التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَٱتَّبَعُواْ } عطف على نبذ فريق يعنى أعرضوا عن الحقّ واتّبعوا { مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ } تلا يتلو تلواً تبعه تبعاً وتلا عليه يتلو تلاوة قرأه عليه وتلا عليه يتلو كذب عليه.
حكاية ملك سليمان وكونه فى خاتمه ورمز ذلك الى الصادق (ع)
اعلم أنّ اكثر قصص سليمان كان من مرموزات الأوائل وأخذها المتأخّرون بطريق الأسمار وأخذوا منها ظاهرها الّذى لا يليق بشأن الانبياء وورد عن المعصومين (ع) تقرير ما أخذوه أسماراً نظراً الى ما رمزها الاقدمون؛ وامثال هذه ورد عنهم تكذيبها نظراً الى ظاهر ما أخذها العوام، وتصديقها نظراً الى ما رمزوا اليه فقد نسب فى مجمع البحرين انّه قال: جعل الله تعالى ملك سليمان فى خاتمه فكان اذا لبسه حضرته الجنّ والانس والطّير والوحش وأطاعوه، ويبعث الله رياحاً تحمل الكرسىّ بجميع ما عليه من الشّياطين والطّير والانس والدّوابّ والخيل؛ فتمرّ بها فى الهواء الى موضعٍ يريده سليمان وكان يصلّى الغداة بالشّام والظّهر بفارس، وكان اذا دخل الخلاء دفع خاتمه الى بعض من يخدمه فجاء شيطانٌ فخدع خادمه وأخذ منه الخاتم ولبسه فخرّت عليه الشّياطين والجنّ والانس والطّير والوحش فلمّا خاف الشّيطان ان يفطنوا به ألقى الخاتم فى البحر فبعث الله سمكة فالتقمه ثمّ انّ سليمان خرج فى طلب الخاتم فلم يجده فهرب ومرّ على ساحل البحر تائباً الى الله تعالى فمرّ بصيّادٍ يصيد السّمك فقال له: اُعينك على ان تعطينى من السّمك شيئاً فقال: نعم فلمّا اصطاد دفع الى سليمان سمكة فأخذها وشقّ بطنها فوجد الخاتم فى بطنها، فلبسه فخرّت عليه الشّياطين والوحش ورجع الى مكانه فطلب ذلك الشّيطان وجنوده الّذين كانوا معه فقتلهم وحبس بعضهم فى جوف الماء وبعضهم فى جوف الصّخرة؛ فهم محبوسون الى يوم القيامة. ونقل أنّه كان عسكر سليمان مائة فرسخ؛ خمسة وعشرون من الانس، وخمسة وعشرون من الجنّ، وخمس وعشرون من الطّير، وخمسة وعشرون من الوحش. وروى انّه أخرج مع سليمان من بيت المقدّس ستّمائة الف كرسىٍّ عن يمينه وشماله وأمر الطّير فأظلّتهم وأمر الرّيح فحملتهم حتّى وردت بهم مدائن كسرى ثمّ رجع فبات فى فارس فقال بعضهم لبعضٍ: هل رأيتم ملكاً اعظم من هذا او سمعتم؟ - قالوا: لا؛ فنادى ملك من السّماء: تسبيحة فى الله أعظم ممّا رأيتم ونسب الى الباقر (ع) انّه قال: لمّا هلك سليمان (ع) وضع ابليس السّحر ثمّ كتبه فى كتابٍ فطواه وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا لملك سليمان (ع) بن داود (ع) من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليفعل كذا وكذا، ثمّ دفنه تحت السّرير ثمّ استبان لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان (ع) الاّ بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيّه فعلى ما سبق من سلطنة الشّياطين وفرار سليمان كان معنى الآية كما فى تفسير الامام (ع): انّ هؤلاء اليهود الملحدين والنّواصب المشاركين لهم لمّا سمعوا من رسول الله (ص) فضائل علىّ بن ابى طالبٍ (ع) وشاهدوا منه (ص) ومن علىٍّ (ع) المعجزات الّتى أظهرها الله تعالى لهم عليها نبذوا التّوراة والقرآن وأفضى بعض اليهود والنّصاب الى بعضٍ وقالوا: ما محمّد (ص) الاّ طالب الدّنيا بحيلٍ ومخاريق وسحر ونير نجاتٍ تعلّمها وعلّم عليّاً بعضها فهو يريد ان يتملّك علينا فى حياته ويعقد الملك لعلىٍّ (ع) بعده، وليس ما يقول عن الله بشيءٍ انّما هو قوله ليعقد علينا وعلى ضعفاء عباد الله بالسّحر والنّيرنجات الّتى يستعملها، وكان أوفر النّاس حظّاً من هذا السّحر سليمان (ع) بن داود (ع) الّذى ملك بسحره الدّنيا كلّها والجنّ والانس والشّياطين ونحن اذا تعلّمنا بعض ما كان يعلمه سليمان تمكّنا من اظهار مثل ما يظهره محمّد (ص) وعلىّ (ع) وادّعينا لأنفسنا ما يدّعيه محمّد (ص) ويجعله لعلىٍّ (ع) واتّبعوا ما تتلوه الشّياطين اى تتبعه او تكذبه او تقرأه مستولين على مملكة سليمان (ع) او غالبين على سلطنته من السّحر والنّيرنجات الّتى لا يدرك مداركها أحد، او اتّبعوا ما تفترى الشّياطين على سلطنة سليمان (ع) من أنّه بالسّحر الّذى نحن عالمون به، او اتّبعوا ما تقرأه الشّياطين من السّحر والأوراد الّتى بها يقع تمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة ويظهر به الخوارق الّتى يعجز عن مثلها البشر وتنفثه على مملكة سليمان لادامته لهم، وزعم هؤلاء اليهود والنّواصب والشّياطين انّ سليمان كفر { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ولا استعمل السّحر كما قال: هؤلاء الكافرون { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } حال كونهم { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } او كفروا لتعليمهم السّحر على ان يكون جواباً لسؤالٍ مقدّر.
