التفاسير

< >
عرض

قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٨
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
١٩
يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً
٢٠
-الأحزاب

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (18) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ } المثبطين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وهم المنافقون { وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } قرّبوا انفسكم الينا { وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً } ولا يقاتلون الاّ قليلاً.
{ (19) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } قيل بخلاء عليكم بالمعاونة او النفقة في سبيل الله او الظفر والغنيمة { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ } في احداقهم { كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ } كنظر المغشيّ عليه { مِنَ الْمَوْتِ } من معالجة سكرات الموت خوفاً ولواذاً بك { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ } وحيّزت الغنايم { سَلَقُوكُمْ } ضربوكم { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } ذربة يطلبون الغنيمة والسلق البسط والقهر باليد او باللّسان { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا } اخلاصاً { فَاَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } هيناً.
{ (20) يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } اي هؤلاء لجبنهم يظنّون انّ الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا { وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابَ } كرّة ثانية { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الأَعْرَابِ } تمنّوا انّهم خارجون الى البدو وحاصلون بين الأعراب { يَسْئَلُونَ } كلّ قادم من جانب المدينة { عَنْ أَنْبَائِكُمْ } عمّا جرى عليكم { وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ } هذه الكرّة ولم يرجعوا الى المدينة وكان قتال { مَا قَاتَلُوا إلاَّ قَلِيلاً } رياء وخوفاً عن التعيير.
القمّي نزلت هذه الآيات في قصّة الأحزاب من قريش والعرب الذين تحزّبوا على رسول الله قال وذلك ان قريشاً تجمّعت في سنة خمس من الهجرة وساروا الى العرب وحلبوا واستفزّوهم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وآله فوافوا في عشرة آلاف ومعهم كنانة وسليم وفزارة وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله حين اجلا بني النضير وهم بطن من اليهود من المدينة وكان رئيسهم حيّ بن اخطب وهم يهود من بني هرون على نبيّنا وآله وعليه السلام فلمّا اجلاهم من المدينة صاروا الى خيبر وخرج حيّ بن اخطب الى قريش بمكّة وقال لهم انّ محمداً قد وتركم ووترنا واجلانا من المدينة من ديارنا واموالنا واجلى بني عمّنا بني قنيقاع فسيروا في الأرض واجمعوا حلفائكم وغيرهم حتّى نسير اليهم فانّه قد بقي من قومي بيثرب سبع مأة مقاتل وهم بنو قريظة وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق وانا احملهم على نقض العهد بينهم وبين محمّد ويكونون معنا عليهم فتأتون انتم من فوق وهم من اسفل وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين وهو الموضع الذي يسمّى بئر بني المطّلب فلم يزل يسير معهم حيّ بن اخطب في قبايل العرب حتّى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة والاقرع بن حابس في قومه وعبّاس بن مرداس في بني سليم فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله فاستشار اصحابه وكانوا سبعمأة رجل فقال سلمان الفارسي (ره) يا رسول الله انّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة قال فما نضع قال نحفر خندقاً يكون بينك وبينهم حجاباً فيمكنك معهم المطاولة ولا يمكنهم ان يأتونا من كلّ وجه فانّا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس اذا دهمنا دهم من عدوّنا نحفر الخنادق فتكون الحرب من مواضع معروفة فنزل جبرئيل على رسول الله فقال اشار بصواب فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بمسحه من ناحية احد الى راتج وجعل على كلّ عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوم من المهاجرين والانصار يحفرونه فحملت المساحى والمعاول وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وآله واخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وامير المؤمنين عليه السلام ينقل التراب من الحفرة حتّى عرق رسول الله صلّى الله عليه وآله وعي وقال لا عيش الاّ عيش الآخرة اللّهمّ اغفر للانصار والمهاجرين فلمّا نظر النّاس الى رسول الله صلّى الله عليه وآله يحفر اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب فلمّا كان في اليوم الثاني بكروا الى الحفر وقعد رسول الله صلّى الله عليه وآله في مسجد الفتح فبينا المهاجرون والانصار يحفرون اذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه فبعثوا جابر بن عبد الله الانصاري الى رسول الله صلّى الله عليه وآله يعلمه بذلك قال جابر فجئت الى المسجد ورسول الله مستلق على قفاه ورداؤه تحت رأسه وقد شدّ على بطنه حجراً فقلت يا رسول الله انّه قد عرض لنا جبل لا تعمل المعاول فيه فقام مسرعاً حتّى جاءه ثم دعا بماء في اناء فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ثم شرب ومجّ من ذلك الماء في فيه ثمّ صبّه على ذلك الحجر ثمّ اخذ معولاً فضرب ضربة فبرقت برقة نظرنا فيها الى قصور الشام ثم ضرب اخرى فبرقت برقة نظرنا فيها الى قصور المدائن ثم ضرب اخرى فبرقت برقة اخرى فنظرنا فيها الى قصور اليمن فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله اما انه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرّمل فقال جابر فعلمت انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله مقوى اي جايع لما رأيت على بطنه الحجر فقلت يا رسول الله هل لك في الغذاء قال ما عندك يا جابر فقلت عناق وصاع من شعير فقال تقدّم واصلح ما عندك قال جابر فجئت الى اهلي فأمرتها فطحنت الشعير وذبحت العنز وسلختها وامرتها ان تخبز وتطبخ وتشوي فلمّا فرغت من ذلك جئت الى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقلت بأبي انت وامّي يا رسول الله قد فرغنا فاحضر مع من اجبت فقام الى شفير الخندق ثم قال يا معاشر المهاجرين والانصار اجيبوا جابر قال جابر وكان في الخندق سبعمأة رجل فخرجوا كلّهم ثم لم يمر بأحد من المهاجرين والانصار الاّ قال اجيبوا جابر فتقدّمت فقلت لأهلي قد والله اتاك محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله بما لا قبل لك به فقالت اعلمته انت بما عندنا قال نعم قالت فهو اعلم بما اتى قال جابر فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله فنظر في القدر ثم قال اغرفي وابقي ثمّ نظر في التنّور ثم قال اخرجي وابقي ثمّ دعا بصحفة وثرد فيها وغرف فقال يا جابر ادخل عليَّ عشرة عشرة فأدخلت عشرة فأكلوا حتّى نهلوا وما يرى في القصعة الاّ اثار اصابعهم ثم قال يا جابر عليَّ بالذّراع فأتيته بالذّراع فأكلوه ثمّ قال ادخل عليّ عشرة فأدخلتهم حتّى اكلوا ونهلوا او ما يرى في القصعة الاّ آثار اصابعهم ثم قال يا جابر عليّ بالذراع فأكلوا وخرجوا ثم قال: ادخل عليّ عشرة فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا