التفاسير

< >
عرض

يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (29) يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } هداية في قلوبكم تفرّقون بها بين الحقّ والباطل.
القميّ يعني العلم الذي به تفرّقون بين الحق والباطل { وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ويسترها { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } بالتجاوز والعفو عنها { وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }.
{ (30) وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } واذكر إذ يمكر بك قريش ذكّره ذلك ليشكر نعمة الله عليه في خلاصه { لِيُثْبِتُوكَ } بالحبس { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بسيوفهم { أوْ يُخْرِجُوكَ } من مكّة. { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ } بردّ مكرهم ومجازاتهم عليه { وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }.
العياشي عن أحدهما عليهمَا السلام أنّ قريشاً اجتمعت فخرج من كلّ بطن أناس ثم انطلقوا إلى دار النّدوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول اللهِ فاذا شيخ قائم على الباب واذا ذهبوا إليه ليدخلوا قال ادخلوني معكم قالوا ومن أنت يا شيخ قال أنا شيخ من مضرَ وليَ رأي أشير به عليكم فدخلوا وجلسُوا وتشاوروا وهو جالس وأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه فقال ليس هذا لكم برأي إن أخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم قالوا صدقت ما هذا برأي ثم تشاوروا فأجمعُوا أمرهم على أن بوثقوه قال هذا ليس بالرأي إن فعلتم هذا ومحمّد رجل حلو اللسان أفسد عليكم أبناءَكم وخدمكم وما نفع أحدكم إذا فارقه أخوه وابنه وامرأته ثمّ تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه يخرجون من كلّ بطن منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعاً عند الكعبة ثم قرأ هذه الآية واذ يمكر بك الذين كفرُوا.
والقميّ نزلت بمكة قبل الهجرة وكان سبب نزولها أنّه لما أظهر رَسُول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم الدّعوة بمكة قدمت عليه الأوس والخزرج فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم تمنعوني وتكونون لي جاراً حتى أتلو عليكم كتاب ربّي وثوابكم على الله الجنّة فقالوا نعم خذ لربّك ولنفسك ما شئت فقال لهم موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق فحجّوا ورجعوا إلى منى وكان فيهم مّمن قد حجّ بشر كثير فلما كان الثاني من أيّام التشريق.
قال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العَقَبة ولا تنبّهوا نائماً ولينسل واحداً فواحداً فجاء سبعون رجلاً من الأوس والخزرج فدخلوا الدار فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم تمنعوني وتجيروني حتى أتلو عليكم كتاب ربّي وثوابكم على الله الجنّة.
فقال سعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حزام نعم يا رسول الله اشترط لربّك ولنفسِك ما شئت فقال أمّا ما أشترط لربّي فان تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم وتمنعون أهلي ممّا تمنعون أهليكم وأولادكم فقالوا فما لنا على ذلك فقال الجنّة في الآخرة وتملكون العرب ويدين لكم العجم في الدنيا وتكونون ملوكاً في الجنّة فقالوا قد رضينا.
فقال أخرجوا إليّ منكم اثني عَشَرَ نقيباً يكونون شُهَدَاءَ عليكم بذلك كما أخَذَ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً يكونون شُهَدَاءَ عليكم بذلك فأشارَ إليه جبرئيل فقال هذا نقيب وهذا نقيب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس فمن الخزرج سعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حزام أبو جابر بن عبد الله ورافع بن مالك وسعد بن عبادة والمنذر بن عمر وعبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع وعبادة بن الصامت ومِن الأوس أبو الهيثم بن التّيهان وهو من اليمن وأسد بن حصين وسعد بن خيثمة.
فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم صاح إبليس يا معشر قريش والعرب هذا محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأَسمع أهل منى وهاجت قريش فأقبلوا بالسلاح.
وسمع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم النّداءَ فقال للأنصار تفرّقوا.
فقالوا يا رسول الله إن أمرتنا أن نَميلَ عليهم بأسيافنا فعلنا.
فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم قالوا أفتخْرُج معنا قال انتظر أمر الله فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح وخرج حمزة وأمير المؤمنين عليه السلام ومعهمَا السيف فوقفا على العقبة فلما نظرت قريش إليهما قالوا ما هذا الذي اجتمعتم له فقال حمزة مَا اجتمعنا وما هاهنا أحد والله لا يجوز هذه العقبة أحد الا ضربته بسيفي.