تحقيق السّحر
والسّحر اسم لقول او فعل او نقش فى صفحة يؤثّر فى عالم الطّبع تأثيراً خارجاً عن الأسباب والمعتاد وذلك التّأثير يكون بسبب مزج القوى الرّوحانيّة مع القوى الطّبيعيّة، او بتسخير القوى الرّوحانيّة بحيث تتصرّف على ارادة المسخّر السّاحر وهذا أمر واقع فى نفس الأمر ليس محض تخييل كما قيل، وتحقيقه ان يقال: انّ عالم الطّبع واقع بين الملكوت السّفلى والملكوت العليا كما مرّ، وانّ لاهل العالمين تصرّفاً باذن الله فى عالم الطّبع بأنفسهم او بأسبابٍ من قبل النّفوس البشريّة، وانّ النّفوس البشريّة اذا تجرّدت من علائقها وصفت من كدوراتها بالرّياضات الشّرعيّة او غير الشّرعيّة وناسبت المجرّدات العلويّة او السّفلية تؤثّر بالأسباب او بغير الأسباب فى أهل العالمين بتسخيرها ايّاهم وجذبها لهم الى عالمها وتوجيههم فى مراداتها شرعيّةً كانت او غير شرعيّةٍ، واذا كان التّأثير من أهل العالم السّفلىّ تسمّى أسبابه سحراً وقد يسمّى ذلك التّأثير والأثر الحاصل سحراً، وذا كان من أهل العالم العلوىّ يسمّى ذلك التّأثير والاثر الحاصل به معجزة وكرامةً، وقد تتقوّى فى الجهة السّفليّة او العلويّة فتؤثّر بنفسها من دون حاجةٍ الى التّأثير فى الارواح ويسمّى ذلك التّأثير والاثر ايضاً سحراً ومعجزةً، فالسّحر هو السّبب المؤثّر فى الارواح الخبيثة الّذى خفى سببيّته او تأثير تلك الارواح وآثارها فى عالم الطّبع بحيث خفى مدركها ثمّ أطلق على كلّ علم وبيان دقيق قلّما يدرك مدركه، ويطلق على العالم بذلك العلم اسم السّاحر؛ ومنه
{ { يٰأَيُّهَا ٱلسَّاحِرُ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } [الزخرف:49] على وجهٍ فيستعمل السّاحر على هذا فى المدح والذّمّ.
حكاية هاروت وماروت ورموزها
{ وَمَآ أُنْزِلَ } ويعلّمون النّاس ما أنزل، او هو عطف على ما تتلوا الشّياطين، او لفظ ما نافية وهو عطف على ما كفر سليمان، او حال عن السّحر اى لم ينزل السّحر { عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } هما اسمان أعجميّان ولذا لم ينصرفا او عربيّان مأخوذان من هرت ومرت كما قيل بمعنى كسر ولا وجه حينئذٍ لعدم صرفهما، وقيل من هرى بمعنى انضج اللّحم، ومن مرى من المرية او من المماراة، ووزنهما فلعوت مقلوب هريوت ومريوت مثل طاغوت، ويجوز ان يكون من مار يمور بمعنى تحرّك وتموّج، او من مار يمير بمعنى جلب الطّعام الى اهله، او من هار الجُرْف بمعنى انصدع ووزنهما حينئذٍ فلعوت من غير قلبٍ، ومنع صرفهما لمكان التّاء والعلميّة. وعن الصّادق (ع) أنّه قال كان بعد نوحٍ قد كثر السّحرة والممّوهون فبعث الله ملكين الى نبىّ ذلك الزّمان بذكر ما يسحر به السّحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويردّ به كيدهم فتلقّاه النّبىّ عن الملكين وأدّاه الى عباد الله بأمر الله عزّ وجلّ وأمرهم ان يقفوا به على السّحر وان يبطلوه ونهاهم ان يسحروا به النّاس وهذا كما يدلّ على السّمّ ما هو، وعلى ما يدفع به غائلة السّمّ، ثمّ يقال لمتعلّم ذلك: هذا السّمّ؛ من رأيته سمّ فادفع غائلته بكذا؛ وايّاك ان تقتل بالسّمّ أحداً، قال: وذلك النّبىّ أمر الملكين ان يظهرا للنّاس بصورة بشرين ويعلّماهم ما علّمهما الله من ذلك ويعظاهم ونسب الى أبى جعفر (ع) انّه قال: انّ الملائكة كانوا ينزلون من السّماء الى الارض (الى ان قال) فقالت طائفة من الملائكة: يا ربّنا اما تغضب ممّا يعمل خلقك فى أرضك وممّا يصفون فيك الكذب (الى ان قال) فأحبّ الله ان يرى الملائكة القدرة ونفاذ أمره فى جميع خلقه فأوحى الله الى الملائكة ان انتدبوا منكم ملكين حتّى أهبطهما الى الارض ثمّ أجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشّهوة والحرص والأمل مثل ما جعلته فى ولد آدم ثمّ أختبرهما فى الطّاعة لى، قال: فندبوا لذلك هاروت وماروت وكانا من أشدّ الملائكة قولاً فى العيب لولد آدم (ع) فأوحى الله اليهما: ان اهبطا الى الارض فقد جعلت لكما مثل ما جعلت لولد آدم ثمّ أوحى الله اليهما: انظرا الاّ تشركا بى شيئاً ولا تقتلا النّفس الّتى حرّم الله ولا تزنيا ولا تشربا الخمر؛ فهبطا ناحية بابل فرفع لهما مشرف فأقبلا نحوه واذا بحضرته امرأةٌ جميلة حسناء متزيّنة عطرة مسفرة مقبلة نحوهما، قال: فلمّا نظرا اليها وناطقاها وتأمّلاها وقعت فى قلوبهما موقعاً شديداً فرجعا اليها رجوع فتنة وخذلان وراوداها عن نفسها، واجمال الخبر أنّها أمرتهما بسجود الصّنم وشرب الخمر ليتوسّلا بهما الى الزّنا معها، فتوامرا بينهما وقالا: هذه ثلاثة خصالٍ ممّا نهينا عنه، فغلبت عليهما الشّهوة فأجاباها فشربا الخمر وسجدا الصّنم فلمّا تهيّأت لهما وتهيّئا لها دخل عليهما سائلٌ يسأل فلمّا ان رآهما ورأياه ذعرا منه فقال لهما: انّكما لمريبان ذعران قد خلوتما بهذه المرأة انّكما لرجلا سوء وخرج عنهما، فقالت