التفاسير

< >
عرض

لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } استئناف منقطعٌ عن سابقه والدّين الجزاء والاسلام والعادة والعبادة والطّاعة والغلبة والسّلطان والملك والحكم والسّيرة والتّوحيد واسم لجميع ما يتعبّد الله به والملّة والعزّة والذّلّة والمراد به هاهنا الاسلام الحقيقىّ الّذى هو الطّريق الى الايمان الّذى هو طريق الآخرة، او المراد الايمان الحقيقىّ الّذى هو البيعة الخاصّة الولاية الّتى يعبّر عنها بالولاية، او المراد السّلوك الى الآخرة بالايمان، ولذلك نفى الاكراه عنه والاّ فالدّين بمعنى مطلق الاسلام او العبادة او الطّاعة او السّيرة او الملّة كثيراً ما كان يحصل بالسّيف كما قال (ص): "انا نبىّ السّيف" ، وامّا الاسلام الحقيقىّ والايمان الحقيقىّ والسّلوك الى الآخرة فلا يمكن الاكراه فيها لأنّها امر معنوىّ لا يتصوّر الاكراه الجسمانىّ فيها، او نقول: ليس الدّين الاّ الولاية الّتى هى البيعة الخاصّة الولاية وقبول الدّعوة الباطنة، وما سواها يسمّى بالدّين لكونه مقدّمة لها، او مسبّباً عنها، او مشاكلاً لها، ولا اكراه فى الولاية، او المعنى لا اكراه فى الدّين بعد تماميّة الحجّة بقبول الرّسالة وتنصيص الرّسول (ص) على صاحب الدّين { قَد تَّبَيَّنَ } اى تميّز { ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } استئناف فى مقام التّعليل او حال والمعنى لا يكره أحد فى الدّين بالنّفى او لا يكره بالنّهى على ان يكون الاخبار فى معنى النّهى لتميّز الرّشد او حالة تميّز الرّشد من الغىّ وفى الاخبار اشارات الى انّ المراد لا اكراه فى ولاية علىٍّ (ع) { فَمَنْ يَكْفُرْ } عطف على سابقه والفاء للتّرتيب فى الاخبار اى فنقول: من يكفر او جزاء لشرطٍ مقدّر والتّقدير اذا تبيّن الرّشد فمن يكفر { بِٱلطَّاغُوتِ } فقد توسّل بالرّشد المعلوم له فلا يزول ولا ينفصم توسّله لعلمه التّحقيقىّ الّذى لا زوال له، والطّاغوت فى الاصل طغيوت من الطّغيان فقلب فصار فلعوت والتّاء زائدة لغير التّأنيث فيه وفى نظائره ولذا تكتب بالتّاء وتثبت فى الجمع فيقال طواغيت وطواغت وقد تكتب بالهاء مثل جبروة وطاغوة وتسقط من الجمع مثل طواغٍ وحينئذٍ تكون للتّأنيث ويجرى على الفاظها احكام التّأنيث وهذه الهيئة للمبالغة فى معنى المصدر سواء جعلت مصدراً مثل رحموت ورهبوت ورغبوت وجبروت او اسم مصدر، وسواء استعملت فى معنى الحدث او فى معنى الوصف مثل الطّاغوت، وفسّر الطّاغوت بالشّيطان والكاهن والسّاحر والمارد من الجنّ والانس والصّنم وكلّ ما عبد من دون الله تعالى والحقّ انّ الطّاغوت يشمل النّفس الامّارة الانسانيّة وكلّما يتبعه تلك النّفس من الشّيطان والاصنام والجنّة والكهنة والسّحرة ورؤساء الضّلالة جميعاً والآية فى شأن ولاية علىٍّ (ع) والمقصود من قوله تعالى { وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ } الايمان الخاصّ الّذى لا يحصل الاّ بالبيعة على يد علىٍّ (ع) فانّ الايمان العامّ الّذى يحصل بالبيعة العامّة النّبويّة لا يدخل به شيءٌ فى القلب فلا يتوسّل بشيءٍ حتّى يصحّ ان يترتّب عليه قوله تعالى { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } جملة حاليّة او جواب لسؤالٍ مقدّرٍ.
تحقيق الاستمساك بالعروة الوثقى وبيان العروة الوثقى
اعلم انّ امر الولاية الّتى هى عبارة عن البيعة الخاصّة الولاية والاتّصال بولىّ الامر بعقد اليمين اجلّ وارفع من ان يوصف لانّ صورتها وان كانت من الاعمال الجسمانيّة المحسوسة لكنّ الاتّصال الرّوحانىّ الحاصل بها امر غيبىّ لا يدرك بالابصار ولا يتوهّم بالامثال ولا يتعقّل بالعقول لأنّه لا حدّ له ولا رسم ولا كيف له ولا كمّ بل هو كما قال المولوىّ قدّس سرّه:

