التفاسير

< >
عرض

قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً
٦٦
-الكهف

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ } بعد الملاقاة واتمام التّحيّة وما جرى بينهما من المخاطبات { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } مفعول تعلّمنى او حال من فاعل اتّبعك او مفعوله او كليهما او من فاعل تعلّمنى او مفعوله او كليهما او من مرفوع علّمت او تميز مبيّن لكلمة ما او مبيّن لنسبة اتّبع الى الكاف او مصدر لقوله اتّبعك بتقدير مضافٍ اى اتّباع رشد او مصدر لقوله تعلّمنى او علّمت بتقدير مضافٍ اى تعليم رشد او مصدر لفعلٍ محذوفٍ حالاً ممّا سبقه او منقطعاً عمّا قبله دعاء او تعليلاً او مفعول له حصولىّ او تحصيلىّ محتمل التّعليل لكلٍّ من الافعال الثلاثة، ويحتمل جريان بعض وجوه رشداً بالنّسبة الى قوله قال له على بُعدٍ. والمراد بالرّشد الاهتداء الى تنظيم المعاش وحسن المعاشرة مع النّاس بحيث يؤدّى الى حسن المعاد واستحقاق الاجر من الله ويعبّر عنه بسياسة المدن والاهتداء الى سياسة النّفس وكلّ من كان تحت اليد من القوى والجوارح والاهل والعيال وادخالهم تحت حدود الله ويعبّر عنه بتدبير المنزل والاهتداء الى اصلاح النّفس بتخليتها عن الرّذائل وتحليتها بالخصائل، ويعبّر عنه بتهذيب الاخلاق. وامّا العقائد الحقّة الثّابتة الجازمة فهى وان كانت اصل الرّشد وبدونها لا يحصل الرّشد لكن لا يطلق الرّشد عليها فى الغالب وهى كانت حاصلة لموسى (ع) ويعبّر عن الاوّلين بالسّنّة القائمة، وعن الثّالث بالفريضة العادلة، وعن الرّابع بالآية المحكمة، واليها اشير فى الحديث النّبوىّ حيث قال: انّما العلم ثلاثة آية محكمة، او فريضة عادلة، او سنّة قائمة. ولقد اجاد (ع) فى الطّلب حيث تنزّل عن مقامه العالى الى مقام الفقير المحتاج وابرز الطّلب والسّؤال بصورة الاستفهام لا الامر المشترك بين الامر والسّؤال، وفى حكايته تعليم للعباد وانّ من أراد العلم والارلادة كيف ينبغى ان يطلبوا العلم والارادة للعالم والشّيخ وتنبيه على انّ المرء وان كان ذا فضائل كثيرةٍ ومراتب عليّةٍ لا ينبغى ان يتأنّف عن التّعلّم بل ينبغى ان يطلب ما افتقده عمّن يعلم انّ المفقود عنده وان كان الّذى عنده المفقود ادون منه ولا ينظر الى دنوّ رتبته بل يرى نفسه من حيث جهله المفقود ادون منه ومحتاجة اليه فيتضرّع عنده ويتكدّى عليه.
بيان النّيابة للرّسالة والولاية
اعلم، انّ الانبياء (ع) لهم مقامات ثلاثة بحسب نسبتهم الى الخلق: الاوّل مقام البشريّة وبه يتعيّشون مثلهم ويأكلون ويشربون ويسعون فى حاجاتهم ويحتاجون فى المعايش الى معاونتهم وهذا الّذى سدّ طريق الخلق عن قبول نبوّتهم وطاعتهم من حيث انّهم يرونهم محتاجين فى المعايش ساعين فى تحصيلها ولا يرون منهم مقاماً آخر لاختفائه عن النّظر، ولم يشعروا ايضاً بطريق العلم والبرهان ولا بطريق الّذوق والوجدان انّ لهم وراء المرئىّ مقاماً لكون علومهم مقصورة على ما فى هذه الدّار كما قال تعالى؛
ذلك مبغلهم من العلم،