وما ترى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم ثمّ قال عليّ بالذراع فأتيته فقلت يا رسول الله كم للشّاة من الذّراع قال ذراعان فقلت والذي بعثك بالحقّ لقد اتيتك بثلاثة فقال اما لو سكتّ يا جابر اكل الناس كلّهم من الذّراع قال جابر فأقبلت ادخل عشرة عشرة فيأكلون حتّى اكلوا كلّهم وبقي والله لنا من ذلك الطعام ما عشنا به ايّاماً قال وحفر رسول الله صلّى الله عليه وآله الخندق وجعل له ثمانية ابواب وجعل على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الانصار مع جماعة يحفظونه وقدمت قريش وكنانة وسليم وهلال فنزلوا الزغابة ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة ايّام واقبلت قريش ومعهم حيّ بن اخطب فلمّا نزلوا العقيق جاء حيّ بن اخطب الى بني قريظة في جوف اللّيل وكانوا في احصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول الله (ص) فدقّ باب الحصن فسمع كعب بن اسيد فقال لأهله هذا قرع الباب اخوك قد شأم قومه وجاء الآن يشأمنا ويهلكنا ويأمرنا نقض العهد بيننا وبين محمّد صلّى الله عليه وآله وقد وفى لنا محمّد صلّى الله عليه وآله واحسن جوارنا فنزل اليه من غرفته فقال له من انت قال حيّ بن اخطب قد جئتك بعزّ الدّهر فقال كعب بل جئتني بذلّ الدهر فقال كعب هذه قريش في قادتها وسادتها قد نزلت بالعقيق مع حلفائهم من كنانة وهذه فزارة مع قادتها وسادتها قد نزلت الزغابة وهذه سليم وغيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان ولا يفلت محمد واصحابه من هذا الجمع ابداً فافتح الباب وانقض العهد الذي بينك وبين محمّد الله صلّى الله عليه وآله فقال كعب لست بفاتح لك الباب ارجع من حيث جئت فقال حيّ ما يمنعك من فتح الباب الاّ حشيشتك التي في التنور مخافة ان اشركك فيها فافتح فانّك امن من ذلك فقال له كعب لعنك الله لقد دخلت عليّ من باب دقيق ثم قال افتحوا له الباب ففتح له فقال ويلك يا كعب انقض العهد الذي بينك وبين محمد صلّى الله عليه وآله ولا تردّ رأيي فانّ محمداً لا يفلت من هذا الجمع ابداً فان فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله ابداً قال فاجتمع كلّ من كان في الحصن من رؤساء اليهود مثل غزال بن شمول وياسر بن قيس ورفاعة بن زيد والزبير ابن ياطا فقال لهم كعب ما ترون قالوا انت سيّدنا والمطاع فينا وصاحب عهدنا وعقدنا فان نقضت نقضنا معك وان اقمت اقمنا معك وان خرجت خرجنا معك فقال الزبير بن ياطا وكان شيخاً كبيراً مجرّباً وقد ذهب بصره قد قرأت التوراة التي انزلها الله تعالى في سفرنا بأنّه يبعث نبيّاً في آخر الزمان يكون مخرجه بمكّة ومهاجره في هذه البحيرة يركب الحمار العريّ ويلبس الشملة بالكسيرات يجترني والتميرات وهو الضحوك القتّال في عينيه الحمرة وبين كتفيه خاتم النبوّة يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر فان كان هو هذا فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم ولو ناوى على هذه الجبال الرّواسي لغلبها فقال حيّ ليس هذا ذاك ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله من بني اسرائيل وهذا من العرب من ولد اسماعيل ولا يكونوا بنو اسرائيل اتباعاً لولد اسماعيل (ع) ابداً لانّ الله قد فضّلهم على الناس جميعاً وجعل فيهم النبوّة والملك وقد عهد الينا موسى (ع) ان لا نؤمن
{ { لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ } } [آل عمران: 183] وليس مع محمّد آية وانما جمعهم جمعاً وسحرهم ويريد ان يغلبهم بذلك فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتى اجابوه فقال لهم اخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمّد صلّى الله عليه وآله فاخرجوه فأخذ حيّ بن اخطب ومزّقه وقال قد وقع الامر فتجهّزوا وتهيّؤوا للقتال وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله ذلك فغمّه غمّاً شديداً وفزع اصحابه فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لسعد بن معاذ واسيد بن حصين وكانا من الاوس وكانت بنو قريظة حلفاء الاوس ائتيا بني قريظة فانظرا ما صنعوا فان كانوا نقضوا العهد فلا تُعْلِما احد اذا رجعتما اليّ وقولا عضل القارة فجاء سعد بن معاذ واسيد بن حصين الى باب الحصن فأشرف عليهما كعب من الحصن فشتم سعداً وشتم رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له سعد انّما انت ثعلب في حجر لتولينّ قريش وليحاصرنّك رسول الله صلّى الله عليه وآله ثم لينزلنّك على الصّغر والقماع وليضربنّ عنقك ثم رجعا الى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالا له عضل والقارة فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلّنا نحن امرناهم بذلك وذلك انّه كان على عهد رسول الله عيون لقريش يتجسّسون اخباره وكانت عضل والقارة قبيلتان من العرب دخلا في الاسلام ثم عذرا فكان اذا عذر احد ضرب بهما المثل فيقال عضل القارة ورجع حيّ ابن اخطب الى ابي سفيان وقريش فأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله ففرحت قريش بذلك فلمّا كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود الأشجعي الى رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد كان اسلم قبل قدوم قريش بثلاثة ايام فقال يا رسول الله قد آمنت بالله وصدّقتك كتمت ايماني عن الكفرة فإن امرتني ان اتيك بنفسي وانصرك بنفسي فعلت وان امرتني ان اخذل بين اليهود وبين قريش فعلت حتّى لا يخرجوا من حصنهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله اخذل بين اليهود وبين قريش فانّه اوقع عندي قال فتأذن لي ان اقول فيك ما اريد قال قل ما بدا لك فجاء الى ابي سفيان فقال له اتعرف مودّتي لكم ونصحي ومحبّتي ان ينصركم الله على عدوّكم وقد بلغني انّ محمداً قد وافق اليهود ان يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم ووعدهم اذا فعلوا ذلك ان يردّ عليهم جناحهم الذي قطعه بنو النضير وقينقاع فلا ارى ان تدعوهم يدخلوا عسكركم حتّى تأخذوا منهم رهناً تبعثوا به الى مكّة فتأمنوا مكرهم وغدرهم فقال له ابو سفيان وفّقك الله واحسن جزاك مثلك اهدى النصايح ولم يعلم ابو سفيان باسلام نعيم ولا احد من اليهود ثم جاء من فوره ذلك الى بني قريظة فقال له يا كعب تعلم مودّتي لكم وقد بلغني انّ ابا سفيان قال نخرج بهؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد صلّى الله عليه وآله فان ظفروا كان الذكر لنا دونهم وان كانت علينا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب فما ارى لكم ان تدعوهم يدخلوا عسكركم حتّى تأخذوا منهم عشرة من اشرافهم يكونون في حصنكم انّهم ان لم يظفروا بمحمّد صلّى الله عليه وآله لم يرجعوا حتّى يردّوا عليكم عهدكم وعقدكم بين محمد صلّى الله عليه وآله وبينكم لأنّه ان ولّت قريش ولم يظفر بمحمّد غزاكم محمد صلّى الله عليه وآله فتقتلكم فقالوا احسنت وابلغت في النصيحة لا نخرج من حصننا حتّى نأخذ منهم رهناً يكونون في حصننا واقبلت قريش فلمّا نظروا الى الخندق قالوا هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك فقيل لهم هذا من تدبير الفارسي الذي معه فوافى عمرو ابن عبدود وهبيرة بن وهب وضرار بن الخطاب الى الخندق وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد صفّ اصحابه بين يديه فصاحوا بخيلهم حتّى طفروا الخندق الى جانب رسول الله (ص) فصاروا أصحاب رسول الله (ص) كلهم خلفه وقدموا رسول الله بين أيديهم.