لهما؛ لا والهى ما تصلان الان الىّ وقد اطّلع هذا الرّجل على حالكما ويخبر بخبركما ولكن بادرا الى هذا الرّجل واقتلاه قبل ان يفضحكما ثمّ دونكما فاقضيا حاجتكما فقتلا الرّجل ثمّ رجعا اليها فلم يرياها وبدت لهما سوآتهما قال الله: اختارا عذاب الآخرة او عذاب الدّنيا، فاختارا عذاب الدّنيا وكانا يعلّمان النّاس السّحر فى أرض بابل ثمّ لمّا علّما النّاس السّحر رفعا من الارض الى الهواء فهما معذّبان منكّسان معلّقان فى الهواء الى يوم القيامة وقيل: انّ هذه القضيّة وقعت بعد رفع ادريس (ع) الى السّماء فقالت الملائكة: ما يصنع هذا الخاطئ فينا فلم يرضه الله تعالى منهم وجعلهم معرضاً لامتحانه ثمّ قال: اختاروا من بينكم من هو أصلح منكم فاختاروا ثلاثة من الملائكة أحدهم عزرائيل فهبطوا الى الارض واختلط بهم طباع أهلها ولبسوا لباسهم ثمّ استعفى عزرائيل من الحكومة فى الارض فقبل الله منه ورفعه الى السّماء وبقى هاروت وماروت فى الارض بناحية بابل يحكمان بين النّاس فى النّهار واذا جاء اللّيل خلع منهما طباع البشر ورفعا الى السّماء فجاءت ذات يوم امرأة حسناء لمهمّ لها عندهما فوقعت فى قلوبهما فراوداها الى ان قتلا السّائل وعلّما الاسم الاعظم لها فلمّا أرادا الاختلاط بها صعدت الى السّماء بواسطة الاسم الاعظم ومسخت كوكباً وهى هذه الزّهرة المعروفة؛ والزّهرة كانت اسماً لها، وبقيا فى الارض بعد التّنبّه بأنّهما عصيا واختارا عذاب الدّنيا على عذاب الآخرة بمشورة جبرئيل فعلّقا فى بئرٍ فى مغارة جبل من بابل. وقيل: كانت القضيّة فى عهد ادريس (ع) واختيار عذاب الدّنيا كان بمشورة ادريس (ع) ومسئلته من الله. وقيل: انّهما كانا رجلين صالحين كانا فى النّاس يحكمان بينهم وسمّيا ملكين لصلاحهما، ويؤيّده قراءة الملكين بكسر اللاّم.
اعلم أنّ أمثال هذه من مرموزات الانبياء والحكماء السّلف ولذا اختلف الأخبار وكتب السّير فى نقلها ولمّا كانت من المرموزات وقد حملها العامّة على مفاهيمها العرفيّة الّتى لا يمكن تصحيحها بالنّسبة الى مقام الانبياء والملائكة المعصومين عن الخطاء قرّرها المعصومون تارةً وأنكروها أخرى فانّه نسب الى الامام الحسن العسكرى (ع) انّه سئل عن هاروت وماروت وما نسب اليهما ممّا ذكر سابقاً فقال الامام (ع): معاذ الله من ذلك انّ ملائكة الله معصومون من الخطاء محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله (الى آخر ما قال فيهم) ووجه صحّتها انّ المراد بالملكين القوّتان العّلامة والعمّالة اللّتان أنزلهما الله من عالم الأرواح وجعل فيهما ما جعل فى البشر من الطبائع المتضادّة والشّهوات المتخالفة والآراء المتناقضة وابتلاهما بالمرأة المتعطّرة المتزيّنة الّتى هى النّفس الانسانيّة وقد عبّر عنها فى الأخبار بالمرأة ودعت النّفس القوّتين الى متابعتها وقد افتتنتا بشهواتها ولذّاتها ولم يتيسّر لهما التّمتع بها الاّ بشرب خمر الغفلة وسجدة وثن الهوى وقتل الملك الزّاجر لهما الّذى أنزله الله تعالى معهما زاجراً لهما عن متابعة النّفس فى أوّل الامر ثمّ لمّا عزمتا على مخالطة النّفس واستحكم ذلك فيهما زال عنه قوّة الزّجر والمنع بغلبتهما عليه فصار سائلاً متضرّعاً، ولمّا لم يتيسّر لهما التّمتع بها مع مسئلته قتلتاه بأمرها ثمّ وضعتا للوصول الى شهواتها الطرائق الخفيّة الّتى بها تتصرّفان فى الطّبيعيّات باستمداد من الارواح الخبيثة وبهذا الاعتبار يسمّى سحراً ثمّ تعلّمت منهما ما ترتقى به عن عالم الملك وتتّصل بروحانيّات الكواكب العلويّة خصوصاً روحانيّة الزّهرة الّتى هى المربّية للنّسأ والمزيّنة والمراد بالمسخ المسخ الملكوتىّ لا الملكىّ، ولمّا اتّصلت بروحانيّة الزّهرة قالوا مسخت بها وبقيتا فى عالم الطّبع معذّبتين بأمره تعالى فى خدمة الجسد ولوازمه فى بئرٍ له سبعمائة درجةٍ باعتبارٍ وفى الهواء باعتبارٍ { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } من ذلك السّحر وابطاله { حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } امتحان للخلق جعلنا الله امتحاناً لهم حتّى يعلم من يجاهد فى سبيله ولا يتعلّم ما يضرّ بدينه او لا يستعمل ما يتعلّمه ممّا يضرّ ممّن لا يجاهد { فَلاَ تَكْفُرْ } بترك المجاهدة وتعلّم ما يضرّك او استعماله وبادّعاء الانانيّة لنفسك ونسبة ما تعلّمته اليها مع انّه عارية من الله لها { فَيَتَعَلَّمُونَ } بترك نصحهما { مِنْهُمَا } من الملكين او من الصّنفين اى السّحر وما أنزل على الملكين { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } من الاعمال والاقوال والرّقىّ ويتركون نصائح الملكين ويضرّون بعباد الله { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ } وما المتعلّمون بضارّين بما يفرّقون به بين المرء وزوجه او بما يتعلّمونه { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } لمّا