التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥
-البقرة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

فقوله تعالى { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } يحتمل وجوهاً عديدة من الاعراب فنقول فى بيانها { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } امّا صفة للمتّقين او بدل او عطف بيان او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف فهذه خمسة { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } جملة فعلية معطوفة على الصّلة او جملة اسميّة معطوفة على الصّلة او مستأنفة او حاليّة فهذه اربعة مضروبة فى الخمسة { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } عطف على المتّقين او على الّذين يؤمنون بالغيب وما فى "ما انزل اليك" موصولة اسميّة او موصوفة او مصدريّة وما انزل من قبلك بثلاثة اوجه فى لفظ ما معطوفة على ما انزل اليك او ما انزل من قبلك جملة حاليّة او مستأنفة ولفظ "ما" نافية او استفهاميّة فهذه احد وعشرون مضروبة فى الاربعين و "بالاخرة" عطف على ما انزل اليك وجملة { هم يوقنون } حال او مستأنفة او بالاخرة متعلّق بيوقنون والجملة حال او مستأنفة او معطوفة على الصّلة فهذه خمسة مضروبة فى الثمانمائة والاربعين الحاصلة من ضرب الاحد والعشرين فى الاربعين والحاصل من الضّرب اربعة آلاف ومائان 4200 وعليها فاولئك الاولى بدل او عطف بيان للّذين الاوّل او الثّانى و { على هدىً من ربّهم } حال مفرداً او جملة مستأنفة بتقدير مبتدء { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف على { أُوْلَـٰئِكَ } الاولى و{ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } جملة حاليّة او مستأنفة او { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } جملة معطوفة على على { هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } او حاليّة او مستأنفة وهم ضمير الفصل او مبتدء فهذه اربعة وستّون مضروبة فى الاربعة الالاف والمأتين والحاصل من الضرب مأتان وثمانية وستّون الفاً وثمانمائة 268800، او على الاربعة الالاف والمئتين { أُوْلَـٰئِكَ } الاولى مبتدء والجملة حال او مستأنفة وعلى هدىً خبره { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف عليها عطف المفرد وهم المفلحون جملة حاليّة او مستأنفة او اولئك هم المفلحون جملة معطوفة على جملة اولئك على هدىً او حال او مستأنفة والضّمير للفصل او مبتدئان فهذه ستّة عشر مضروبة فى الاربعة الالاف والمئتين والحاصل من الضّرب سبعة وستّون الفاً ومائتان 67200 او على الاربعة الالاف والمئتين اولئك الاولى مبتدأ والجملة حال او مستأنفة وعلى هدى من ربّهم حال { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف عليه وهم المفلحون خبره والضّمير للفصل او مبتدأ ثانٍ فهذه اربعة مضروبة فى السّابق والحاصل ستّة عشر الفاً وثمانمائةٍ 16800، او نقول الّذين يؤمنون بالغيب على الخمسة وممّا رزقناهم ينفقون على الاربعة والّذين الثّانى مبتدأ والجملة حال او مستأنفة وبما انزل اليك وما انزل من قبلك على الاحد والعشرين { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } على الخمسة فهذه ايضاً اربعة آلاف ومائتان 4200، وعليها فاولئك الاولى خبره وعلى هدىً خبر بعد خبر او حال او مستأنف بتقدير مبتدأ واولئك الثّانية عطف على الاولى عطف المفرد وهم المفلحون حال او مستأنفة او اولئك الثّانية مبتدأ والجملة معطوفة على جملة { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ } او على، { عَلَىٰ هُدًى } او حال او