وقال رجل من المهاجرين وهو فلان لرجل بجنبه من اخوانه أما ترى هذا الشيطان عمروا اما والله ما يفلت من بين يديه احد فهلمّوا ندفع اليه محمد صلّى الله عليه وآله ليقتله ونلحق نحن بقومنا فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيّه صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت { قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمَعَوِّقِينَ مِنْكُمْ } الى قوله تعالى { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } وركز عمرو بن عبدود رمحه في الأرض واقبل يجول جولة ويرتجز ويقول:

ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز ووقفت اذ جبن الشجاع مواقف القرن المناجز
انّي كذلك لم أزل متسرّعاً نحو الهزاهز انّ الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله من لهذا الكلب فلم يجبه احد فوثب اليه امير المؤمنين عليه السلام فقال انا له يا رسول الله فقال يا علي هذا عمرو بن عبدود فارس نبيل فقال انا عليّ بن ابي طالب فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله ادن مني فدنا منه فعمّمه بيده ودفع اليه سيفه ذا الفقار وقال له اذهب وقاتل بهذا وقال اللّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته فمرّ امير المؤمنين عليه السلام يهرول في مشيته وهو يقول:

لا تعجلنّ فقد اتاك مجيب صوتك غير عاجز ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز
انّي لارجو ان اقيم عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء يبقى صيتها بعد الهزاهز

فقال له عمرو من انت قال انا عليّ بن ابي طالب ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وآله وخنته فقال والله انّ اباك كان لي صديقاً ونديماً وانّي اكره ان اقتلك ما امن ابن عمّك حين بعثك اليَّ ان اختطفك برمحي هذا فأتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميّت فقال له امير المؤمنين عليه السلام قد علم ابن عمّي انّك ان قتلتني دخلت الجنّة وانت في النار وان قتلتك فأنت في النار وانا في الجنّة فقال عمرو وكلتاهما لك يا عليّ { { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [النجم: 22] فقال عليّ عليه السلام دع هذا يا عمرو وانّي سمعت منك وانت متعلّق بأستار الكعبة تقول لا يعرض عليّ احد في الحرب ثلاث خصال الاّ اجبته الى واحدة منها وانا اعرض عليك ثلاث خصال فأجبني الى واحدة قال هات يا عليّ قال تشهد ان لا إِله إِلاّ الله محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله قال نحّ عنّي هذا فاسأل الثانية فقال ان ترجع وتردّ هذا الجيش عن رسول الله صلّى الله عليه وآله فان يك صادقاً فأنتم اعلى به عيناً وان يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب امره فقال اذا لا تتحدّث نساء قريش بذلك ولا تنشد الشعراء في اشعارها اني جبنت ورجعت الى عقبي من الحرب وخذلت قوماً راسوني عليهم فقال له امير المؤمنين عليه السلام فالثالثة ان تنزل الى قتالي فإنّك فارس وانا راجل حتى انابذك فوثب عن فرسه وعرقبه وقال خصلة ما ظننت انّ احداً من العرب يسومني عليه ثم بدأ فضرب امير المؤمنين عليه السلام بالسيف على رأسه فاتقاه امير المؤمنين عليه السلام بالدرقة فقطعها وثبت السّيف على رأسه فقال له عليّ عليه السلام اما كفاك انّي بارزتك وانت فارس العرب حتى استعنت عليّ بظهير فالتفت عمرو الى خلفه فضربه امير المؤمنين عليه السلام مسرعاً على ساقيه فقطعهما جميعاً وارتفعت بينهما عجاجة فقال المنافقون قتل علي بن ابي طالب عليه السلام ثم انكشف العجاجة ونظروا فاذا امير المؤمنين عليه السلام على صدره واخذ بلحيته يريد ان يذبحه ثم اخذ رأسه واقبل الى رسول الله صلّى الله عليه وآله والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو وسيفه يقطر منه الدم وهو يقول والرأس بيده

