التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً
١١٠
-الكهف

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } بطريق الحصر يعنى لا شأن لى فى هذا المقام الاّ البشريّة والمثليّة معكم لكن خصّنى الله تعالى شأنه بما لم يخصّكم به فانّه { يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } يعنى يوحى الىّ بخلع الانداد وترك الاشراك فى جميع مراتب الاشراك، فانّ توحيد الآلهة يقتضى توحيد الواجب وتوحيد الوجود وهما يقتضيان التّوحيد بحسب العلم والحال والقال وهو يقتضى توحيد العبادة والطّاعة ولذا عطف توحيد العبادة عليه على سبيل التّفريع { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } ان كان المراد بالرّبّ ربّ الارباب فالمراد باللّقاء كما فى الاخبار لقاء حسابه وثوابه وحُسّابه، وان كان المراد به الرّبّ المضاف وهو الرّبّ فى الولاية فالمراد باللّقاء لقاء ملكوته ثمّ لقاء جبروته، وامّا لقاء ملكه فانّه ليس لقاء حقيقة لانّ ما فى العالم من الاجسام، والجمسانيّات كلّها فى البعد والغيبة والانفصال، بل الجسم الواحد المتّصل كلّ اجزائه فى غيبة بعضها عن بعضٍ وعن الكلّ ولا شهود ولا لقاء حقيقة لشيء من اجزاء الاجسام بخلاف الملكوت فانّ اجزائها كالمرائى يتراءى كلّ فى كلّ ويتّصل كلّ بكلّ نحو اتّصال الصّورة بالمرآة بل اتّصالاً فوقه لا يوصف بالكنه، ورجاء الشّيء يقتضى التّوجّه اليه وانتظار وصوله وجمع البال لحصوله { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } يعنى فليعمل ما يصدق عليه انّه عمل صالح جليلاً كان او يسيراً وقد مضى انّ صلاح العمل باتّصاله بالولاية وانّ غير المتّصل بالولاية غير صالح كائناً ما كان، والمتّصل صالح كائناً ما كان؛ ولذا ورد عنهم (ع): اذا عرفت فاعمل ما شئت، يعنى من قليلٍ الخير وكثيره، والسّرّ فيه انّ من اتّصل بولىّ الامر وتمسّك بالعروة الوثقى وابتغى الوسيلة الى الله كفاه ظهور ذلك الاتّصال بشيءٍ ما من اعمال جوارحه ويكفيه ذلك الاتّصال فى النّجاة بل فى الارتقاء على مراقى الآخرة، لكن لا ينبغى له عدم المبالاة بالاعمال الشّرعيّة والسّنن النّبويّة فانّها حافظة لذلك الاتّصال ومبقية لتلك الوسيلة ولولا الاعمال الشرّعيّة خيف عليه قطع الاتّصال والوسيلة وفى قطعه هلاكته الابديّة، او المعنى فليعمل عملاً صالحاً عظيماً لا يمكن ان يوصف، على ان يكون التّنوين للتّفخيم وذلك العمل العظيم الصّالح ليس الاّ ما هو اصل الصّلاح وصلاح كلّ ذى صلاح وهو الولاية العمليّة الّتى هى البيعة مع صاحب الولاية وقبول الشّروط والمواثيق عنه واخذ بذر الايمان منه وهو الّذى يدخل فى القلب { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } الاشراك فى العبادة امّا بان يشرك فى نفس العمل كالاشراك فى الوضوء والغسل بان يصبّ الغير الماء على الاعضاء، وكالاشراك فى الصّلاة بالاتّكال فى القيام مثلاً على جدارٍ او خشبٍ او انسانٍ، او بان يشرك فى باعث العمل فانّ الباعث على العبادة ينبغى ان يكن احد امورٍ ثلاثة؛ امر الآمر، او محبّة المعبود والعشق له، او طلب لقائه الّذى هو غاية العبادة ونتيجة المحبّة، فاذا اشرك فى شيءٍ من الثّلاثة كان مشركاً فى العبادة، او بان يشرك فى غاية العبادة فانّ غاية العبادة يبنغى ان تكون ذات المعبود ولقاءه او نفس المحبة الباعثة، او امتثال الامر بل فناء العباد وبقاء المعبود فاذا اشرك فى ذلك غيره مثل الجنان ونعيمها، او اتّقاء النّيران وحميمها، او محمدة من النّاس وثناء، او صيت فى النّاس وشهرة، او محبّة فى قلوب النّاس، او حفظ مالٍ وعرضٍ ودمٍ فى النّاس، او امضاء عادة فانّ ترك العادة يوذى النّفس، او خروج من عهدة التّكليف وثقله؛ وغير ذلك ممّا لا يحصى من مخفيّات النّفس بل اذا كان المقصود طلب رضاء الرّبّ او القرب منه بان يكون الانسان مرضيّاً او مقرّباً كان مشركاً فى العبادة، وامّا الاشراك فى ذات المعبود كاشراك الوثينّة والصّابئة وعابدى الملائكة والجنّ وابليس وكاشراك الثنويّة القائلة بالنّور والظّلمة او يزدان واهريمن فهو اشراك فى الآلهة، ونفاه تعالى بقوله: انما آلهكم آله واحد، وامّا الاشراك فى الوجوده والشّهود فى العبادة بالالتفات الى غير المعبود ورؤية الغير حين العبادة وان كان نفيه امراً عظيماً والخلوص منه مرتبةً شريفةً ولا يخلو الانسان منه ما لم يكن فانياً صرفاً فهو مطلوب من اهله، واللّقاء الحقيقىّ لا يحصل بدونه؛ رزقنا الله وجميع المؤمنين الخلوص من هذا الاشراك بمنّه وجوده ومحض احسانه الّذى هدانا به بعد الضّلالة.