التفاسير

< >
عرض

وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٣١
-البقرة

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (31) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ } القمّي قال (ع) أسماء الجبال والبحار والأودية والنّبات والحيوان.
وفي المجمع والعياشي عن الصادق عليه السلام أنّه سئل ماذا علّمه قال الأرضين والجبال والشّعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط ممّا علّمه.
وفي تفسير الامام عن السجّاد عليه السلام علّمه أسماء كلّ شيء، وفيه أيضاً أسماء أنبياء الله وأوليائه وعتاة أعدائه.
أقول: تحقيق المقام والتوفيق بين روايتي يقتضي بسطاً من الكلام وذكر نبذ من الأسرار فنقول وبالله التوفيق ليس المراد بتعليم الأسماء تعليم الألفاظ والدّلالة على معانيها فحسب كيف وهو يرجع إلى تعليم اللّغة وليس هو علماً يصلح لأن يتفاخر به على الملائكة ويتفضّل به عليهم بل المراد بالأسماء حقائق المخلوقات الكائنة في عالم الجَبَروت المسمّاة عند طائفة بالكلمات وعند قوم بالأسماء وعند آخرين بالعقول.
وبالجملة: أسباب وجود الخلائق وأرباب أنواعها التي بها خلقت وبها قامت وبها رزقت فانّها أسماء الله تعالى لأنّها تدلّ على الله بظهورها في المظاهر دلالة الإِسم على المسمّى فانّ الدلالة كما تكون بالألفاظ كذلك تكون بالذّوات من غير فرق بينهما فيما يؤول إلى المعنى وأسماء الله لا تشبه أسماء خلقه وإنّما أُضيفت في الحديث تارة إلى المخلوقات كلّها لأنّ كلّها مظاهرها التي فيها ظهرت صفاتها متفرّقة وأُخرى إلى الأولياء والأعداء لأنّهما مظاهرها التي فيها ظهرت صفاتها مجتمعة أي ظهرت صفات اللّطف كلّها في الأولياء وصفات القهر كلّها في الأعداء وإلى هذا أُشير في الحديث القدسيّ الّذي يأتي ذكره في تفسير آية سجود الملائكة لآدم عليه السلام من قوله سبحانه: يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبرّياتي هذا محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وأنا الحميد المحمود في فعالي شققت له إسماً من إسمي وهذا عليّ وأنا العلِيّ العظيم شققت له إسماً من إسمي، إلى آخر ما ذكر من هذا القبيل فانّ معنى الاشتقاق في مثل هذا يرجع إلى ظهور الصّفات وانباء المظهر عن الظّاهر فيه أو هما سببان للاشتقاق أو مسبّبان عنه وإنّما يقول بالسّببيّة من لم يفهم العينيّة، والمراد بتعليم آدم الأسماء كلّها خلقه من أجزاء مختلفة وقوىً متباينة حتى استعدّ لادراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيّلات والموهومات والهامه معرفة ذوات الأشياء وخواصّها وأصول العلم وقوانين الصّناعات وكيفيّة آلاتها والتّمييز بين أولياء الله وأعدائه فتأتي له بمعرفة ذلك كلّه مظهريّته لأسماء الله الحسنى كلّها وبلوغه مرتبة أحديّة الجمع الّتي فاق بها سائر أنواع الموجودات ورجوعه غلى مقامه الأصلي الذي جاء منه وصار منتخباً لكتاب الله الكبير الذي هو العالم الأكبر كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: وفيك انطوى العالم الأكبر.
ان قلت: ما نفقه كثيراً ممّا نقول فهب أنّ المراد بالأسماء الحقائق فأيّ مناسبة بين تعليم آدم أسماء المخلوقات وبين خلقه مختلف القوى والأجزاء والهامه معرفة ذوات الأشياء والتمييز بين الأولياء والأعداء فهل لك من تبيان أو تستطيع الإِتيان فيه بسلطان على ان ينحلّ به هذا اللّغز والمعمّى أو ينجلي به عن البصائر العَمَهَ والعمى.
قلت: لعلّك نسيت ما حقّقناه في المقدمة الرابعة في معنى المتشابهه وتأويله أو لم تستطع إجراءه فيما نحن بسبيله فلنورد ذلك لك بتقرير آخر يكون اظهر لك فيما نحن فيه ممّا قرّرناه هنالك.