توهّم من نبذ الكتاب واتّباع ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وتلاوة الشّيطان واستيلائه على ملك سليمان بما تلاه وتعليم الشّيطان النّاس السّحر وبالجملة من انتساب الافعال الى المذكورين استقلالهم بها واستبدادهم فيها رفع ذلك التّوهّم بانّ هذه ابتلاءات من الله على أيدى هؤلاء وليس يقع بدون اذنه شيءٌ { وَيَتَعَلَّمُونَ } من الملكين او من الصّنفين { مَا يَضُرُّهُمْ } من انواع السّحر والنّير نجات سوى ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، او المراد أنّهم يتعلّمون ما يضرّهم أعمّ من التّفريق وغيره من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ للاهتمام بالخاصّ ولتطويل مقام الذّمّ ولذا أتى بالعاطف، او المراد أنّهم يتعلّمون من غير الملكين ومن غير الصّنفين ما يضرّهم من العلوم والحرف، او أنّهم يتعلّمون من كلّ ما يتعلّمون جهته الدّنيويّة الّتى تضرّهم فى دينهم وفى دنياهم تبعاً لدينهم، ولا يتعلّمون الجهة الّتى تنفعهم فى دينهم فتنفعهم فى دنياهم أيضاً { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } مع أنّهم أمروا بالتّعلّم لينتفعوا والملكين أنزلا ليتعلّموا منهما ما ينفعهم { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } اى اشترى ما تتلو الشّياطين بكتاب الله كأنّ كتاب الله بحسب فطرته كان مملوكاً له بخلاف ما تتلو الشّياطين لانّ التّدوينىّ من كتاب الله صورة كتابه التّكوينىّ والصّورة الانسانيّة مختصرة من التّكوينىّ وما تتلو الشّياطين ليس منسوباً الى الانسانيّة بل هو ضدّ ونافرٌ منها فاشتراءه بكتاب الله شراء مبيع خسيس رديءٍ بثمنٍ نفيسٍ مملوكٍ له مملوكيّة ذات الشّيء للشّيء ولذا قال بُعَيْد ذلك ولبئس ما شروا به أنفسهم، او المعنى انّهم علموا لمن اشترى ما يضرّه بما ينفعه كأنّ ما ينفعه مملوكٌ له فجعله ثمناً { مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } نصيب { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } كتاب الله فانّه أنفسهم كما عرفت، او ما ينفعهم فانّه أيضاً من شؤن أنفسهم وشأن الشّيء هو الشّيء بوجهٍ، او المقصود أنّهم باشتراء ما تتلو الشّياطين بكتاب الله عرضوا أنفسهم فى معرض البيع للشّيطان فباعوها منه بالأعراض والأغراض الفانية، او المعنى لبئس ما اشتروا به انانيّتهم كما سبق فى نظير الآية { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } لانتهوا عمّا ارتكبوه او لما اشتروه، او المعنى على التّمنّى.
تحقيق العلم وصدقه وحقيقته
اعلم انّ العلم يطلق على مطلق الادراك الانسانىّ سواء كان بالمدارك الظّاهرة او الباطنة، وسواء كان جزئيّاً او كلّيّاً تصوّراً او تصديقاً، ولا يطلق على ادراك سائر الحيوان لانّه ليس مطلق الادراك بل الادراك المأخوذ فى مفهومه الشّعور بالشّعور فى عرف العامّ والادراك الموصوف بالاشتداد اى المستعقب لادراكٍ آخر فوق ذلك الادراك فى طريق الانسان فى عرف الشّارعين، ويطلق على الادراك الكلّىّ او المركّب مقابل المعرفة الّتى تطلق على الادراك الجزئىّ او البسيط، وعلى التّصديق ظنيّاً او علميّاً تقليديّاً او عاديّاً او برهانيّاً، وعلى الفنون العلميّة والصّناعات والحرف العلميّة من دون اعتبار ادراك مدركٍ لها، وعلى الملكة الحاصلة للانسان من ممارستها ومدارستها علماً ومواظبتها عملاً الّتى يقتدر بها على تفصيل مسائلها واتقان عملها، ولمّا كان العلوم والادراكات متخالفة متضادّة والفنون والصّناعات مختلفة والعلوم والجهالات متشابهة غير متمايزةٍ الاّ عند من له بصيرة بدارى العلم والجهل، وانّ أىّ الادراكات صدر من دار العلم وأيّها من دار الجهل، وأيّها يؤدّى الى العلم وأيّها يؤدّى الى العلم وأيّها يؤدّى الى الجهل، وهذا البصير نادر الوجود ولكن طالب تلك البصيرة كثير ولتشابه العلوم والجهالات يضلّ كثير من الطّلاب عن طريق الحقّ ويحسب العلم فى الجهل واليقين فى الظّنّ حتّى أنّه يحسب ان ليس وراء مظنونه علم وادراك كان التّعرّض لتحقيق العلم وأقسامه وتمييزه عن الجهل وأفنانه من المهمّات فنقول: العلم كالوجود وكذا سائر الصّفات الحقيقيّة الالهيّة حقيقة مشكّكة ذات مراتب عديدةٍ فمرتبة منه واجب الوجود تعالى شأنه، ومرتبة منه فعله المسمّى بالمشيئة والحقيقة المحمّديّة (ص) وعلويّة علىّ (ع) ونفس الرّحمن ومقام المعروفيّة وهو الواسطة بين الخلق والحقّ ولذا سمّى بالحقّ المخلوق به، ومرتبة منه الاقلام العالية بأنواعها ومراتبها، ومرتبة منه اللواح النّوريّة بمراتبها الكلّيّة والجزئيّة، ومرتبة منه الالواح العينيّة بسماواتها وسماويّاتها وارضيها وارضيّاتها والعلم فى المراتب العالية لظهور الوجود فيها وخفاء المهيّات وانغمار التّعيّنات وانمحاء الكثرات وظهورها بأنفسها