اندرين سوراخ بنّائى كرفت در خور سوراخ دانائى كرفت

ولذلك قصروا اوصافهم ومقاماتهم على المرئىّ فقالوا: ان انتم الاّ بشرٌ مثلنا،

انبيا را مثل خود بنداشتند همسرى با انبيا برداشتند

والثّانى مقام الرّسالة وبه يؤسّسون نظام معاش الخلق بحيث يؤدّى الى صلاح الدّارين ويسنّون حدود الله والعبادات القالبيّة وبحسب هذا المقام كانوا يدعون الخلق عموماً باللّطف والقهر والاختيار والاجبار ويأخذون البيعة منهم على شرائطها المقرّرة عندهم، ويسمّى تلك الدّعوة دعوةً ظاهرةً عامّة وهذه البيعة بيعة عامّة نبويّة وبعد هذه البيعة يقع اسم الاسلام عليهم، والثّالث مقام الولاية وبحسب ذلك المقام كانوا يدعون المستعدّين دون غيرهم الى طريق القلب والسّير الى الله والسّلوك الى الآخرة باللّطف فقط من غير قهرٍ واجبارٍ كما قال تعالى: { { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } [البقرة:256] فانّه فى هذه الدّعوة يرتفع الاكراه ولا يتأتّى الاجبار لانّ السّير بها سلوك من طريق القلب الّذى هو مستور عن الانظار ولا يتصوّر فيه الاجبار، وكانوا من هذه الجهة يعلّمونهم احكام القلب ولوازم السّلوك وحدوده بحسب مراتبه وكانوا يأخذون البيعة منهم على شرائطها المقرّرة عندهم ويسمّى تلك الدّعوة والبيعة دعوة خاصّة باطنة وبيعة خاصّة ولويّة، وبعد تلك البيعة يقع اسم الايمان عليهم وفائدة البيعة العامّة والاسلام الدّخول تحت الحدود والاحكام وحفظ الدّماء والاعراض وتصحيح المناكحة والمواريث وغايته قبول الولاية وقبول الدّعوة الباطنة والبيعة الخاصّة، ولمّا كان ذلك يحصل بالانتحال والانقياد لاحكام الشّرع اكتفوا بعد زمن النّبىّ (ص) فى اطلاق اسم الاسلام وجريان احكامه بمحض هذا الانقياد من دون حصوله بالبيعة او بحصوله بالبيعة الفاسدة مع خلفاء الجور بخلاف الايمان، فانّ ثمرته الارتباط والاتّصال باطناً وبذر ذلك الاتّصال لا يحصل الاّ بالبيعة والاتّصال الصّورىّ والعقد بالايمان والعهد باللّسان واخذ الميثاق وشراء الانفس والاموال ولذلك التزموا فيه البيعة ولم يرضوا عنها باعتقاد الجنان فقط، ومن هذا يظهر سرّ من اسرار قعود علىّ (ع) فى بيته وارخاء العنان نحواً من خمس وعشرين سنةً، وهكذا كان حال اولياء الله (ع) وائمّة الهدى الاّ انّ مقام الرّسالة كان لهم بحسب الخلافة لا الاصالة، ومقام الولاية كان بالاصالة فقد كانوا يستنيبون فى كلّ من المقامين او فى كلهيما وكانت سلسلة النّيابة جارية بعد الغيبة الكبرى الى زماننا هذا وقد سمّى النّوّاب فى مقام الرّسالة بمشايخ اجازة الرّواية، والنّوّاب فى مقام الولاية بمشايخ اجازة الارشاد، والجامعون بين النّيابتين بكلا الاسمين، ويسمّى الاوّلان بالنّوّاب الخاصّة كما يسمّى غيرهم ممّن نصبوه لامامة الجماعة او لجمع الاموال او غير ذلك بهذا الاسم، ويسمّى الثّالث بالنّوّاب العامّة لعموم نيابتهم فى كلّ ما يرجع الى الامام وقد كانت سلسلة اجازة الرّواية فى مشايخها منضبطةً متّصلةً من زمن المعصومين (ع) الى زماننا هذا، وكذا سلسلة اجازة الارشاد كانت منضبطة متّصلة من الخاتم (ص) بل من زمن آدم (ع) الى زماننا هذا؛ فمن ادّعى الفتيا والارشاد من غير اجازةٍ من المأذون فى الاجازة من المعصوم (ع) فقد أخطأ وغوى وأغوى، ومن أفتى او أرشد بالاجازة فانّ مدادهم افضل من دماء الشّهداء. وشأن مشايخ الرّواية رضوان الله عليهم تعليم العباد عبادات القالب وسياسة البلاد كالحدود والمواريث