فنقول: وبالله التّوفيق انّ الاسم ما يدلّ على المسمّى ويكون علامة لفهمه فمنه ما يعتبر فيه صفة تكون في المسمى وبذلك الاعتبار يطلق عليه ومنه ما لا يعتبر فيه ذلك فالأوّل يدلّ على الذّات الموصوفة بصفة معيّنة كلفظ الرّحمن فانّه يدلّ على ذات متّصفة بالرّحمة ولفظ القهّار فانه يدلّ على ذات لها القهر إلى غير ذلك، وقد يطلق الاسم بهذا المعنى على مظاهر صفة الذّات باعتبار اتّصافه بالصّفة كالنّبيّ الذي هو مظهر هداية الله سبحانه فانّه اسم الله الهادي لعباده والأسماء الملفوظة بهذا الاعتبار هي أسماء الأسماء.
وسئل مولانا الرضا عليه السلام عن الاسم ما هو؟ قال: صفة لموصوف وهذا اللّفظ يحتمل المعنيين اللّفظ والمظهر وإن كان في المظهر اظهر وقد يطلق الاسم على ما يفهم من اللّفظ أي المعنى الذّهني، وعليه ورد قول الصّادق عليه السلام: مَنْ عَبَدَ الله بالتّوهّم فقد كفر، ومن عَبَدَ الاسم والمعنى فقد أشرك ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاتها التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك هم المؤمنون حقّاً فانّ المراد بالاسم هاهنا ما يفهم من اللّفظ لا اللّفظ فان اللّفظ لا يعبد وبالمعنى ما يصدق عليه اللّفظ فالاسم معنى ذهنيّ والمعنى موجود عيني وهو المسمّى والاسم غير المسمّى لأنّ الانسان مثلاً في الذّهن ليس بإنسان ولا له جسميّة ولا حياة ولا حسّ ولا حركة ولا نطق ولا شيء من خواصّ الإِنسانية فتدبّر فيه تفهم معنى الحديث ومن الله الإِعانة إذا تمهّد هذا فاعلم أنّ لكلّ اسم من أسماء الله الإِلهية مظهراً من الموجودات باعتبار غلبة ظهور الصّفة التي اشتمل عليها ذلك الإِسم فيه وهو اسم باعتبار دلالته على الله من جهة اتّصافه بتلك الصّفة وذلك لأنّ الله سبحانه إنّما يخلق ويدبّر كلّ نوع من أنواع الخلائق باسمٍ من اسمائه وذلك الإِسم هو ربّ ذلك النوع والله سبحانه ربّ الأرباب.
وإلى هذا أُشير في كلام أهل البيت عليهم السلام في أدعيتهم عليهم السلام بقولهم وبالاسم الذي خلقت به العرش وبالاسم الذي خلقت به الكرسيّ وبالاسم الذي خلقت به الأرواح إلى غير ذلك من هذا النّمط، وعن مولانا الصادق عليه السلام نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا وذلك لأنّهم عليهم السلام وسائل معرفة ذاته ووسائط ظهور صفاته وأرباب أنواع مخلوقاته ولا يحصل لأحد العلم وبالأسماء كلّها إلاّ إذا كان مظهراً لها كلّها ولا يكون مظهراً لها كلّها إلاّ إذا كان في جبلّته استعداد قبول ذلك كلّه وهو ما ذكرناه فافهم ترشد ان شاء الله.
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ }:
أقول: أي عرض أشباح المخلوقات فرداً فرداً في عالم الملكوت المسمّى عند قوم بعالم الرّوحانيّات المدلول عليها بذكر السماء إذ هي مظاهر الأسماء كلّها أو بعضها ولهذا أورد بضمير ذوي العقول لأنهم كلّهم ذوو عقل، وفي الرّواية الأخيرة أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلّة وهو صريح فيما قلناه.
{ فَقَالَ أنْبِؤُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ }:
أقول: يعني بأسماءِ الله التي بها خلقت هذه الأشباح فانها بتمامها كانت مستورة على الملائكة الأرضيّة إلاّ نوعاً واحداً لكلّ صنف منهم كما أنها مستورة على سائر المخلوقات سوى الأنبياء والأولياء.
{ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }: بأنّكم أحقّاء بالخلافة من آدم وأنّ جميعكم تسبِّحون وتقدّسون وأنّ ترككم هاهنا أصلح من إيراد من بعدكم أي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم ممّن ترون أشخاصها فبالحريّ أن لا تعرفوا الغيب الذي لم يكن.