وانكشاف غيرها لها وانكشافها لدى غيرها وادراكها لادراكها يسمّى علماً وعقلاً كما يسمّى وجوداً ونوراً، وامّا فى مراتب المادّيّات وخصوصاً الأرضيّات فلخفاء الوجود وغلبة الاعدام والتّعيّنات وغيبتها عن أنفسها وعن غيرها بحقائقها لا يسمّى شعورها الضّعيف الخفىّ علماً فانّ للكلّ شعوراً بقدر وجوده ولكن لا شعور له بشعوره كما فى قوله تعالى:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44] يعنى انّ للكلّ تسبيحاً وشعوراً ولكن لا شعور لهم بتسبيحهم (على قراءة لا يفقهون بالغيبة) وهكذا الحال فى ادراك الحيوان مع انّ له احساساً بالمدارك الظّاهرة وادراكاً بالمدارك الباطنة لعدم شعوره بشعوره، والسّرّ فى ذلك انّ المادّة الاولى فعليّة وجوده عين القوّة وعدم الوجود الشأنىّ فليس لها وجودٌ فى نفسها حتّى يكون لها وجود لنفسها، او يكون لغيرها وجود لها فلا يكون لها علم بنفسها ولا بغيرها لانّ العلم بالشيء عبارة عن وجود ذلك الشّيء للعالم به وحضوره عنده، والمادّة الثّانية الّتى هى الامتداد الجسمانىّ والصّور المنطبعة فيها من صور العناصر والجمادات والنّباتات لها فعليّة ما ووجود فى أنفسها ووجود لأنفسها لكن فعليّتها مختفية تحت القوّة ووجوداتها فى أنفسها عين أعدامها وتكوّناتها نفس تصرّماتها على ما تقرّر عند الصّوفيّة وبعض ما قلّدهم من الفلاسفة من الحركات الجوهريّة والتّجدّدات الذّاتيّة وانّ موجودات عالم الطّبع بتمامها موادّها وصورها وأوصافها وأعراضها من قبل أنفسها فى الفناء والعدم ومن قبل موجدها فى البقاء والوجود، ووجوداتها لانفسها بعينها أعدامها وغيبوبتها عن أنفسها، على انّ الامتداد الجسمانىّ كلّ جزءٍ من أجزائه الغير المتناهية المفروضة فى الغيبة عمّا سواه وعن الكلّ والكلّ فى الغيبة عن الاجزاء، وما كان كذلك لم يكن له حضور عند غيره ولا لغيره حضور عنده، فلم يكن عالماً بنفسه ولا بغيره ولا معلوماً لغيره الاّ لمن كان الامتداد الجسمانىّ متقوّماً به ومتبدّلاً غيبته بالحضور وتجدّده بالثّبات عنده، وغير الانسان من الحيوان لتجرّد نفسه الحيوانيّة عن المادّة تجرّداً ما كان له وجود فى نفسه ولنفسه فكان عالماً ومعلوماً لنفسه وكان لغيره أيضاً وجودٌ ماله بصورته المجرّدة عن المادّة تجرّداً مثل تجرّد النّفس الحيوانيّة فكان عالماً بغيره أيضاً لكن لمّا كان علمه وادراكه مجرّداً عن الشّعور بالشّعور وعن الاشتداد لا يسمّى علماً بل احساساً وادراكاً، والانسان من اوّل انفصال مادّته واستقرارها فى مقرّها حاله حال الجماد البرزخ بين الجماد والنّبات، وبعد ذلك يصير نباتاً، وبعد ذلك يصير حيواناً كالخراطين له قوّة ضعيفة للحركة الخفيفة وادراك ضعيف بالّلامسة، فاذا تولّد صار حيواناً كاملاً بحسب المدارك الظّاهرة لكن مداركه الباطنة الحيوانيّة بعد فى ضعفٍ حتّى بلغ الى عامين او ثلاثة فيصير حينئذٍ حيواناً كاملاً فى مداركه الظّاهرة والباطنة، ولا فرق بينه وبين الاجناس الثلاثة فى تلك المراتب الاّ انّه واقع فى طريق الانسان غير واقف على شيءٍ من المراتب الثلاث ووجوده لا بشرط شيءٍ بخلافها فانّها واقفة فى مقاماتها غير مستعدّةٍ للتّجاوز عنها لكن شعوره البسيط فى المراتب كشعورها لا يسمّى علماً وان كان فى الاشتداد؛ لما عرفت انّ الجماد والنّبات شعورهما كلا شعورٍ ولا يسمّى ادراكاً وشعوراً فكيف يسمّى علماً، وانّ الحيوان وان كان شعوره شعوراً وادراكاً لكن لانفكاك الاشتداد والشّعور بالشّعور عنه لا يسمّى علماً فاذا بلغ او ان التميز وادراك المعقولات من البديهيّات سمّى عالماً وادراكه علماً لحصول الشّعور بالشّعور له مع الاشتداد لادراكه فى الطّريق الانسانىّ فعلم من ذلك انّ اسم العلم وقع على الادراك بعد ما سُلب عنه حين صيرورته قريناً للشّعور بالشّعور حال كونه مشتدّاً فى الطّريق الانسانىّ، ودوران اطلاق العلم على الادراك وسلبه عنه على وجود الشّعور بالشّعور وعدمه دليلٌ على اعتباره فى اطلاق العلم، واعتبار اشتداد الادراك فى صدق العلم يستفاد من اشارات الآيات والاخبار وانّ الفطرة قاضية بأنّ العلم يقتضى العمل بمقتضاه لانّ الانسان العطشان اذا علم انّ خلف الجدار ماءً وعلم أنّه لا يصل اليه الاّ بالحركة اليه؛ فعلمه يدعوه الى الحركة اليه، على أنّ فى الاخبار اشاراتٍ اليه والعمل يورث العلم بنصوص الاخبار مثل: من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم، وباشارات الكتاب مثل قوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ } حيث جعل التّعليم المورث للعلم ميراث التّقوى، فالعلم على هذا يقتضى العلم، وما فى سورة التّكاثر صريح فى اقتضاء العلم الاشتداد والازدياد من قوله تعالى: { { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [التكاثر:5-7] وقد ذكر المولوى قدّس سرّه اقتضاء العلم الاشتداد بقوله.