فرجعوا إلى مكة وقالوا لا نأمن أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم فاجتمعوا في النّدوة وكان لا يدخل دار النّدوة إلاّ من قد أتى عليه أربعون سنة فدخلوا أربعين رجلاً من مشايخ قريش وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البواب من أنت قال أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم مني من رأي صائب أنّي حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئت لأشير عليكم فقال ادخل فدخل إبليس فلما أخذوا مجلسهم.
قال أبو جهل يا معشر قريش انّه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا نحن أهل الله تفد إلينا العَرَب في السنة مرتين ويكرّمونا ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمّد بن عبد الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فكنّا نسمّيه الأمين لصَلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى اذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنّه رسول الله وأن أخبار السماءِ تأتيه فسفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شباننا وفرّق جماعتنا وزعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار فلم يرد علينا شيئاً أعظم من هذا فقد [وقد] رأيت فيه رأياً قالوا وما رأيت قال رأيت أن ندسّ إليه رجلاً منّا ليقتله فان طلبت بنو هاشم بدمه أعطيانهم عشر ديات.
فقال الخبيث هذا رأي خبيث قالوا وكيف ذلك قال لأنّ قاتل محمّد مقتول لا محالة فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم فانّه إِذا قتل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم تعصّبت بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة وان بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم على الأرض فيقع بينكم الحروب في حَرَمكم وتتفانوا فقال آخر منهم فعندي رأي آخر قال وما هو قال نثبته في بيته ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنّابغة وامرء القيس.
فقال ابليس هذا أخبث من الآخر قال وكيف ذلك قال لأنّ بني هاشم لا ترضى بذلك فاذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فاخرجوه وقال آخر منهم لا ولكنّا نخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا قال إِبليس هذا أخبث من الرّأيين المتقدّمين.
قالوا وكيف ذلك قال لأنّكم تعمدون إلى أصبح النّاس وجهاً وأنطق الناس لساناً وأفصحهم لهجَةً فتحملونه إلى بوادي العرب فيخدعهم ويسخّرهم بلسانه فلا يفجأكم إلا وقد ملأها عليكم خيلاً ورَجِلاً فبقوا حائرين ثم قالوا لإِبليس فما الرأي فيه يا شيخ قال ما فيه الا رأي واحد قالوا وما هي قال يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد ويكون مَعَهم من بني هاشم رجل فيأخذون سكّينة أو حديدة أو سيفاً فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرّق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه فان سألوكم أن تعطوا الدّية فأعطوهم ثلاث ديات فقالوا نعم عشر ديات.
ثم قالوا الرّأي رأي الشيخ النجدي فاجتمعوا ودخل معهم في ذلك أبو لهب عمّ النبي ونزل جبرئيل على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وأخبره أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك وأنزل عليه في ذلك { واذ يمكر بك الذين كَفَروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } واجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلاً فيقتلوه وخرجوا إلى المسجد يصفرون ويصفقون ويطوفون بالبيت فأنزل الله
{ { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال: 35] فالمكاء التصفير والتصدية صفق اليدين وهذه الآية معطوفة على قوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا } وقد كتبت بعد آيات كثيرة.
فلمّا أمسى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وجاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فانّ في الدار صبياناً ونساءً ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة فاذا أصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجرة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن يفرش له ففرش له فقال لعليّ بن أبي طالب عليه السلام أفدني بنفسك قال نعم يا رسول الله قال نم على فراشي والتحف ببردتي.
فنام عليّ عليه السلام على فراش رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم والتحف ببردته وجاء به جبرئيل فأخذ بيد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرء عليهم
{ { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يس: 9] وقال له جبرئيل خذ على طريق ثور وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور فدخل الغار وكان من أمره ما كان.
فلما أصبحت قريش وثبوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش فوثب عليّ في وجوههم فقال ما شأنكم قالوا له أين محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال جعلتموني عليه رقيباً ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم فأقبلوا يضربونه ويقولون أنت تخدعنا منذ الليلة فتفرقوا في الجبال وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفو الآثار فقالوا يا أبا كرز اليوم اليوم فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال هذه قدم محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم والله لأخت القدم التي في المقام.
وكان أبو بكر استقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فرده معه فقال أبو كرز وهذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه ثم قال وهاهنا عير ابن أبي قحافة فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار ثم قال ما جاوزوا هذا المكان امّا يكون صعدوا السّماءَ أو دخلوا تحت الأرض وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال ما في الغار أحد فتفرقوا في الشعاب فصرفهم عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ثم أذن لنبيّه في الهجرة.