وآداب المعاملات والمناكحات ونظرهم الى الكثرات ومراتبها واعطاء كلّ ذي حقٍ حقّه من اللّطف والقهر والاعطاء والمنع ولذلك يسمّون بالعلماء لانّ العلم بوجهٍ هو ادراك مراتب الكثرات وحقوقها، وشأن مشايخ الارشاد تعليم احكام القلب والسّلوك الى الله التّجريد عن الكثرات وعدم الالتفات اليها وتهذيب الاخلاق والاتّصاف بصفات الرّوحانيّين واماتة الغضب والشّهوة ولذلك يسمّون بالحلماء؛ لانّهم اماتوا الغضب ورضوا بقضاء الله، وشأن مشايخ الاجازتين الجمع بين الحقّين وحفظ مراتب الكثرة مع التّمكّن فى مقام الوحدة، والدّعوة الى الوحدة مع الابقاء فى الكثرة والتّصرّف فى النّفوس بجذبها الى الوحدة مع توسعتها فى الكثرة وخلاصتها حفظ جميع المراتب كما ينبغى ولذلك يسمّون بالحكماء. وقد اشير الى الثّلاثة فيما روى عن السّيّد السّجّاد (ع) انّه قال: لو يعلم النّاس ما فى طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللّجج؛ انّ الله تبارك وتعالى اوحى الى دانيال (ع) انّ امقت عبيدى الىّ الجاهل المستخفّ بحقّ اهل العلم التّارك للاقتداء بهم، وانّ احبّ عبيدى الىّ التّقىّ الطّالب للثّواب الجزيل اللاّزم للعلماء التّابع للحلماء القابل عن الحكماء، والمقصود ملازمة العالم من حيث علمه ومتابعة الحليم من حيث حلمه والقبول عن الحكيم من حيث حكمته، سواء كانت الاوصاف حاصلة لشخصٍ واحدٍ او كان كلّ فى شخص. اذا تمهّد هذا فنقول: انّ الحكيم قد اغناه الله بعلمه عن علم غيره ولا حاجة له الى الرّجوع الى غيره، وامّا العالم الّذى هو شيخ الرّواية فهو غنىّ عن غيره من جهة علم الكثرات، وامّا من جهة احكام القلب وتهذيب الاخلاق وعلوم الاسرار فهو محتاج الى غيره فاقد لما هو عند فينبغى له ان يرجع الى الحليم الّذى هو شيخ الارشاد ويأخذ ما افتقده عنه ولا ينبغى له التّأنّف عنه وان يرى نفسه افضل من الحليم، كما انّ موسى (ع) فى كمال مرتبة الرّسالة وكونه من اولى العزم وكمال مرتبة علمه بالكثرات رجع الى الخضر (ع) مع انّ مرتبة الخضر (ع) من هذه الجهة كانت ادون من مرتبته وسأل عنه ما كان عنده فى كمال التّواضع والتّضرّع وحفظ الادب وسؤال الاتّباع والقبول مع تأنّف الخضر (ع) عن القبول واستكباره عليه، وقد اشير فى الاخبار الى انّ الحافظ لمراتب الكثرات وحقوقها افضل واجمع من المستغرق فى التّوحيد واسراره، وقد ورد ايضاًٍ انّ موسى (ع) كان افضل من الخضر (ع) لذلك وكذلك ينبغى لشيخ الارشاد اذا لم يحصل له مرتبة اجازة الرّواية ان يرجع الى شيخ الرّواية ويتعلّم منه احكام الكثرات ولا يتأنّف عن الرّجوع اليه بل يتواضع عنده ويتذلّل لديه ويسأل احكام الشّريعة عنه، وينبغى لكلّ ان يأمر اتباعه بالرّجوع الى الآخر فيما عنده حتّى يقع الوداد بين العباد ويرتفع النّزاع والعناد ويستحقّوا الرّحمة والفضل من ربّ العباد وهكذا كان حالهم فى زمن الائمّة (ع) وبعده الى مدّة من الغيبة الكبرى، ثمّ لمّا طال الغيبة واختلط الامّة واختفى المشايخ واشتبه الحال على المتسمّين بالشّيعة وتوسّلوا بعلوم العامّة وصوفيّتهم وحصّلوا علم الشّريعة وآداب الطّريقة لاغراضٍ نفسانيّةٍ واعراض دنيويّةٍ وتشبّهوا بالمحقّين من مشايخ الشّيعة وقع التّحاسد والتّباغض والنّزاع والخلاف بينهم وطعن كلّ فى طريق الآخر وكفّر بعضٌ بعضاً وتفل بعض فى وجوه بعضٍ وما هذا الاّ لاهواءٍ كاسدةٍ واغراضٍ فاسدةٍ، اعاذنا الله وجميع المؤمنين من شرّه فى الدّنيا وتبعته فى الآخرة.