التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ
٢٦
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْيى } الحياء قوّة رادعة عن اظهار القبيح ومخجلة حين ظهوره وقد يطلق على اثرها الظّاهر منها على الاعضاء كسائر السّجايا، والاستحياء للمبالغة لا للطلب او للطلب باعتبار انّ المستحيى كأنّه يطلب الحياء من نفسه، ونسبة الحياء والاستحياء الى الله تعالى ليس بمعنى نسبته الى الخلق كسائر ما يقتضى انفعالاً وتغييراً حين نسبتها الى الخلق وطرفا تفريطه وافراطه الخجل عن ظهور الفعل وعدم الاقتدار على الفعل حين اطّلاع الخلق عليه مطلقاً حسناً كان الفعل او قبيحاً وعدم المبالاة بظهور الفعل حسناً كان او قبيحاً { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا } ان يقرع الاسماع بمثل والمثل امر ظاهر يشبهه امر خفىّ يذكر لبيان حال ذلك الامر الخفىّ، وضربه عبارة عن اجرائه وذكره، ولفظة { ما } وصفيّة ابهاميّة { بَعُوضَةً } وقرئ بعوضةٌ بالرّفع وعليها فلفظة ما يحتمل كونها موصولة وموصوفة بحذف صدر الصّلة وصدر الصّفة واستفهامية { فَمَا فَوْقَهَا } فى الحقارة او فى الجثّة والكُبر وهذا ردّ لانكارهم عليه تعالى التّمثيل بالذّباب والعنكبوت وغير ذلك لانّ الجّهال يستنكفون من التّوجّه الى امثال تلك الحقار والله لا يستنكف من التّمثيل بها فانّ الحقير من هذه حقير فى أنظار الجهّال لا فى أنظار العقلاء فانّ ذوات النّفوس الحيوانيّة وان كانت اصغر ما يكون خصوصاً ما تمّ له المدارك الحيوانيّة، فيها من دقائق الحكم ولطائف الصّنع ما لا يحصيها الاّ الله فانّ البعوضة من أدرك من دقائق الحكم ولطائف الصنع الّتى اودعها الله فيها عشراً من أعشارها لا يستنكف من التّمثيل بها ولا يستغرب تمثيل الفيل بها، وعن الصّادق (ع) انّما ضرب الله المثل بالبعوضة لانّها على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق الله فى الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله ان ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه، واشار (ع) بقوله: وزيادة عضوين آخرين؛ الى جناحيها ورجليها الزائدتين على الفيل فانّ للفيّل اربع أرجلٍ ولها ستّ أرجل، ولمّا جعلوا انكارهم التّمثيل بالامثال المذكورة فى الكتاب مشعراً بانكار كونها من الله ودليلاً عليه قال تعالى:
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالايمان العامّ او الخاصّ وأقرّوا برسالة الرّسول ونزول الوحى وتنزيل الكتاب { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ } اى المثل المضروب { ٱلْحَقُّ } يعنى يعلمون انّ المثل حقّ لا باطل يعنى منزّل من الله لا مختلق من النّفس ولذا أتى بقوله { مِن رَّبِّهِمْ } للبيان خبراً بعد خبر او حالاً او ظرفاً لغواً متعلّقاً بالحقّ { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } الاستفهام ونسبة الارادة الى الله تعالى للاستهزاء والتّهكّم وكان المناسب للقرين السّابق ان يقول وامّا الّذين كفروا فلا يعلمون انّه الحقّ لكنّه عدل الى هذا لافادة هذا المعنى مع شيئ زائد وهو التّهكّم والاستهزاء { بِهَـٰذَا مَثَلاً } تميز من هذا او حال منه او حال من محذوف اى نذكر هذا حال كونه مثلاً والاّ فالمقصود ماذا اراد بجملة الامثال وجملة القرآن { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } جمعاً كثيراً او اضلالاً كثيراً جواب من الله لاستفهامهم تعليماً لنبيّه (ص) ان يجيبهم بمثله او مقول قولهم حالاً او مستأنفاً وحينئذٍ فقوله تعالى { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } امّا من قولهم او من قول الله كأنّهم قالوا: ماذا أراد الله بهذا حال كونه يضلّ به كثيراً من النّاس وان كان يهدى به كثيراً، او قال الله عطفاً على قولهم للرّدّ عليهم ويهدى به كثيراً { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } يعنى فيه هداية اناسّى كثيرين وليس اضلاله الاّ لمن لا رجاء خير فيه فخيره كثير وضرّه لا يعبأ به.