اين عجب ظنّى است درتواى مهين كه نمى برّد ببستان يقين
هركَمان تشنه يقين است اى بسر ميزند اندر تزايد بال و بر
جون رسد درعلم بسن بويا شود مر يقين را علم او جويا شود
علم جوياى يقين باشد بدان وين يقين جوياى ديدست وعيان

فاذا سمع الانسان نباح الكلب مثلاً وانتقل منه الى تسخّره للغضب ومنه الى تسخّر الغضب لربّ نوعه، ومنه الى تسخّره لربّ الارباب كان سماعه علماً، واذا سمع نبىّ وقته يقول: يا قوم اتّقوا الله وأطيعونى فانّ فى طاعتى وسماع قولى فلاح الدّنيا والآخرة، وأدرك منه لموافقة شاكلته أنّ فلاح الدّنيا بكثرة المال والتّرأّس على العباد والتّبسّط فى البلاد سواء حمل ذلك القول من النّبىّ على طلبه ذلك او لم يحمل لم يكن ادراكه علماً بل كان جهلاً، وهكذا الحال فى تعلّم الصّناعات العلميّة فانّه اذا تعلّم السّحر للاطّلاع على طرقه الخفيّة لحفظ دين الله وضعفاء عباد الله وابطال السّحر به، او تعلّم الشّطرنج للتنبّه على كيفيّة السّير فى البيوت والغلبة على الخصم منتقلاً به الى سير قواه فى مدارج الآخرة والغلبة على الخصم الّذى هو الشّيطان وجنوده كان ادراكه علماً، واذا تعلّم الفقه او علم الأخلاق او علم العقائد الدّينيّة ولم يكن المقصود منه العمل وامتثال الاوامر والنّواهى وتبديل الأخلاق ولا التّرقّى من حضيض العلم الى اوج اليقين والشّهود بل كان مقصوده التحبّب الى النّاس او التّرأّس عليهم او الصّيت فى بلادهم او التّصرّف فى الاوقاف والوصول الى المناصب الشّرعيّة او غير الشّرعيّة او غير ذلك من الأغراض النّفسانيّة كان ادراكه جهلاً لا علماً فمدار علميّة الادراك وجهليّته شاكلة الانسان لا صورة المدرك والصّناعات فربّ متعلّمٍ للفقه كان عبداً للشّيطان بل ابناً له، وربّ متعلّمٍ للسّحر والشّطرنج والموسيقار الّتى قالوا بحرمة تعلّمها كان ادراكه علماً؛ وبالجملة كلّما أخذ النّاقص بدون الاذن والانقياد للكامل صار فى وجوده نقصاً وعلّة، وما أخذه الكامل او النّاقص باذن الكامل وانقياده كان كمالاً وفضيلةً؛ ونعم ما قال المولوىّ قدّس سرّه:

دست ناقص دست شيطان است وديو زانكه اندر دام تكليف است وريو
كاملى كَر خاك كَيرد زر شود ناقص ار زر برد خاكستر شود
جهل آيد بيش او دانش شود جهل شد علمى كه در ناقص رود
هرجه كَيرد علّتى علّت شود كفر كَيرد ملّتى ملّت شود

والحاصل أنّ كلّ ادراكٍ يكون سبباً للادبار عن الدّنيا والاقبال على الآخرة يسمّى عند أهل الله علماً، وكلّ ادراكٍ لم يكن كذلك لم يكن علماً، والعالم من كان يعلم ما يحتاج اليه فى معاشه ومعاده مع اقباله على الآخرة، والمتعلّم من كان طالباً لادراك ما يحتاج اليه مع اقباله على الآخرة، ومن كان مقبلاً على الدّنيا لم يكن عالماً ولو كان مدركاً لجميع المسائل الشّرعيّة والمطالب الخلقيّة والعقائد الدّينيّة بالبرهان المتقن؛ ونعم ما قيل: انّ العلم هو الّذى لم يجتمع مع الأغراض الدّنيويّة والاهواء النّفسانيّة؛ وما اجتمع مع تلك فهو جهل مشابهٌ للعلم وليس بعلمٍ، فقول المعصوم (ع): طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة؛ اشارة الى هذا الادراك سواء كان مع الجلوس فى المدرسة او مع الاكتساب للمعيشة والاّ كان أكثر النّاس محروماً من هذه الفضيلة، وكذا قوله (ع): كن عالماً او متعلّماً ولا تكن ثالثاً فتهلك، اشارة الى هذا العلم وطلبه والاّ كان الأمر به أمراً بالمحال لأغلب النّاس.