اتّصالى بى تكيّف بى قياس هست رب النّاس رابا جان ناس

وللاشارة الى انّ هذا الاتّصال ليس الاّ لمن قبل الولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة قال المولوى:

ليك كَفتم ناس من نسناس نى ناس غير جان جان اشناس نى

فلا بدّ من التّمثيل والتّشبيه اذا اريد التّنبيه عليه فنقول: انّ الانسان يزداد فى جوهر ذاته من اوّل تولّده وليس استكماله بمحض الازدياد فى كيفيّاته كما قيل وكلّما ازداد فى ذاته وحصل له فعليّة من فعليّات طريقه المؤدّى الى فعليّات انسانيّته صار اسم الانسانيّة واسم شخصه اسماً لتلك الفعليّة وصارت الفعليّات السّابقة فانية ومغلوبة لتلك الفعليّة فاذا بلغ الى مقام عقله الّذى هو مناط التّكليف والتّدبير صار قابلاً لتصرّف الشّيطان وتصرّف الملك والرّحمن ولا ينعقد قلبه على شيءٍ منهما بمعنى انّه لا يتمكّن الشّيطان من التّصرف فيه ولا الملك ما لم يرد الولاية فتنعقد فعليّاته بتصرّف الشّيطان او لم يقبلها فتنعقد فعليّاته بولىّ امره فهو حينئذٍ كالنّخلة الّتى لا تثمر الاّ بالتّأبير وكشجرة الفستق الّذى لا يصير فستقه ذا لبّ الاّ بالتلقيح، او كاللّبن الّذى لا ينعقد الاّ بالانفحة فاذا انعقد قلبه على الولاية صار كلّ فعل وفعليّة له منعقداً بالولاية وجميع فعليّاته مغلوباً ومحكوماً بحكم فعليّة الولاية وصار اسم الانسانيّة واسم شخصه اسماً لفعليّة الولاية وفعليّة الولاية كما سبق تحقيقها عند قوله: { { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء: 23]؛ نازلة ولىّ الامر، وبتلك النّازلة يتحقّق نسبة الابوّة والبنوّة بين التّابع والمتبوع، ونسبة الاخوّة بين الاتباع، وبهذه النّسبة قال عيسى (ع): انا ابن الله، وقال: كلّ من حصل له تعميد التّوبة على يدى او ايدى خلفائى فهو ابن الله، ولذلك قالت النّصارى: نحن ابناء الله ولولا تنزّل ولىّ الامر فى وجود المولّى عليه لم يتحقّق شيءٌ لتصحيح تلك النّسبة وقد اشار المولوىّ الى حصول تلك وتصحيحها بقوله:

هست اشارات محمّد المراد كل كَشاد اندر كضشاد اندر كَشاد
صد هزاران آفرين برجان او بر قدوم و دور فرزندان او
آن خليفه زاد كَان مقبلش زاده اند از عنصر جان ودلش
كَرز بغداد وهرى يا از ريند بى مزاج آب وكَل نسل ويند
عيب جويان را ازاين دم كوردار هم بستّارى خود اى كرد كَار