مستأنفة والضّمير على الوجهين فهذه ثلاثون وجهاً مضروبة والحاصل مائة وستّة وعشرون الفاً 126000 او على الاربعة الالاف والمأتين اولئك الاولى بدل او عطف بيان للّذين الثّانى و{ عَلَىٰ هُدًى } خبر الّذين الثّانى { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانى عطف على { أُوْلَـٰئِكَ } الاوّل او على { ٱلَّذِينَ } الثّانى وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثّانى مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره والجملة معطوفة على جملة الّذين يؤمنون بما انزل او على على هدىً او حال او مستأنفة فهذه اربعة وعشرون والحاصل من الضرب مائة الف وثمن مئة 100800، او على الاربعة الالاف والمئتين اولئك الاولى بدل او عطف بيان و{ على هدىً } حال او مستأنف { وَأُوْلَـٰئِكَ } الثّانية عطف عليها عطف المفرد وهم المفلحون خبر { ٱلَّذِينَ } الثّانى والضّمير بالوجهين فهذه ثمانية مضروبة والحاصل ثلاثة وثلاثون الفاً وستّمائة 33600، او على الاربعة الالاف والمئتين { أُوْلَـٰئِكَ } الاولى مبتدءٌ ثانٍ و{ عَلَىٰ هُدًى } خبره والجملة خبر الّذين الثّانى واولئك الثّانية عطف على الّذين الثّانى او على اولئك او على على هدى عطف المفرد وهم المفلحون بالوجهين او { اولئك هم المفلحون } بالوجهين فى الضّمير جملة معطوفة على جملة الّذين وخبره او على جملة { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } او على، على هدىً او حال او مستأنفة او اولئك الاولى مبتدأ ثانٍ وعلى هدىً بالوجهين واولئك الثّانية عطف على اولئك الاولى او على الّذين الثّانى وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبر اولئك الاولى والجملة خبر الّذين الثّانى فهذه اربعة وعشرون مضروبة والحاصل مائة الف وثمانمائة 100800، او نقول الّذين الاوّل مبتدء والجملة حال او مستأنفة { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } على الاربعة والّذين الثّانى عطف على الاوّل و{ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } على الاحد والعشرين { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } على الخمسة فهذه ثمانمائة واربعون 840 وعليها فاولئك الاولى خبره وعلى هدى على الثلاثة واولئك الثّانية عطف على المتّقين او على الّذين او على اولئك الاولى عطف المفرد وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثّانية مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره والجملة عطف على جملة الّذين وخبره او على { اولئك عَلَىٰ هُدًى } او على { عَلَىٰ هُدًى } او حال او مستأنفة فهذه ثمانية واربعون مضروبة فى الثمانمائة والاربعين والحاصل اربعون الفاً وثلاثمائة وعشرون 40320، او على الثمانمائة والاربعين اولئك الاولى بدل او عطف بيان وعلى هدىً خبر الّذين واولئك الثّانية عطف على الّذين او على اولئك او على، على هدىً وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثّانية مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره والجملة عطف على جملة الّذين وخبره او على { عَلَىٰ هُدًى } او حال او مستأنفة فهذه ثمانية وعشرون مضروبة والحاصل ثلاثة وعشرون الفاً وخمسمائة وعشرون 23520، او على الثمانمائة والاربعين اولئك الاولى بدل او عطف بيان وعلى هدىً حال او مستأنف او اولئك على هدىً مبتدأ وخبر وحال او مستأنف واولئك الثّانية عطف على الّذين او على اولئك الاولى وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبره فهذه اربعة وعشرون مضروبة والحاصل عشرون الفاً ومائة وستّون 20160، او نقول