التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
-يونس

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } صرف الخطاب اليهم بعد ما أنكر عليهم ووبّخهم مزجاً للوعد والوعيد والرّحم والغضب كما هو عادته تعالى وعادة خلفائه فى الوعظ والنّصح من الشّروع فى الانذار والوعيد والختم بالبشارة والوعد، ولذلك ختم بوعد المؤمنين بأبسط وجهٍ وللتّباين بينهما لم يأت باداة الوصل، وقد سبق تفسير الآية بتمام اجزائها فى سورة الاعراف { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } استينافٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدّرٍ او حال عن فاعل خلق او استوى منفرداً او على التّنازع ولمّا كان خلقة السّماوات والارض وكذا استواؤه على العرش امراً قضى بحسب ظاهر الحسّ والتّدبير امراً يحتاج اليه المخلوق ما بقى ادّاه بالمضارع الدّالّ على التّجدّد، والامر يقال على كلّ فعل كما يقال: باىّ امرٍ اشتغلت؟ وعلى حال الشّخص، وعلى طلب الشّيء بحكومة، وعلى فعل ذلك الطّلب، وعلى المجرّدات الاله الخلق والامر اشارة اليه، وعلى المشيّة الّتى بها خلق الاشياء الّتى يعبّر عنها بوجهٍ بالعرش وبوجهٍ بالكرسىّ وهى الولاية المطلقة والحقيقة المحمّدية (ص)، والتّدبير عبارة عن النّظر فى ادبار الافعال والاحوال واختيار الاحسن غاية منها، والمقصود انّ الّذى هو خالقكم غير غافلٍ عنكم ينظر فى اموركم واحوالكم ويختار ما هو خير لكم بحسب دنياكم وآخرتكم، ومنه ارسال رسولٍ من جنسكم، او ينظر فى الامر الّذى هو عالم المجرّدات وكيفيّة تنزيله الى المادّيّات فينزّله على وفق حكمته وما ننزّله الاّ بقدر معلوم اقتضته قابليّاتكم اشارة اليه، ومنه ارسال الملك فانّه لا يرسل الملك اليكم بلا واسطة بشرٍ استعدّ لمشاهدته لانّه لو ارسل الى غير المستعدّ لاهلكه وهو خلاف التّدبير والنّظر فى عاقبة الامور وهكذا القول فى بيانه ان فسّر الامر بالمشيّة.
تحقيق تعلّق الشّفاعة ومنها الافتاء للنّاس على الاجازة من الله
{ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استينافٌ جوابٌ لسؤالٍ كأنّه قيل: اليس لاحدٍ دخل فى امر النّاس وحالهم؟ او فى تعلّق فعل الله وامره بعالم الطّبع؟ ولا شفاعة اصلاً؟ - فقال: لا شفاعة الاّ باذنه ودخل الشّفيع باذنه تدبيره تعالى لا غير، او حال متداخلة او مترادفة، والشّفاعة ههنا بمعنى مسئلة العفو عن ذى سلطنةٍ لغيره او مسئلة الاحسان اليه وشاع استعماله فى سؤال العفو للغير والشّفاعة عند الله غير مختصّة بالآخرة كا يظنّ، بل هى ثابتة فى الدّنيا للانبياء (ع) واوصياءهم اذ استغفارهم للتّائبين البائعين على ايديهم شفاعة، واستغفارهم بعد ذلك لهم شفاعة، وامرهم بالخير ونهيهم عن الشّرّ ونصحهم ووعظهم كلّها نحو شفاعة، فمن اجترأ على امر الخلق ونهيهم وبيان حلال الله وحرامه بالفتيا والوعظ الّذى جعلوه صنعة كسائر الصّنائع المعاشيّة والقضاء بين النّاس من غير اذنٍ من الله بلا واسطةٍ او بواسطةٍ فقد اجترأ على الله، والاجتراء على الله نهاية الشّقاوة وهذا