التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
-النساء

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (97) إنَّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ } يحتمل الماضي والمضارع وقرئ توفتهم { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة.
في الإِحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه سئل عن قول الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها وقوله قل يتوفاكم ملك الموت وقوله عز وجل توفته رسلنا وقوله تعالى الذين تتوفاهم الملائكة فمرة يجعل الفعل لنفسه ومرة لملك الموت ومرة للرسل ومرة للملائكة فقال ان الله تعالى أجل وأعظم من أن يتولى ذلك بنفسه وفعل رسله وملائكته فعله لأنهم بأمره يعملون فاصطفى من الملائكة رسلاً وسفرة بينه وبين خلقه وهم الذين قال الله فيهم الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة ومن كان من أهل المعصية تولت قبض روحه ملائكة النقمة ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره وفعلهم فعله وكل ما يأتونه منسوب إليه فإذا كان فعلهم فعل ملك الموت ففعل ملك الموت فعل الله لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب على يد من يشاء وان فعل أُمنائه فعله كما قال وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن ذلك فقال ان الله تعالى جعل لملك الموت أعواناً من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإِنس يبعثهم في حوائجه فيتوفاهم الملائكة ويتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو ويتوفاهم الله تعالى من ملك الموت.
وفي التوحيد سئل أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه عن ذلك فقال ان الله تعالى يدبر الأمور كيف يشاء ويوكل من خلقه من يشاء بما يشاء أما ملك الموت فان الله يوكله بخاصة من يشاء ويوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه والملائكة الذين سماهم الله عز ذكره وكلهم بخاصة من يشاء من خلقه وان الله تبارك وتعالى يدبر الأمور كيف يشاء وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن منهم القوي والضعيف ولأن منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله إلا من يسهل الله له حمله وأعانه عليه من خاصة أوليائه وإنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت وأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء من خلقه من لملائكته وغيرهم.
أقول: ولغموض هذه المسألة قال عليه السلام ما قال والسر فيه أن قابض روح النبات ومتوفيه ورافعه إلى سماء الحيوانية هي النفس المختصة بالحيوان وهي من أعوان الملائكة الموكلة باذن الله لهذا الفعل باستخدام القوى الحساسة والمحركة وكذلك قابض روح الحيوان ومتوفيه ورافعه إلى سماء الدرجة الإِنسانية هي النفس المختصة بالإِنسان وهي كلمة الله المسماة بالروح القدس الذي شأنه إخراج النفوس من القوة الهيولانية إلى العقل المستفاد بأمر الله وإيصال الأرواح إلى جوار الله وعالم الملكوت الأخروي وهم المرادون بالملائكة والرسل وأما الإِنسان بما هو انسان فقابض روحه ملك الموت قل يتوفاكم ملك الموت وأما المرتبة العقلية فقابضها وهو الله سبحانه الله يتوفى الأنفس، يا عيسى اني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات { قَالُوا } أي الملائكة توبيخاً لهم { فِيمَ كُنتُمْ } في أي شيء كنتم من أمر دينكم { قَالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم ويمنعوننا من الإيمان بالله واتباع رسوله واعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمته { قَالُوا } أي الملائكة تكذيباً لهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } فتخرجوا من أرضكم ودوركم وتفارقوا من يمنعكم من الإيمان إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة { فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } قيل نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة.
وفي المجمع والعياشي عن الباقر عليه السلام هم قيس بن الفاكهة بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف.
والقمّي نزلت فيمن اعتزل أمير المؤمنين عليه السلام ولم يقاتلوا معه فقالت الملائكة لهم عند الموت فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض أي لم نعلم مع من الحق فقال الله ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها أي دين الله وكتاب الله واسع فتنظروا فيه.
أقول: لا منافاة بين الخبرين لأن الأول تفسير والثاني تأويل والآية تشملهما.
وفي نهج البلاغة قال عليه السلام ولا يقع اسم الإِستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها اذنه ووعاها قلبه.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام أنه سئل ما تقول في المستضعفين فقال شبيهاً بالفزع فتركتم أحداً يكون مستضعفاً واين المستضعفون فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهن وتحدثت به السقاءات في طرق المدينة.
وعن الكاظم عليه السلام انه سئل عن الضعفاء فكتب الضعيف ومن لم ترفع له حجة ولم يعرف الإِختلاف فإذا عرف الإِختلاف فليس بضعيف.
أقول: وفي الآية دلالة على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من اقامة دينه وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم
"من فر بدينه من أرض إلى أرض وان كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم عليه السلام ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلم" .