الّذين الاوّل مبتدأ والجملة حال او مستأنفة { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } على الاربعة والّذين الثّانى مبتدء والجملة حال او معترضة { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } على الاحد والعشرين { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } على الخمسة فهذه الف وستّمائة وثمانون 1680، وعليها فاولئك الاولى خبر المبتدأ الثّانى وعلى هدىً خبر الاوّل واولئك مفردا عطف على المبتدء الاوّل او الثّانى او الخبر الاوّل او الثّانى وهم المفلحون بالوجهين، او اولئك هم المفلحون بالوجهين فى الضّمير جملة معطوفة على الجملة الاولى او الثّانية او الخبر الاوّل او الثّانى او حال او مستأنفة فهذه ثلاثة وثلاثون الفاً وستّمائة 33600 او على الالف والسّتمائة والثّمانين اولئك الاولى بدل او عطف بيان للّذين الثّانى وعلى هدىً خبر الّذين الثّانى واولئك الثّانى عطف على الّذين الاوّل او الثّانى او على اولئك الاولى او على على هدىً وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبر الاوّل فهذه ستّة وعشرون الفاً وثمانمائة وثمانون 26880، او على الالف والسّتمائة والثّمانين اولئك مبتدأ ثانٍ وعلى هدىً خبره والجملة خبر الّذين الثّانى واولئك الثّانية عطف على الّذين الاوّل والثّانى او على جملة اولئك على هدىً او على على هدىً او على اولئك نفسه وهم المفلحون بالوجهين فى الضّمير خبر الّذين الاوّل فهذه ستّة عشر الفاً وثمانمائة 16800، واذا جمعت المجموعات الحاصلات حصل ثمانمائة وخمسة وسبعون الفاً ومائتان وثمانون 875280، ويجرى كلّ فى مجموع الوجوه المحتملة فى { الۤمۤ } الى قوله للمتّقين وهى ثلاثة عشر الف الف ومائة وعشرون الفاً وستّمائة وثمانية 13120608، واذا ضرب ذلك المجموع فى هذا المجموع يحصل احد عشر الف الف الف الف واربعمائة واربعة وثمانون الف الف الف ومئتان وخمسة آلاف الف وسبعمائة وسبعون الفاً ومئتان واربعون وهذه ارقامه، 11484205770240.
وهذه هى الوجوه الشّايعة الّتى لا شذوذ لها ولا ندور ولا غلق فيها، وامّا الوجوه الضّعيفة الّتى فيها امّا ضعف بحسب المعنى او غلق بحسب اللّفظ او يورث التباساً فى المعنى وقد رأيت بعض من تعرّض لوجوه الاعراب ذكر اكثرها وترك اكثر هذه الوجوه القويّة الشّائعة فهى ايضاً كثيرة تركناها وكذا تركنا الوجوه الّتى فيها شوب تكرارٍ مثل كون الاحوال مترادفة ومتداخلة وقد ذكرنا هذه الوجوه فى الآية الشّريفة مع التزامنا فى هذا التّفسير الاختصار وعدم التّعرض لتصريف الكلمات ووجوه الاعراب والقراءات تنبيهاً على سعة وجوه القرآن بحسب اللّفظ، الدّالة على سعة وجوهه بحسب المعنى الّتى تدلّ على سعة بطون القرآن وتأويله، وبعد ما عرفت انّ الانسان حين الانسلاخ من هذا البنيان يشاهد او يتحقّق بمراتب العالم الّتى هى بوجهٍ حقائق القرآن وبوجهٍ مراتب الانسان، ويظهر من تلك الحقائق بحكم اتّباع الدّانى للعالى واقتضائه من حظوظ العالى وافاضة العالى على الدّانى واجابته لاقتضاء الدّانى واستدعائه على بشريّته ومداركها اجمالا او تفصيلا صور مناسبة لتلك الحقائق وتلك المدارك وكلمات وحروف كذلك منقوشة على الواح او مسموعة مدركة بآلة السّمع او البصر الخياليّتين او الجسمانيّتين وانّ "الۤمۤ" وكذا سائر فواتح السّور اشارة الى تلك الحقائق ولا يمكن التعبير عمّا يشار بها اليه الاّ بالامثال، وما ورد فى تفسيرها ليس الاّ امثالاً مناسبة لتلك الحقائق موافقة لشاكلة المخاطب سهل عليك معرفة انّ:
تحقيق كون جميع الكتب المدوّنة حقّه وباطله صور الكتاب الحقيقىّ الّذى هو حقيقة القرآن
