التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ أُولَـٰئِكَ } العظام { لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } يعنى من جملة ما كسبوا ومنها سؤالهم حسنة الدّنيا والآخرة يعنى لا يضاع عمل عامل منهم، والمعنى لهم نصيب ناشئٍ ممّا كسبوا او نصيب هو بعض ممّا كسبوا وهذا المعنى يشعر بصحّة تجسّم الاعمال كما عليه اهل المذهب وهو حقّ مثبت بالاخبار الكثيرة ويشعر به الآيات ويحكم به العقل، فانّ التّحقيق؛ انّ العلم ليس بصورة عرضيّة هى كيف للنّفس كما عليه المشّاؤن، ولا باضافة بين العالم والمعلوم كما قيل، ولا بمحض مشاهدة ربّ النوّع او صورة المعلوم فى عالم المثال، بل هو شأن من النّفس به يحصل سعتها والنّفس وشؤونها من عالم المتقدّرات والاجسام النّوريّة باعتبار مركبها المثالىّ وكلّ عمل يعمله الانسان لا بدّ ان يتصوّره فى مقامه المجرّد اجمالاً ويُصَدِّق بالغاية النّافعة المترتّبة عليه ثمّ ينزله من مقامه العالى الى مقامه الخيالىّ فيتصوّره بنحو التّفصيل والجزئيّة ويصدّق فى ذلك المقام بغايته ثمّ يحدث له ميل اليه ثمّ عزم ثمّ اراده فتهيج الارادة القوّة الشّوقيّة وهى تبعث القوّة المحركة وهى تحرّك الاعصاب ثمّ الاوتار ثمّ العضلات ثمّ الاعضاء ثمّ يتدرّج العمل فى الوجود ثمّ يعود متدرّجاً كما يحدث متدرّجاً من طريق الباصرة او السّامعة الى الحسّ المشترك ثمّ الى الخيال والواهمة ثمّ الى العاقلة فيعود الى ما منه بدأ، فكلّ عملٍ يحصل صورته فى المقامات العلميّة للانسان نزولاً وصعوداً وقد عرفت انّ بعض مقاماته العلميّة غير خارج عن التقدّر والتّجسّم فالعمل يتصوّر فى مقام تجسّم النّفس فيصحّ ان يقال انّ العمل تجسّم ولتجسّم الاعمال وجه آخر وهو انّ الله تعالى يوجد بعمل العبد من الاجسام الاخرويّة ما يشاء من الانهار والاشجار والاثمار والحور والقصور، بمعنى انّ الاعمال تكون مادّة هذه يعنى انّ الاعمال تتجسّم فى عالمه الصّغير وينشأ فى الكبير امثال صورها فى العالم الصّغير فانّ العالم الكبير كالمرآة للعالم الصّغير { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } عطف فيه دفع توهّم فانّه قد يتوهّم انّ اعمال العباد كثيرة متدرّجة لا يمكن ضبطها حتّى يجزى بها العباد فقال تعالى دفعاً لهذا الوهم انّ الله يحاسب على الجليل والحقير والقليل والكثير ولا يعزب عنه شيء لانّه سريع الحساب ومن سرعة حسابه انّه ينظر الى حساب الكلّ دفعة واحدة وكما انّ الكلّ منظور اليه دفعة واحدة كلّ الاعمال من صغيرها وكبيرها يقع فى نظره دفعةً واحدةً فلا يفوته حساب احدٍ ولا يعزب عنه شيء من عمل احدٍ، وانموذج محاسبة الله ومكافأته ومجازاته يكون مع العباد من اوّل التّكليف ولا يشذّ من اعمالهم حقير ولا جليل الاّ يظهر شيءٌ من مجازاته عليهم لو كانوا متنبّهين لا غافلين ولمعرفة هذا الامر أمروا العباد بالمحاسبة قبل محاسبة الله فانّ العبد اذا حاسب نفسه بان يكون مراقباً لها ومحاسباً لاعمالها يظهر عليه انّ كلّ فعل من الخير والشّرّ يستعقب فعلاً آخر او عرضاً من اعراض النّفس او خلقاً من اخلاقها، فحاسبوا عباد الله قبل ان تحاسبوا حتّى تعلموا انّ الله لا يدع شيئاً من اعمال العباد الاّ يجازي به ولا يشغله عمل عامل منكم عن عامل آخر، ولا يشذّ عنه حقير لحقارته.