التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
-البقرة

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (62) إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله } وبما فرض عليهم الإيمان به { وَالَّذِينَ هَادُوا } اليهود { وَالنَّصَارَى } الذين زعموا أنهم في دين الله متناصرون.
وفي العيون عن الرضا عليه السلام انهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر.
{ وَالصَّابِئِينَ } الذين زعموا أنهم صَبَوْا إلى دين الله وهم كاذبون.
أقول: صَبَوْا أي مالوا إن لم يهمز وخرجوا ان قرئ بالهمزة.
والقمّي انهم ليسوا من أهل الكتاب ولكنهم يعبدون الكواكب والنجوم { مَنْ آمَنَ بِاللهِ والْيَومِ الآخِرِ } منهم ونزع عن كفره { وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ } في الآخرة حين يخاف الفاسقون { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } إذا حزن المخالفون.
{ (63) وَإِذْ أَخَذْنَا } واذكروا إذ أخذنا { مِيثَاقَكُم } عهودكم أن تعملوا بما في التوراة وما في القرآن الذي اعطيته موسى مع الكتاب وتقرّوا بما فيه من نبوة محمد صلّى الله عليه وآله ووصيه علي والطيبين من ذريتهما وان تؤدوه إلى أخلافكم قرناً بعد قرن فأبيتم قبول ذلك واستكبرتموه { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } الجبل أمرنا جبرائيل أن يقلع من جبل فلسطين قطعة على قدر معسكر اسلافكم فرسخاً في فرسخ فقطعها وجاء بها فرفعها فوق رؤوسهم { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم } قال لهم موسى اما أن تأخذوا بما امرتم به فيه واما ان القي عليكم هذا الجبل فالجأوا إلى قبوله كارهين الا من عصمه الله من العناد فانه قبله طائعاً مختاراً ثم لما قبلوه سجدوا وعفّروا وكثير منهم عفّر خدّيه لا لارادة الخضوع لله ولكن نظراً إلى الجبل هل يقع أم لا { بِقُوَّةٍ } من قلوبكم ومن أبدانكم.
في المحاسن والعياشي عن الصادق عليه السلام انه سئل عن هذه الآية أقوّة في الأبدان أم قوة في القلوب فقال: فيهما جميعاً { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } من جزيل ثوابنا على قيامكم به وشديد عقابنا على إبائكم له.
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام واذكروا ما في تركه من العقوبة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لتتقوا المخالفة الموجبة للعقاب فتستحقوا بذلك الثواب.
{ (64) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } يعني تولى أسلافكم { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } عن القيام به والوفاء بما عوهدوا عليه { فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بامهالكم للتوبة وانظاركم للانابة { لَكُنتُم مِنَ الْخَاسِرِينَ } المغبونين.
{ (65) وَلَقْدْ عِلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ } لما اصطادوا السّموك فيه { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِيْنَ } مبعدين عن كل خير.
{ (66) فَجَعَلْنَاهَا }: اي المسخة التي اخزيناهم ولعناهم بها.
وفي المجمع عن الباقر عليه السلام فجعلنا الأمة.
{ نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } عقوبة لما بين يدي المسخة من ذنوبهم الموبقات التي استحقوا بها العقوبة وردعاً للذين شاهدوهم بعد مسخهم وللذين يسمعون بها من بعدها لكي يرتدعوا عن مثل افعالهم { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } وسيأتي قصتهم في سورة الأعراف إنشاء الله.
{ (67) وَإِذْ قَالَ مُوسَى }: واذكروا إذ قال موسى { لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } تضربون ببعضها هذا المقتول بين اظهركم ليقوم حياً سوياً باذن الله عز وجل ويخبركم بقاتله وذلك حين القى القتيل بين اظهركم فالزم موسى أهل القبيلة بأمر الله أن يحلف خمسون من اماثلهم بالله القوي الشديد إله بني إسرائيل مفضّل محمد وآله الطيبين على البرايا اجميعن إنّا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً فان حلفوا بذلك غرموا دية المقتول وإن نكلوا نصّوا على القاتل أو أقرّ القاتل فيقاد منه وإن لم يفعلوا حبسوا في محبس ضنك إلى أن يحلفوا أو يقرّوا أو يشهدوا على القاتل فقالوا يا نبي الله أما وقت أيماننا اموالنا ولا اموالنا أيماننا قال: لا هذا حكم الله وكان السبب ان امرأةً حسناء ذات جمال وخلق كامل وفضل بارع ونسب شريف وستر ثخين كثر خطّابها وكان لها بنو أعمام ثلاثة فرضيت بأفضلهم علماً واثخنهم ستراً وارادت التزويج به فاشتد حسد إبني عمّه الآخرين له وغبطاهُ عليها لايثارها إياه فعمدا إلى ابن عمها المرضي فأخذاه إلى دعوتهما ثم قتلاه وحملاه إلى محلة تشتمل على أكثر قبيلة من بني إسرائيل فألقياه بين أظهرهم ليلاً فلما أصبحوا وجدوا القتيل هناك فعرف حاله فجاء ابنا عمّه القاتلان له فمزّقا على أنفسهما وحثيا التراب على رؤوسهما واستعديا عليهم فأحضرهم موسى وسألهم فأنكروا أن يكونوا قتلوه وعلموا قاتله فقال: فحكم الله عز وجل على من فعل هذه الحادثة ما عرفتموه فالتزموه فقالوا يا سموى اي نفع في إِيماننا إذا لم تدرأ عنّا الغرامة الثقيلة ام اي نفع في غرامتنا إذا لم تدرأ عنّا الأيمان.
