانهم هذه الأمور النهاية وهذا كما يقال فلان هو الفقيه في البلد يراد تقدّمه على غيره.
{ (255) اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } هو المستحق للعبادة لا غير { الْحَيُّ } العليم القدير { الْقَيُّومُ } الدائم القائم القيام بتدبير الخلق وحفظه من قام به إذا حفظه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } نعاس وهو الفتور الذي يتقدّم النوم { وَلاَ نَوْمٌ } بالطريق الأولى وهو تأكيد للنوم المنفي ضمناً والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حياً قيوماً.
العياشي عن الصادق عليه السلام أنه رأى جالساً متوركاً برجله على فخذه فقيل له هذه جلسة مكروهة فقال لا إن اليهود قالت ان الرب لما فرغ من خلق السموات والأرض جلس على الكرسي هذه الجلسة ليستريح فأنزل الله: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم { لَهُ ما فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } يملكهما ويملك تدبيرهما تأكيد لقيموميّته واحتجاج على تفرده بالألوهية والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما.
في الكافي والقمّي عن الرضا عليه السلام انه قرأ له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من ذا الذي الآية.
{ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ } بيان لكبرياء شأنه وانه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلاً من ان يعيقه عناداً أو مناصبة { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ما كان { وَمَا خَلْفَهُمْ } وما لم يكن بعد كذا، روى القمّي عن الرضا عليه السلام { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } من معلوماته { إِلاَّ بِمَا شَاءَ }.
القمّي أي الا بما يوحي إليهم.
أقول: الاحاطة بالشيء علماً ان يعلم كما هو على الحقيقة ومجموع الجملتين يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته.
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } علمه كذا في التوحيد.
وعن الصادق في الكافي والعياشي عنه عليه السلام انه سئل السماوات والأرض وسعن الكرسي أم الكرسي وسع السموات والأرض فقال إن كل شيء في الكرسي.
والقمّي أن عليّاً صلوات الله عليه سئل عن هذه الآية فقال عليه السلام السموات والأرض وما بينهما من مخلوق في جوف الكرسي وله اربعة أملاك يحملونه بإذن الله الحديث.
أقول: وقد يراد بالكرسي الجسم الذي تحت العرش الذي دونه السموات والأرض لاحتوائه على العالم الجسماني كأنه مستقرّه والعرش فوقه كأنّه سقفه.
وفي الحديث النبوي
"ما السماوات السبع والأرضون السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة" رواه العياشي عن الصادق عليه السلام وقد يراد به وعاء العرش.
وفي التوحيد عن الصادق عليه السلام انه سئل عن العرش والكرسي ما هما فقال العرش في وجه هو جملة الخلق والكرسي وعاؤه وفي وجه آخر العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه الأنبياء وحججه والكرسي هو العلم الذي لم يطّلع عليه أحد من أنبيائه ورسله وحججه.
أقول: وكان جملة الخلق عبارة عن مجموع العالم الجسماني ووعاؤه عن عالمي الملكوت والجبروت لاستقراره عليهما وقيامه بهما وربما يقال أن كون الكرسي في العرش لا ينافي كون العرش في الكرسي لأن أحد الكونين بنحو والآخر بنحو آخر لأن أحدهما كون عقلي إجمالي والآخر كون نفساني تفصيلي وقد يجعل الكرسي كناية عن الملك لأنه مستقر الملك وقد يقال انه تصوير لعظمته تعالى وتخييل بتمثيل حسِّي ولا كرسي ولا قعود ولا قاعد كقوله سبحانه والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه وهذا مسلك الظاهريين وما قلناه أولاً مسلك الراسخين في العلم.
{ وَلاَ يَؤُودُهُ } ولا يثقله { حِفْظُهُمَا } حفظه إياهما { وَهُوَ الْعَلِيُّ } عن الأنداد والأشباه ولا يدركه وهو { الْعَظِيمْ } المستحقر بالاضافة إليه كل ما سواه ولا يحيط به فهم.
في الخصال عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم
"أن أعظم آية في القرآن آية الكرسي" .
وفي المجمع والجوامع عن أمير المؤمنين عليه السلام سمعت نبيكم على اعواد المنبر وهو يقول "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله" .