وما ورد فى أخبارٍ كثيرة من أقسام العلم وطلبته وأقسام العالم يدلّ على ما ذكر مثل ما روى:
" انّ رسول الله (ص) دخل المسجد فاذاً جماعة قد أطافوا برجلٍ فقال (ص): ما هذا؟ - فقيل: علاّمة، فقال (ص): وما العّلامة؟ - فقالوا: أعلم النّاس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهليّة والاشعار العربيّة، فقال النّبىّ (ص): ذاك علمٌ لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه، ثمّ قال النّبىّ (ص): انّما العلم ثلاثةٌ؛ آية محكمة، او فريضة عادلة، او سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضلٌ" . فانّه اشارة الى الاقسام الثّلاثة للعلم العقلانىّ والنّفسانىّ والجسمانىّ بحيث يكون مشتملاً على الاقبال على المعلوم والعمل المستلزم للاشتداد فانّ الآية المحكمة عبارة عن العلوم العقلانيّة الّتى يجد العالم شيئاً من حقائق المعلومات ويستلذّ به والاّ لم تكن آياتٍ ومرائى، والّتى لم يكن للرّيب والشّكّ والزّوال مجالٌ فيها والاّ لم تكن محكمة، وهذا بخلاف العلوم الخياليّة الّتى حصّلها الفلسفىّ والمتكلّم باستخدام الخيال للعاقلة وجعلتها أنفسهم الزّائغة وسائل لمآربها النّفسانيّة من الأعراض الدّنيويّة او الأغراض النّفسانيّة من الرّاحة عن كلفة الطّاعات الشّرعيّة فانّها ليست آياتٍ ولا محفوظة عن الرّيب والشّكّ والزّوال لكونها مأخوذة بالتّقليد من أمثالهم، والفريضة العادلة عبارة عن العلوم النّفسانيّة المتعلّقة بالرّذائل والخصائل بحيث يصير العالم بها متخلّياً عن الرّذائل متحلّياً بالخصائل لانّ اطلاق الفريضة على هذا العلم انّما هو باعتبار تلك التّخلية والتّحلية وكذا اطلاق العادلة فانّ معنى العلم العادل ان يكون العالم به عادلاً او معلومه متوسّطاً ولا يكون المعلوم من الاخلاق متوسّطاً الا اذا صار جزئيّاً موجوداً فى وجود العالم به، وهذا معنى استلزام العلم للعمل المستلزم لعلمٍ آخر اللاّزم للاقبال على الآخرة، والسنّة القائمة عبارة عن العلوم القالبيّة المأخوذة من النّبىّ (ص) او خليفته العامل صاحبها بها بحيث ينتصب عن اعوجاجه او يعتدل عن الافراط والتّفريط، او تكفى مهامّ صاحبها فى الدّنيا والآخرة لانّ السّنّة بحسب العرف واللّغة لها معان عديدة لكنّها فى عرف الشّارعين اسم للعلوم المتعلّقة بالاعمال الجسمانيّة بحيث تؤدّى صاحبها الى العمل لانّ تسمية العلوم بالسّنّة ليست الاّ باعتبار العمل، والقائمة امّا من قام بمعنى انتصب او اعتدل وبكلا المعنيين تكون وصفاً بحال المتعلّق اى سنّة قائم صاحبها، او من قام المرأة وعليها بمعنى مأمنها وكفى أمورها وبهذا المعنى يكون وصفاً بحال الموصوف فالعمل والاقبال الى الآخرة مأخوذان فى مفهوم الكلمتين. ومثل ما روى عن الصّادق (ع) فى أقسام طلبة العلم من قوله (ع) طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم؛ صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنفٌ يطلبه للفقه والعقل، فصاحب الجهل والمراء موذٍ ممارٍ متعرّض للمقال فى أندية الرّجال بتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع فدّق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه، وصاحب الاستطالة والختل ذو خِبّ وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للاغنياء من دونه فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطمٍ، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء اثره، وصاحب الفقه والعقل ذو كأبة وحزن وسهر قد تحنّك فى برنسه وقام اللّيل فى حندسه، يعمل ويخشى وجلاً داعياً مشفقاً مقبلاً على شأنه، عارفاً بأهل زمانه، مستوحشاً من أوثق اخوانه، فشدّ الله من هذا أركانه، وأعطاه الله يوم القيامة أمانه. وهذا الحديث يدلّ على ما ذكرنا من انّ اعتبار جهليّة الادراك وعلميّته انّما هو بشأن المدرك ونيّته لا بحال المدرك المعلوم وشرافته وخساسته فانّ المراد بالعلم فى قوله (ع): طلبة العلم؛ مطلق الادراك المطلق عليه العلم بمفهومه العرفىّ، وقوله (ع) صنف يطلبه للجهل يعنى يطلب العلم اى الادراك او المدرك للجهل يعنى يجعل غاية طلبه للعلم الجهل وهذا بظاهره متناقض وبيانه بحيث لا يتوهّم تناقض ان نقول: انّ الانسان له قوّة داركة ويعبّر عنها بالقوّة العّلامة والقوّة النظريّة، وقوّة عمليّة ويعبّر عنها بالقوّة العمّالة، والقوّة العمّالة تنشعب الى الشّهويّة الّتى تجذب المنافع والملاذّ والغضبيّة الّتى تدفع المضارّ والمولمات وهذه الثّلاث امّا مسخّرة للعاقلة وخادمة لها ولا يكون تسليمها للعاقلة الّتى هى رسول باطنىّ الاّ اذا صارت منقادة لولىّ أمره الّذى هو عقل خارجىّ او مسخّرة للشيطان وخادمة له فان كانت خادمة للعاقلة كان ادراك العّلامة علماً ومورثاً للعمل الاخروىّ وللعلم الآخر وكان عمل العمّالة للآخرة سواء كان شهوانياً او غضبيّاً، ومورثاً لعلم آخر غير العلم الّذى صار محرّكاً له على العمل، وان كانت مسخّرة للشيطان كان ادراكه مورثاً لازدياد جهله فانّ الجهل الحقيقىّ هو ملك الشّيطان وليس المراد به الجهل الّذى هو عدم لملكة العلم بل المراد به ازدياد الادراك الّذى يصير سبباً لسعة النّفس الّتى سعتها قبل التّسليم سعة ملك الشّيطان، وكثيراً ما يورث هذا الادراك ادراكاً آخر هو جهل آخر. وقول علىٍّ عليه السّلام فى حديث اقسام النّاس: انّ الناس آلوا بعد رسول الله (ص) الى ثلاثة؛ آلوا الى عالمٍ على هدىً من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره، وجاهلٍ مدّعٍ للعلم لا علم له معجبٍ بما عنده قد فتنته الدّنيا وفتن غيره، ومتعلّمٍ من عالمٍ على سبيل هدىً من الله ونجاة؛ (الى آخر الحديث) اشارة الى ما ذكرنا؛ فانّ المراد بالجاهل المدّعى للعلم المعجب بما عنده المفتن بالدّنيا؛ والمفتّن غيره ليس الجاهل السّاذج بل الّذى سمّاه أشباه النّاس عالماً واكتنز من قشر العلوم كنوزاً وجعلها لمآربه معدّة، ولا علم له بالمعنى الّذى ذكر مع انّه مليءٌ بالادراكات الجهليّة المورثة لازدياد ملك الشّيطان الّذى هو ملك الجهل، وكان عمله بتسخير الشّيطان جلباً لما اشتهته نفسه، ودفعاً لما لا يلائم نفسه من غير اعتبار للتّأدية الى الآخرة وهذا المسخّر للشّيطان بقوّته الداركة وحيلته الشّيطانيّة يريد مداماً ارائة مدّخراته للخلق فيتعرّض للمقال فى أندية الرّجال ويؤذى جليسه باعجابه بنفسه وإظهاره مزخرفاته ويمارى من يظنّه مثله او فوقه؛ ونعم ما قال المولوىّ قدّس سرّه:

علم تقليدى وتعليمى است آن كز نفور مستمع دارد فغان
جون بى دانش نه بهر روشنى است همجو طالب علم دنياى دنى است
طالب علم است بهر عام وخاص نى كه تايابد ازاين عالم خلاص
علم وكَفتارى كه آن بى جان بود عاشق روى خريداران بود
كَرجه باشدوقت بحث اين علم زفت جون خريدارش نباشد مردو رفت

وعلامة العلم ان يكون العالم طالباً للخلوة مع معلومه نافراً من هذه الجهة من أوثق اخوانه فكيف بغيرهم، وان كان من جهة الحبّ فى الله طالباً للسّلاّك الى الله بل لتمام خلق الله قائلاً:

مشترىّ من خداى است و مرا ميكشد بالا كه الله اشترى
خونبهاى من جمال ذو الجلال خونبهاى خود خورم كسب حلال

وبقوّته السّبعيّة يريد الاستطالة على من يمكن له الاستطالة عليه فيستطيل على أمثاله الّذين لا يظن حصول ملائمات قوّته البهيميّة منهم ويتملّق لمن يظنّ حصول ملائماتها منه سواء كانوا أدنى منه فى الشّرف او أمثاله او أشرف منه، فمعنى الحديث صنفٌ من طلبة العلم يطلبه لازدياد مدركاته الحاصلة باستمداد الشّيطنة الموجب لازدياد جهله؛ وصفة هذا الصّنف ما ذكره (ع)، وصنفٌ يطلبه لتقوية قوّته الغضبيّة الظّاهرة بالاستطالة على الخلق ولتقوية قوّته البهيميّة الظّاهرة بالختل مع الخلق والتملّق، وصنفٌ يطلبه للفقه وازدياد العلم الاخروىّ واشتداده، والعقل يعنى كمال الادراك الّذى هو التعقّل مقابل نقصان الادراك الّذى هو الشّيطنة والجهل. وروى عن امير المؤمنين (ع) فى عبّاد العامّة وجهّالهم الّذين سمّاهم أشباه النّاس عالمين انّه قال: انّ من أبغض الخلق الى الله تعالى لرجلين، رجل وكله الله تعالى الى نفسه وهو جائر عن قصد السّبيل مشعوف بكلام بدعة قد لهج بالصّوم والصّلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضالّ عن هدى من كان قبله، مضلّ لمن اقتدى به فى حياته وبعد موته، حمّال خطايا غيره، رهنٌ بخطيئته، ورجل قمش جهلاً فى جهّال النّاس عانٍ بأغباش الفتنة قد سمّاه أشباه النّاس عالماً ولم يغن فيه يوماً سالماً، بكّر فاستكثر ما قلّ منه خير ممّا كثر حتّى اذا ارتوى من ماءٍ آجن واكتنز من غير طائل جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، وان خالف قاضياً سبقه لم يأمن ان ينقض حكمه من يأتى بعده لفعله بمن كان قبله، وان نزلت به احدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشّبهات فى مثل غزل العنكبوت لا يدرى أصاب ام أخطأ، لا يحسب العلم فى شيءٍ ممّا أنكر، ولا يرى انّ وراء ما بلغ فيه مذهباً، ان قاس شيئاً بشيءٍ لم يكذّب نظره وان اظلم عليه امر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم، ثمّ جسر فقضى فهو مفتاح عشوات ركّاب شبهات خبّاط جهالات، لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم، ولا يعضّ فى العلم بضرسٍ قاطع فيغنم، يذرى الرّوايات ذرو الرّيح الهشيم، تبكى منه المواريث وتصرخ منه الدّماء، يستحلّ بقضائه الفرج الحرام، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال، لا مليءٌ باصدار ما عليه ورد، ولا هو أهلٌ لما منه فرط من ادّعائه علم الحقّ. والاوّل من الرّجلين اشارة الى من لم يدخل فى باب الهدى ولم يأخذ علمه من أهله الّذين أمر الله العباد بالأخذ منهم، فصار حريصاً على الصّوم والصّلاة فافتتن النّاس بهم من حيث انّهم رأوهم متعبّدين فظنّوا أنّهم من خواصّ أهل الله فاقتدوا بهم، والثّانى اشارة الى علمائهم الّذين لم يدخلوا فى باب الولاية ولم يأخذوا علمهم من أهله بل جمعوه من الصّحف وأخذوه من الرّجال فهم جمعوا سواقط خيالات النّاس ولذا استعمل فيه القمش الّذى هو جمع القماش الّتى هى ما سقط على وجه الارض، وسمّى سواقط خيالات النّاس ممّا سمّوه مسائل علميّة بالجهل فقال: قمش جهلاً فى جهّال النّاس اى جمع ما سمّوه علماً فى بين علماء النّاس الّذين سمّاهم أشباه النّاس علما، فمعنى الآية على ما عرفت من معنى العلم وإطلاقاته، { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } اى أدركوا ادراكاً يسمّى فى عرف أهل الله بالجهل { لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } حقيقتة لامتنعوا.