انا ابن عبد المطّلب الموت خير للفتى من الهرب

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله يا عليّ ماكَرْتَهُ قال نعم يا رسول الله الحرب خديعة وبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله الزبير الى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته وامر رسول الله صلّى الله عليه وآله عمر بن الخطاب ان يبارز ضرار بن الخطاب فلمّا برز اليه ضرار انتزع له عمر سهماً فقال له ضرار ويلك يا ابن صهّاك اترميني في مبارزة والله لئن رميتني لا تركت عدوياً بمكّة الاّ قتلته فانهزم عند ذلك عمر ومرّ نحوه ضرار وضربه ضرار على رأسه بالقناة ثم قال احفظها يا عمر فأنّي آلَيت ان لا اقتل قرشياً ما قدرت عليه فكان عمر يحفظ له ذلك بعدما ولّى ولاّه فبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله يحاربهم في الخندق خمسة عشر يوماً فقال ابو سفيان لحيّ بن اخطب ويلك يا يهوديّ اين قومك فسار حيّ بن اخطب اليهم فقال ويلكم اخرجوا فقد نابذكم محمد الحرب فلا انتم مع محمد صلّى الله عليه وآله ولا انتم مع قريش فقال كعب لسنا خاريجن حتّى تعطينا قريش عشرة من اشرافهم رهناً يكونون في حصننا انّهم ان لم يظفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله لم يبرحوا حتى يردّ محمد علينا عهدنا وعقدنا فانّا لا نأمن ان تفرّ قريش ونبقى نحن في عقر دارنا ويغزونا محمد صلّى الله عليه وآله فيقتل رجالنا ويسبي نساءَنا وذرارينا وان لم نخرج لعلّه يردّ علينا عهدنا فقال له حيّ بن اخطب تطمع في غير مطمع قد نابذت العرب محمد الحرب فلا انتم مع محمد صلّى الله عليه وآله ولا انتم مع قريش فقال كعب هذا من شومك انّما انت طائر تطير مع قريش غداً وتتركنا في عقر دارنا ويغزونا محمد صلّى الله عليه وآله فقال له هل لك عهد الله عليّ وعهد موسى انّه ان لم تظفر قريش بمحمد صلّى الله عليه وآله انّي ارجع معك الى حصنك يصيبني ما يصيبك فقال كعب هو الذي قد قلته لك ان اعطتنا قريش اشرافهم رهناً يكونون عندنا والاّ لم نخرج فرجع حيّ بن اخطب الى قريش فأخبرهم فلمّا قال يسألون الرهن قال ابو سفيان هذا والله اوّل الغدر قد صدق نعيم بن مسعود لا حاجة لنا في اخوان القردة والخنازير فلمّا طال على اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله الامر واشتدّ عليهم الحصار وكانوا في برد شديد واصابتهم مجاعة وخافوا من اليهود خوفاً شديداً وتكلّم المنافقون بما حكى الله عزّ وجلّ عنهم ولم يبق احد من اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله الاّ نافق الاّ القليل وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله اخبر اصحابه انّ العرب تتحزّب عليّ ويجيئوننا من فوق وتغدر اليهود وتخافهم من اسفل وانّه يصيبهم جهد شديد ولكن يكون العاقبة لي عليهم فلمّا جاءت قريش وغردت اليهود قال المنافقون { { مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [الأحزاب: 12] وكان قوم لهم دور في اطراف المدينة فقالوا يا رسول الله تأذن لنا ان نرجع الى دورنا فانّها في اطراف المدينة وهي عورة ونخاف اليهود ان يغيروا عليها وقال قوم هلمّوا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالاعراب فانّ الذي كان يعدنا محمد صلّى الله عليه وآله كان باطلاً كلّه ورسول الله صلّى الله عليه وآله امر اصحابه ان يحرسوا المدينة باللّيل وكان امير المؤمنين عليه السلام على العسكر كلّه باللّيل يحرسهم فان تحرك احد من قريش نابذهم وكان امير المؤمنين عليه السلام يجوز الخندق ويصير الى قرب قريش حيث يراهم فلا يزال الليل كلّه قائماً وحده يصلّي فاذا اصبح رجع الى مركزه ومسجد امير المؤمنين عليه السلام هناك معروف يأتيه من يعرفه فيصلّي فيه وهو من مسجد الفتح الى العقيق اكثر من غلوة النشاب فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله من اصحابه