قوله تعالى { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } اشارة الى تلك الحقائق وانّ الاتيان باسم الاشارة البعيدة لعظمة تلك الحقائق وبعدها غاية البعد عن ادراك الابصار والبصائر وانّ الحصر المستفاد من تعريف المسند على تقدير كون ذلك الكتاب مبتدأ وخبراً انّما هو باعتبار انّ تلك الحقائق حقيقة الكتاب الّذى كتبه الرّحمن بالاقلام الالٰهيّة على الالواح السّماويّة او الأرضيّة العينيّة وانّ سائر الكتب المدوّنة الالٰهيّة او غير الالٰهيّة صور شؤن ذلك الكتاب ونازلته لكنّ الكتب الحقّة المدوّنة فى العلوم الشّائعة الشّرعيّة وغير الشّرعيّة وفى العلوم الغير الشّائعة من العلوم الغريبة بأنواعها صور شؤن تلك الحقائق الّتى تترائى فى المرآة المستقيمة الصّافية والكتب الغير الحقّة المدوّنة فى العلوم الباطلة الشيطانيّة بأنواعها وفنونها شؤنها المتراءاة فى المرايا المعوّجة الكدرة الّتى لا تترائى الصّور فيها الاّ بخلاف ما هى عليه وتفسير ذلك الكتاب بالقرآن كما ورد عن الامام (ع) انّه قال يعنى القرآن الّذى افتتح بـ "الۤمۤ" هو ذلك الكتاب الّذى أخبرت به موسى (ع) ومن بعده من الانبياء (ع) وهم أخبروا بنى اسرائيل انّى سأنزله عليك يا محمّد (ص) باعتبار انّ القرآن هو الكتاب الجامع لصور جميع شؤن تلك الحقائق، وهذا الخبر يدلّ على جعل ذلك الكتاب خبراً لـ "الۤمۤ" وقد سبق، او خبراً لمحذوف ولم نذكره فى الوجوه السّابقة؛ وتفسيره بمحمّد (ص) او علىّ (ع) باعتبار انّهما متحقّقان بتلك الحقائق، وتفسيره بالرّسالة او النبوّة او الولاية باعتبار ظهور تلك الحقائق بجميع شؤنها او ببعضها فيها وكذلك تفسيره بالصّدر والقلب والرّوح من حيث انتقاشها بصور تلك الحقائق، وما ورد من تفسيره بكتاب علىّ (ع) يمكن ان يراد به مكتوب كتبه علىٌّ (ع) بعلويّته فانّ جملة ما سوى الله مكتوب علويّة علىّ (ع)، وان يراد به كتاب نزل من الله على محمّد (ص) فى علىّ (ع) وخلافته، وان يراد كتاب هو علىّ (ع) على ان يكون الاضافة بيانيّة. وروى عن الصّادق (ع) انّ الكتاب علىٌّ (ع) لا شكّ فيه.
تحقيق الكتاب ومصاديقه
ولفظ الكتاب مصدر يطلق على ما من شأنه ان ينطبع بنفسه كالصّور المنطبعة فى الموادّ او بصورته كالالفاظ المنطبعة بصورها الكتبيّة فى شئ آخر وعلى الصّورة المنطبعة وعلى ما يرتسم فيه الصّور باعتبار ارتسام الصّور فيه فالالفاظ الموضوعة لارتسام صورها فى الصّحائف والصّور المكتوبة والصّحائف المرتسمة فيها الصّور تسمّى كتاباً، والصّور الطبيعيّة والموادّ المنطبعة فيها الصّور تسمّى ايضاً كتاباً، والنّفوس الحيوانيّة والنّفوس الانسانيّة والفلكيّة ومحالّها كتاب، والنّفوس المتعلّقة بالاجساد المثاليّة والاجساد المثاليّة كتاب، والصّور العلميّة الحاصلة فى النّفوس السّفليّة او العلويّة ونفس تلك النّفوس من حيث حصول العلوم فيها كتاب، والرّذائل والخصائل الحاصلة فى النّفوس؛ ونفس تلك النّفوس من حيث حصول الاخلاق فيها كتاب، والعلوم الفائضة على العقول والعقول كتاب، والاسماء الالٰهيّة ولوازمها الظّاهرة فى مقام الواحديّة والفيض المنبسط الّذى هو محلّ ظهور الاسماء والصّفات كتاب، والتعيّنات الامكانيّة والوجودات المتعيّنة بتلك التعيّنات كتاب، كما قيل بالفارسيّة:

بنزد آنكه جانش درتجلّى است همه عالم كتاب حق تعالى است

وقد كثر اطلاق الكتاب فى الآيات والاخبار على مراتب وجود العالم، وعلى بنى آدم، وعلى الصّدر المستنير بنور الرّسالة، وعلى أحكام الرّسالة، وعلى القلب المستنير بنور النّبوّة، وعلى احكام النّبوّة، وعلى الرّوح المستنير بنور الولاية، وعلى آثار الولاية.