فقال موسى عليه السلام: كل النّفع في طاعة الله والائتمار لأمره والانتهاء عمّا نهى عنه فقالوا: يا نبي الله غرم ثقيل ولا جناية لنا وايمان غليظة ولا حق في رقابنا لو ان الله عز وجل عرفنا قاتله بعينه وكفانا مؤونته فادع لنا ربك أن يبيّن لنا هذا القاتل لينزل به ما يستحقه من العذاب وينكشف أمره لذوي الألباب. فقال موسى عليه السلام إن الله قد بين ما أحكم به في هذا فليس لي أن اقترح عليه غير ما حكم ولا اعترض عليه فيما أمر الا ترون أنه لما حرّم العمل في يوم السبت وحرم لحم الجمل لم يكن لنا أن نقترح عليه أن نغيّر ما حكم به علينا من ذلك بل علينا أن نسلّم حكمه ونلتزم ما الزمناه وهمّ بأن يحكم عليهم بالذي كان يحكم به على غيرهم في مثل حادثتهم فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى اجبهم إلى ما اقترحوا وسلني أن أُبين لهم القاتل ليقتل ويسلم غيره من التهمة والغرامة فاني إنّما أريد باجابتهم إلى ما اقترحوا توسعة الرزق على رجل من خيار امتك دينه الصلاة على محمد وآله الطيبين والتفضيل لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم وعلي بعده على سائر البرايا وأغنيه في الدنيا في هذه القضية ليكون بعض ثوابه عن تعظيمه لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم فقال موسى: يا رب بيّن لنا قاتله فأوحى الله عز وجل إليه قل لبني إسرائيل إنّ الله يبيّن لكم ذلك بأن يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوا ببعضها المقتول فيحيى أفتسلمون لرب العالمين ذلك والا فكفّوا عن المسألة والتزموا ظاهر حكمي فذلك ما حكى الله عز وجل وإذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم أي سيأمركم أن تذبحوا بقرة إن أردتم الوقوف على القاتل.
والقمّي عن الصادق عليه السلام أن رجلاً من خيار بني إسرائيل وعلمائهم خطب امرأة منهم فأنعمت له وخطبها ابن عم لذلك الرجل وكان فاسقاً فردّته فحسد ابن عمه الذي أنعمت إليه فرصده وقتله غيلة ثم حمله إلى موسى عليه السلام فقال يا نبي الله إن هذا ابن عمّي قد قتل فقال من قتله قال: لا أدري وكان القتل في بني إسرائيل عظيماً جداً فعظم قتل ذلك الرجل على موسى عليه السلام فاجتمع إليه بنو إسرائيل فقالوا ما ترى يا نبيّ الله وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة وكان له ابن بار وكان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته في تلك الحال تحت رأس أبيه وهو نائم فكَرِهَ ابنه أن ينبّهه وينغّص عليه نومه فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته فلما انتبه أبوه قال يا بني ما صنعت في سلعتك؟ قال: هي قائمة لم أبعها لأن المفتاح كان تحت رأسك فكرهت أن أزعجك من رقدتك وانغّص عليك نومك قال له أبوه: قد جعلت هذه البقرة لك عوضاً عمّا فاتك من ربح سعلتك وشكر الله للابن ما فعل بأبيه فأمر الله جل جلاله موسى أن يأمر بني إسرائيل بذبح تلك البقرة بعينها ليظهر قاتل ذلك الرجل الصالح فلمّا اجتمع بنو إسرائيل إلى موسى وبكوا وضجّوا قال لهم موسى إن الله بأمركم أن تذبحوا بقرة فتعجّبوا وقالوا: أتتّخذنا هزؤاً نأتيك بقتيل فتقول اذبحوا بقرة { قَالُوا }: يا موسى { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } سخرية تزعم أن الله يأمر أن نذبح بقرة ونأخذ قطعة من ميت ونضرب بها ميتاً فيحي أحد الميتين بملاقاة بعض الميت له فكيف يكون هذا وقرئ باسكان الزاي وبغير همز { قَالَ } موسى { أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } أنسب إلى الله ما لم يقل لي أُعارض أمر الله بقياسي على ما شاهدت دافعاً القول لله عزو جل وأمره ثم قال موسى: أو ليس ماء الرجل نطفة ميتة وماء المرأة كذلك ميّتان يلتقيان فيحدث الله من التقاء الميّتين بشراً حياً سوياً أو ليس بذوركم التي تزرعونها في أرضكم تتفسّخ في أرضكم وتتعفّن وهي ميتة ثم يخرج منها هذه السنابل الحسنة البهيجة وهذه الأشجار الباسقة المونقة فلما بهرهم موسى.