الجزع لطول الحصار صعد الى مسجد الفتح وهو الجبل الذي عليه مسجد الفتح اليوم فدعا الله عزّ وجلّ وناجاه فيما وعده وكان ممّا دعاه ان قال يا صريخَ المكروبين ويا مُجِيبَ دعوةِ المُضطرّينَ ويا كاشفَ الكربِ العظيمِ انتَ مَولايَ ووليّي ووليّ آبائي الأوّلينَ اِكْشفْ عنّا غَمّنا وَهَمَّنا وكرْبَنا واصرِفْ عنّا شَرَّ هؤُلاءِ القومِ بقوّتِكَ وَحولكَ وقدرتكَ فنزل جبرئيل فقال يا محمد انّ الله عزّ وجل قد سمع مقالتك واجاب دعوتك وامر الدبور وهي الريح مع الملائكة ان تهزم قريشاً والاحزاب وبعث الله عزّ وجلّ على قريش الدبور فانهزموا وقلعت اخبيتهم ونزل جبرئيل (ع) فأخبره بذلك فنادى رسول الله صلّى الله عليه وآله حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه وكان قريباً منه فلم يجبه ثم ناداه ثانياً فلم يجبه ثم ناداه ثالثاً فقال لبّيك يا رسول الله قال ادعوك فلا تجيبني قال يا رسول الله بأبي انت وامّي من الخوف والبرد والجوع فقال ادخل في القوم وائتني بأخبارهم ولا تحدثن حدثاً حتّى ترجع اليّ فانّ الله عزّ وجلّ قد اخبرني انّه قد ارسل الرياح على قريش وهزمهم قال حذيفة فمضيت وانا انتفض من البرد فوالله ما كان الاّ بقدر ما جزت الخندق حتى كأنّي في الحمّام فقصدت خبأ عظيماً فاذا نار تخبو وتوقد واذا خيمة فيها ابو سفيان قد دلّى خصيتيه على النار وهو ينتفض من شدّة البرد ويقول يا معشر قريش ان كنّا نقاتل اهل السماء بزعم محمد صلّى الله عليه وآله فلا طاقة لنا بأهل السماء وان كنّا نقاتل اهل الأرض فنقدر عليهم ثم قال لينظر كلّ رجل منكم الى جليسه لا يكون لمحمد عين فيما بيننا قال حذيفة فبادرت انا فقلت للذي عن يميني من انت فقال انا عمرو بن العاص ثم قلت للذي عن يساري من انت فقال انا معاوية وانّما بادرت الى ذلك لئلاّ يسألني احد من انت ثم ركب ابو سفيان راحلته وهي معقولة فلولا انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لا تحدث حدثاً حتّى ترجع اليّ لقدرت ان اقتله ثم قال ابو سفيان لخالد بن الوليد يابا سليمان لا بدّ من ان اقيم انا وأنت على ضعفاء الناس ثم قال ارتحلوا انّا مرتحلون ففرّوا منهزمين فلمّا اصبح رسول الله (ص) قال لأصحابه لا تبرحوا فلما طلعت الشمس دخلوا المدينة وبقي رسول الله (ص) في نفر يسير وكان ابن عرقد الكنانيّ رمى سعد بن معاذ بسهم في الخندق فقطع اكحله فنزفه الدم فقبض سعد على اكحله بيده ثم قال اللهمّ ان كنت ابقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فلا اجد احبّ اليّ من محاربتهم من قوم حاربوا الله ورسوله وان كانت الحرب قد وضعت اوزارها بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين قريش فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة فامسك الدم وتورّمت يده وضرب له رسول الله صلّى الله عليه وآله في المسجد خيمة وكان يتعاهده بنفسه فأنزل الله عزّ وجلّ { { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 11، الأحزاب: 9] الآيات الى قوله { { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [الأحزاب: 10] يعني بني قريظة حين غدروا وخافهم اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله { { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [الأحزاب: 10] الى قوله { { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } [الأحزاب: 13] وهم الذين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وآله تأذن لنا نرجع الى منازلنا فانها في اطراف المدينة ونخاف اليهود عليها فأنزل الله فيهم { { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } [الأحزاب: 13] الى قوله { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا } ونزلت هذه الآية في الثاني لما قال لعبد الرحمن بن عوف هلمّ ندفع محمد صلّى الله عليه وآله الى قريش فنلحق نحن بقومنا.