تحقيق معنى الكلام
والكلام مصدر لم يستعمل فعله لانّ الكلام مجرّداً لم يستعمل فى معنى التكلّم بل استعمل من باب قتل وضرب بمعنى جرح والمستعمل بمعنى التكلّم كلّم من باب التّفعيل وتكلّم من باب التفعّل وكالم من المفاعلة وتكالم من التفاعل، وقيل هو اسم مصدر بمعنى التّكلّم لكنّه فى العرف العامّ صار اسماً للحاصل بالتّكلّم وفى عرف النحاة صار اسماً للمركّب المفيد من الكلمات.
الفرق بين الكتاب والكلام
والفرق بين الكتاب والكلام بالنّسبة الى ما صدر من المبادئ العالية اعتبارىّ محض فانّ الفيض المقدّس المسمّى بفعل الحقّ تعالى واضافته الاشراقيّة ونفس الرّحمن ومشيئة باعتبار ظهور الصّفات والاسماء ولوازم الاسماء به اذا لوحظ نسبته الى الحقّ الاوّل تعالى وقيامه به قيام الفعل بالفاعل كان كلاماً ومتكلّميّةً له تعالى، واذا لوحظ شيئيّته فى نفسه ومغايرته له تعالى وبينونته منه كان كتاباً له تعالى، وهكذا الحال فى العقول والنّفوس وعالم المثال وعالم الطّبع فانّها بالنّسبة اليه تعالى كلام وكتاب بتوسط المشيئة الّتى هى من الله كنفس الانسان من الانسان، ومن مراتب الممكنات كنفس الانسان من مخارج الحروف ولذا سميّت بنفس الرّحمن، وكلّ مرتبةٍ من مراتب الوجود بالنّسبة الى عاليها كلام وكتاب بالاعتبارين، والانسان بمراتبه العالية نظير المراتب العالية للعالم، وامّا بمقامه البشرىّ فنفسه المتكيّف بكيفيّة الحروف بتوسّط تقطيعه بمخارج الحروف بسبب عدم ظهور استقلاله ونفسيّته كلاميّته ظاهرة وكتابيّته خفيّة، ومكتوبه لظهور بينونته واستقلاله كتابيّته ظاهرة وكلاميّته خفيّة، ونظير هذين عالم الارواح وعالم الطّبع بالنّسبة الى الله تعالى لاختفاء البينونة هناك وظهورها هاهنا.
{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا لنفى الجنس او لنفى الفرد الشّائع على اختلاف القراءتين والرَّيب والرّيبة القلق والاضطراب فى النّفس عن الانقياد لامر معلومٍ او مظنونٍ او مشكوكٍ وتبادر معنى الشكّ واستعماله فيه لكونه فى الاغلب مع الشّكّ، ولانّه اذا كان مع العلم والظّنّ يستعقب الشّكّ كما ورد:
" لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا" ، والمراد منه هاهنا معناه الحقيقىّ، او الشّكّ والضمير المجرور راجعٌ الى الكتاب او الى "الۤمۤ".
اعلم انّ الكتاب هنا كما مرّت الاشارة اليه عبارة عن الحقائق المشهودة له (ص) حين الانسلاخ عن البشريّة والاتّصال بالعوالم العالية المشار اليها بـ "الۤمۤ" او المأخوذ منها "الۤمۤ" وتفسيره بالقرآن المفتتح بـ "الۤمۤ" وبعلىّ (ع) او بما نزل فى علىّ (ع) يعنى بالولاية وآثارها او بالنّبوّة او الرّسالة وأحكامهما لكون المذكورات نازلة تلك الحقائق وظهورها.
تحقيق انّ الانسان ما لم يخرج من اسر نفسه لا يدرك من القرآن الاّ اللّفظ والعبارة
والانسان ما لم يخرج من اسر نفسه وهواها ولم يبلغ حدّ التّسليم والاستماع الّذى هو اولى درجات العلم بوجهٍ، وثانيتها بوجهٍ، اوحدّ التّحقيق والغنى عن التّقليد مشار اليهما بقوله تعالى
{ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37] لا يمكن له ادراك تلك الحقائق ولا ادراك نازلتها وظهورها فلا يمكن له ادراك القرآن ولا النّبوّات والرّسالات والولايات من حيث انّها ظهور تلك الحقائق ونازلتها، بل لا يدرك من القرآن الاّ الصوت والعبارة او النّقش والكتابة ولا يتصوّر من معانيه الاّ ما هو الموافق لشأنه المناسب لمقامه لا ما هو العناوين الالٰهيّة للحقائق العالية كما قال تعالى { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79] ولا يدرك من خلفاء الله الاّ مقامهم البشرىّ ولا من دعاويهم الاّ ما هو الموافق لادراكاته الشيطانيّة وشؤنها البهيميّة والسبعيّة لا مقاماتهم العالية وأخلاقهم الملكوتيّة وأوصافهم الالٰهيّة ولهذا نسبوا الانبياء الى ما نسبوهم فاللّفظ المسموع من القرآن والنّقش المبصر منه ان كان لفظ القرآن ونقشه بان لا يكون المتكلّم بالقرآن متكلّماً بلسانه ولم يكن الكاتب كاتباً بيده فالشّيطان يخلّيهما من معانيهما ويجعل فيهما معانى اُخر موافقة له حين السّماع والابصار؛ وهذا احد وجوه تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء هم الّذين يقال فيهم: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ } ويسمعونه ويبصرونه { بِأَيْدِيهِمْ } وأسماعهم وأبصارهم { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } وسمعت اذانهم وابصرت عيونهم { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }.
والشّكّ والارتياب من جنود الجهل والنّفس، والعلم والانقياد من جنود العقل والقلب، اذا تمهّد هذا فنقول: من لم يخرج من أسر نفيه لا يدرك الكتاب فى مرتبةٍ من مراتبه، ومن خرج من أسر نفسه لا يقع منه شكٌّ وارتياب فيما أدرك من الكتاب، فالشّاكّون فى الكتاب شكّهم راجعٌ الى مدركاتهم لا الى الكتاب، فما وقع فيه الشّكّ غير الكتاب، وما هو الكتاب لا يقع فيه شكٌّ وريبة، فصحّ نفى جنس الرّيب او جميع افراده من الكتاب من غير حاجةٍ الى ارتكاب تضمينٍ او تقديرٍ او تقييدٍ بمعنى لا ينبغي الرّيب بتضمين الابتغاء او تقديره، او لا ريب للعاقل بالتّقدير، او للمتّقين بتقييده بالظّرف.
