التفاسير

< >
عرض

وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ
٢٥
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَبَشِّرِ } عطف على الجملة السّابقة باعتبار المعنى كأنّه قيل أنذر الّذين أنكروا القرآن بعد وضوح حجيّته بالنّار وبشّر { ٱلَّذِين آمَنُواْ } اى أقرّوا بالقرآن وأذعنوا به او آمنوا بالله بالايمان العامّ او بالايمان الخاصّ المستلزم كلّ واحدٍ منهما الاقرار بحقّيّة القرآن او عطف على قوله: { اتّقوا النّار }؛ فانّ وضوح حقّيّته كما يستلزم تهديد منكره يستلزم تبشير مقرّه كأنّه قال فان لم تفعلوا فاتّقوا النّار { وبشّر الّذين آمنوا }، والخطاب خاصّ بمحمدٍ (ص) او عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } ان كان المراد بالايمان الايمان العامّ فالمقصود من العمل الصّالح الايمان الخاصّ الّذى يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة، وان كان المراد بالايمان الايمان الخاصّ فالمراد بالعمل الصّالح الاتيان بما أخذ عليه فى ميثاقه والوفاء بعهده { أَنَّ لَهُمْ } بأنّ لهم { جَنَّاتٍ } جمع الجنّة وهى البستان { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } من تحت أشجارها، او من تحت عماراتها، او من تحت قطعها، والانهار جمع النّهر والنّهر فوق الجدول ودون البحر { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } الجملة صفة بعد صفة او حال عن الضّمير المجرور باللاّم او عن الجنّات او مستأنفة لبيان حالهم وحال ما فى الجنّات، والرّزق اسم مصدر بمعنى المرزوق وهو أعمّ ممّا يستكمل به البدن من الرّزق النّباتىّ الّذى يدخل من طريق الفم الى المعدة، ومنها الى الكبد، ومنه الى الاوردة، ومنها الى الاعضاء، والرّزق النّباتىّ الحقيقىّ هو الّذى يدخل فى خلل الاعضاء بدلاً عمّا يتحلّل منها وباقى المراتب السّابقة قوالب لهذا الرّزق كما انّ البساتين محالّ للاثمار، ومن الرّزق الحيوانىّ الّذى يدخل من طريق المدارك الحيوانيّة الى القلب او من طريق المحرّكة اليه فانّ اعضاء السّبعية والحيوانية مقتضياتها تؤثّر فى القلب اعنى الخيال، وكلّما يؤثّر فى القلب من الملذّات والمؤلمات كما يؤثّر فى الرّوح يؤثّر فى البدن، وممّا يستكمل به الرّوح من الرّزق الحيوانىّ ومن الرّزق الانسانىّ الّذى هو العلم الباعث على العمل، والعمل المورث للعلم، وقوله تعالى: { منها }؛ ظرف لغو متعلّق برزقوا، ولفظ من ابتدائيّة فانّ فى رزقوا معنى الاخذ وهو يقتضى الوصول الى المفعول بمن، ومن ثمرة بدل منه بدل الاشتمال وهذا اولى ممّا قاله الزمخشرىّ والبيضاوىّ فى اعرابهما من جعلهما حالين متداخلين من رزقاً، ولفظ ثمرة لكونه بعد كلّما يقتضى العموم البدلىّ، ورزق الجنّة ليس كالرّزق النّباتىّ لعدم الحاجة هناك الى بدل ما يتحلّل ولعدم اشتماله على الثفل المحتاج الى الدفع { قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } اى فى الدّنيا.
اعلم انّ كل ما فى الدّنيا من السّماويّات والارضيّات صور وأظلال لما فى الآخرة، وما فى الآخرة حقائق لما فى الدّنيا فالعناصر ومواليدها والافلاك وكواكبها حقائقها فى الجنّة وليس فى الجنّة شيئٌ الاّ وظلّها فى هذا العالم، ولمّا كان شيئيّة الشيئ وشخصيّة الشّخص بحقيقته لا بصورته وظلّه فكلّما رأى المؤمنون فى الجنّة علموا أنّه الّذى رأوه فى الدّنيا لكنّه فى الدّنيا مشوب بنقائص الموادّ وأعدامها وظلماتها وفى الآخرة مصفّىً عن ذلك فكلّما رأوه من الاثمار قالوا: هذا الّذى رزقنا من قبل فى الدّنيا، ويحتمل ان يكون الكلام على الاستفهام الانكارىّ التعجّبىّ يعنى بعد ما رأوا الرّمّانة الاخرويّة مثلاً، متفاوتة مع الرّمّانة الدّنيويّة تفاوتاً عظيماً فى الشّكل واللّون والطّعم ورأوا أنّها هى الرّمّانة الّتى رأوها فى الدّنيا تعجّبوا واستغربوا ذلك التّفاوت العظيم وأظهروا كونها من جنس الرّمّانة الّتى كانت فى الدّنيا فى معرض الانكار، ويحتمل ان يكون المراد من قبل هذه المرّة فى الجنّة فانّ ثمار الجنّة متشابهة فى الصّفاء عن الكدورات والاثفال وفى غاية اللّطافة واللّذّة وطيب الرائحة وعدم ثقل الجسد بأكلها ومتوافقة غير مختلفة فى كون بعضها نيّاً وبعضها نضيجاً وبعضها متجاوزاً حدّ النضج وبعضها معيباً كما انّ ثمار الدّنيا كذلك وبهذا التّشابه والتّوافق يصحّ حمل: الّذى رزقنا من قبل؛ على هذا بحمل هو هو مثل زيدٌ أسدٌ { وَأُتُواْ بِهِ } بجنس الرّزق او بجنس ثمر الجنّة { مُتَشَابِهاً } بعض افراده مع بعضٍ وقد مضى وجه التّشابه { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } جمع الزّوج يستوى فيه الذّكر والانثى والجمعيّة بالنّسبة الى المجموع او بالنّسبة الى كلّ فردٍ { مُّطَهَّرَةٌ } من المادّة ونقائصها ممّا يستقذر من النّساء من الاخبثين والدّماء وممّا يذمّمن عليه من الرّذائل { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ذكر تعالى من النّعم أصولها فى الانظار الحسّيّة وهى المساكن والمطاعم والمناكح وكمالها وهو دوامها فان النّعمة وان كانت جليلة لكنّها مع خوف الزّوال منغّصة.