كسر عظيم على من دخل واجترأ على اخذ البيعة من النّاس من غير اذنٍ من الله، كما كان ديدن الخلفاء من بنى امّيةً وبنى العبّاس، وكما اجترأ المتشبّهة المبطلة بالصّوفيّة فدخلوا فى ذلك من غير اذنٍ من مشايخ المعصومين (ع)، ولذلك كانت السّلف لم ينقلوا الحديث فضلاً عن بيان احكام الله بالرّأى والظّنّ ما لم يجازوا من المعصوم (ع) او ممّن نصبوه، ومشايخ الاجازة واجازة الرّواية مشهورة مسطورة وسلسلة اجازتهم مضبوطة، وكذا الصّوفيّة المحقّة كانوا لا يدخلون فى الامر والنّهى وبيان الاحكام والاستغفار للخلق واخذ البيعة منهم الاّ اذا اجيزوا وسلاسل اجازاتهم مضبوطة عندهم، وذمّ الامر بالمعروف والنّهى عن المنكر والاقدام على الفتيا والوعظ ممّن ليس له باهل خصوصاً ممّن جعله وسيلة الى اغراضه الفاسدة، من جمع المال والتّبسّط فى البلاد والتّسلّط على العباد والصّيت وصرف وجوه النّاس اليه وادخال محبّته فى قلوبهم قد كثر وروده فى الاخبار، اعاذنا الله من هذا العار وحفظنا من شرّ امثال هؤلاء الاشرار، وقد ورد فى وصف مجلس القضاء: هذا مجلس لا يجلس فيه الاّ نبيٌّ او وصىّ او شقىّ، ومعلوم انّ الوصاية اذن من النّبىّ (ص) فى التّصرّف فيما له التّصرّف فيه من حيث نبوّته وماله التّصرّف فيه من حيث نبوّته هو الاحكام الآلهيّة الّتى يبلّغها الى عباده وحديث: العلماء ورثة الانبياء، يشعر بما ذكرنا، لانّ الوارثة ليست الاّ بالولادة الجسمانيّة او بالولادة الرّوحانيّة وليست الولادة الجمسانيّة مقصودة، والولادة الرّوحانيّة لا تحصل بمحض الادّعاء بل هى نسبة خاصّة واتّصال مخصوص ووراثة المتّصل بالنّبىّ (ص) بقدر اتّصاله وقربه وبعده عن النّبىّ الّذى هو مورّثه، ولا يحصل اصل اتّصال النّسبة الرّوحانيّة الاّ بالعمل الصّورىّ والتّفاضل فى الاتّصال بحسب التّفاضل فى القرب الحاصل بمتابعته وقدر الارث يختلف بحسب التّفاضل فمن كان له شأن الانوثة كان له قسط من الارث، ومن كان له شأن الذّكورة كان له قسطان، والعارف لذلك التّفاضل لا يكون الاّ النّبىّ (ص) او خليفته فوراثته لا تكون الاّ بايراثه وهو الاذن المذكور { ذٰلِكُمُ } الموصوف بالخالقيّة والاستواء على العرش الّذى هو جملة الاشياء وبتدبير امركم فى البقاء وعدم مداخلة احدٍ فى امركم الاّ باذنه { ٱللَّهُ } خبر او بدل او صفة على تقدير اعتبار معنى الوصفيّة فيه { رَبُّكُمْ } خبر لذلكم او صفة لله او خبر بعد خبر { فَٱعْبُدُوهُ } يعنى اذا كان الله الموصوف بتلك الصّفات ربّكم فافعلوا له فعل العبيد او صيروا له عبيداً، ولمّا كان المقصود ترغيبهم فى عبادته لم يصرّح بحصر العبادة فى نفسه ونفى استحقاق الغير { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } الا تفكّرون فيه وفى اوصافه وفى آلهتكم الظّاهرة من الاصنام والكواكب وغير المستحقّين للنّيابة الآلهيّة وفى آلهتكم الباطنة من اهويتكم الفاسدة واغراضكم الكاسدة فلا تذكّرون انّ الحقيق بالعبادة والاطاعة هو الله ومظاهره البشريّة النّائبة عنه لا آلهتكم الّتى لا جهة استقحاق عبادة فيهم.