ولكون الفعليّات والافعال بدون الولاية قشوراً خالية من الالباب ورد لو انّ عبداً عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفاً قائماً ليله صائماً نهاره ولم يكن له ولاية ولىّ امره او ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) لأكبّه الله على منخريه فى النّار وغير ذلك من الاخبار المفيدة لهذا المضمون، ولكون تلك الولاية عبارة عن الاعمال البدنيّة جعلت قرين الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّوم فى الاخبار الدّالّة على انّ الاسلام بنى على خمس، ولكونها اصل الكلّ واصل جميع الخيرات كما عرفت ورد فى بعض الاخبار انّها افضل وانّها مفتاحهنّ والوالى هو الدّليل عليهنّ، وفى بعضها: لم يناد بشيءٍ ما نودى بالولاية؛ فاخذ النّاس بأربعٍ وتركوا هذه يعنى الولاية، وفى بعضها: "من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة الجاهليّة" ، وأحوج ما يكون الى معرفته اذا بلغت نفسه هاهنا؛ وأهوى بيده الى صدره، وفى بعضها: انّ الله فرض على خلقه خمساً فرخّص فى اربعٍ ولم يرخّص فى واحدة، وفى بعضها: حبّ علىٍّ حسنةٌ لا يضرّ معها سيّئةٌ، وفى بعضها: اذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره، وغير ذلك من الاخبار الدّالّة على فضائل الولاية، ونقل عن ابن أبى يعفور فى بيان آخر الآية انّه قال: قلت لأبى - عبد الله (ع) انّى اخالط النّاس فيكثر عجبى من اقوامٍ لا يتولّونكم ويتولّون فلاناً وفلاناً لهم امانة وصدق ووفاء، واقوام يتولّونكم ليست لهم تلك الامانة ولا الوفاء ولا الصّدق قال: فاستوى ابو عبد الله جالساً فأقبل علىّ كالغضبان ثمّ قال: لا دين لمن دان الله بولاية امام جائرٍ ليس من الله، ولا عتب على من دان الله بولاية امام عادل من الله، قلت: لا دين لاولئك ولا عتب على هؤلاء؟ - قال: نعم، ثمّ قال (ع): الا تسمع لقول الله: عزّ وجلّ { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْيُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } يعنى من ظلمات الذّنوب الى نور التّوبة والمغفرة لولايتهم كلّ امام عادل من الله عزّ وجلّ وقال { { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [البقرة: 257] انّما عنى بهذا انّهم كانوا على نور الاسلام فلمّا ان تولّوا كلّ امام جائرٍ ليس من الله خرجوا بولايتهم من نور الاسلام الى ظلمات الكفر فأوجب لهم النّار مع الكفّار وفى خبر: فأعداء علىٍّ (ع) امير المؤمنين هم الخالدون فى النّار وان كانوا فى اديانهم على غاية الورع والزّهد والعبادة، والحاصل انّ ولىّ علىٍّ لا يأكل الاّ الحلال وعدوّ علىٍّ (ع) لا يأكل الاّ الحرام، ومن لم يكن ذا ولاية وعداوة لا يحكم عليه بحلّيّة ولا حرمة؛ وكان مرجىٍ لأمر الله، وقوله تعالى: { { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } [المائدة:1] بتعليق احلال البهيمة على الوفاء بالعقود اشارة الى البيعة مع علىّ بالخلافة فى غدير خمّ وجمع العقود لانّهم عقدوا البيعة فى ذلك اليوم فى ثلاثة مواطن وورد فى عشرة مواطن للتّأكيد المطلوب فى هذا الامر وقوله تعالى: { { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } [المائدة:3]، { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة:3]، { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة:5] بتعليق يأس الكفّار واكمال الدّين واتمام النّعمة والرّضا بالاسلام ديناً واحلال الطّيّبات والمحصنات من النّساء على يوم البيعة مع علىّ (ع) فى غدير خمّ يدلّ على ان لا حليّة لشيءٍ بدون الولاية، وقد مرّ مراراً انّه كلّما ذكر عهد وعقد وميثاق ويمين فالنّظر اوّلاً الى عقد البيعة وخصوصاً البيعة الخاصّة الولاية، وكلّما ذكر نقض عقد وعهد وميثاق فالمقصود عقد البيعة ولا سيّما الولاية؛ والحاصل انّ الانسان بمنزلة المادّة للولاية، والولاية صورته وفعليّته فما لم ينعقد بالولاية لم يكن له فعليّة الانسانيّة، واذا انعقد بالولاية حصل له الانسانيّة وتمّ له الفعليّة فكأنّه قبل الولاية لم ينفخ فيه روح الحياة وكان ميتاً (افمن كان ميتاً فأحييناه) يعنى بالولاية اشارة الى ما ذكر، وقوله (ع): النّاس موتى واهل العلم أحياء؛ اشارة اليه فانّ اهليّة العلم منحصرة بهم وبشيعتهم كما قالوا: شيعتنا العلماء بطريق الحصر فكلّ نعمةٍ وخيرٍ وصلاحٍ نعمة وخير وصلاح بالولاية، والاّ كان نقمة وشرّاً وفساداً كائناً ما كان، وبالولاية احياء النّسل والحرث واصلاح الارض وعمارتها، وبردّها اهلاك النّسل والحرث وافساد الارض وخرابها، وهى ذروة الامر وسنامه ومفتاح الاشياء وباب الابواب ورضى الرّحمن وجنّة الرضوان واصل الخيرات واساس الحسنات، وهى الحكمة الّتى من اوتيها فقد اوتى خيراً كثيراً، وهى رحمة الله وبها يكون فضل الله وقوام النّبوّة والرّسالة، ومن عرف من امّة محمّد (ص) واجب حقّ ولايته وجد طعم حلاوة ايمانه وعلم فضل طلاوة اسلامه، بها دين العباد وبنورها استهلال البلاد، وببركتها نموّ التلاد، وهى حياة الانام، ومصباح الظلام، ومفتاح الكلام، ودعامة الاسلام، وبالجملة الانسان غاية خلق العالم والولاية غاية خلق الانسان { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } جملة حاليّة للتّرغيب فى الايمان بالله كأنّه قال: فقد استمسك بالعروة الوثقى مع انّ الله الّذى آمن به سميعٌ لاقواله { عَلِيمٌ } بافعاله فيجزيه بها.