تحقيق معنى الهداية
{ ٰ هُدًى } الهدى كالتّقى مصدرٌ بمعنى اراءة الطّريق مصاحبة للايصال اليه او الى المقصود، او غير مصاحبةٍ سواء عدّى الى المفعول الثّانى بنفسه او بالّلام او بلفظ الى، وسواء كانت الهداية من الله او من الخلق، وسواء تعلّقت بنفس الطّريق او بالمقصود، وامّا الهداية من الله اذا تعلّقت بشئٍ اىّ شيئ كان مطلقة عن المهدىّ اليه فالمراد هدايته الى طريق كماله المطلوب منه، والكمال المطلوب من الانسان هو حصول الولاية المطلقة ثمّ النّبوّة المطلقة ثمّ الرّسالة المطلقة، وطريقه الى هذا الكمال هو طريقه من نفسه الانسانيّة الّتى يعبّر عنها بالصّدر منشرحاً بالكفر او بالاسلام، او غير منشرحٍ بشئ منهما الى قلبه ومنه الى روحه وهكذا الى الولاية المطلقة، ولمّا كان هذا الطّريق مختفياً عن الابصار مسدوداً بالتّعيّنات النّفسيّة وكان المرور عليه اختياريّاً والانسان فى بيداء النّفس ضالاًّ فى بدو حاله ظانّاً انّ الكمال المطلوب منه هو الوصول الى المشتهيات النّفسيّة واستكال القوى الحيوانيّة والشّيطانيّة مبغضاً لما سوى مظنونه اقتضت الحكمة البالغة الالٰهيّة والرّحمة التّامّة الرّبوبيّة ان يبعث الى النّوع من ينبّههم عن ضلالهم، وانّ ما وراء مظنونهم هو الكمال المطلوب منهم، وانّ ما ظنّوه كمالاً سمومٌ مهلكةٌ وشبّاك الشّيطان، وانّ فى الوادى سباعاً مترصّدةً ضلالهم مغتنمةً ضياعهم، ويحذّرهم عن الوقوف فيه وعن ترصّد السّباع لهم وعن حبائل الشّيطان حتّى يتنبّهوا ويأخذوا حذرهم ويتأهّبوا للخروج منه ويطلبوا الطّريق ومن يدلّهم عليه؛ حتّى يبعث بعد ذلك عليهم من يرفع موانعهم بالرّفق ويريهم طريق كمالاتهم ويذهب بهم الى غاياتهم، وتلك الاراءة وهذا الاذهاب تسمّى هداية، والرّسول وخليفته لمّا كان كلّ منهما ذا شأنين شأن الرّسالة وبه يقع التّنبيه والانذار المذكوران، وشأن الولاية وبه يقع الاذهاب والاراءة المزبوران كان كلّ منهما بوجهٍ منذراً وبوجهٍ هادياً، وحصر شأن الرّسول فى الانذار فى قوله تعالى:
{ { انّما انت منذر } ؛ مع انّه امام الكلّ فى الكلّ للاشارة الى شأن الرّسالة وانّ المخاطب هو الرّسول بما هو رسول لا بما هو ولىّ او نبىٌّ، والاّ فهو بولايته صاحب الهداية المطلقة وكلّ الهادين مقتبسون منه، وبنبوّته صاحب الشأنين فالرّسول بما هو رسول منذرٌ والولىّ بما هو ولىّ هادٍ، والنّبىّ صاحب الشأنين والهداية من الله لا تتعلّق الاّ بمن أنذر واتّقى فاذا أخذ هدى هاهنا مطلقاً بحسب اللّفظ او مقيّداً بقوله للمتّقين كان المقصود واحداً.
تحقيق معنى التقوى ومراتبها
والتّقوى والتّقى والتّقاة مصادر من الوقاية واذا نسبت الى الله او الى سخطه او الى المحرّمات او اطلقت فالمراد منها التحفّظ عمّا ينافى او يضرّ حصول الكمالات او الكمالات الحاصلة الانسانيّة؛ ولها مراتب عديدة بعضها قبل الاسلام، وبعضها بعد الاسلام وقبل الايمان، وبعضها بعد الايمان بمراتبها الى الفناء التامّ الذّاتىّ، فأولُ مراتبها الانزجار عن مساوى النّفس ودواعيها المنافية للعاقلة وهى مقام الاستغفار، وثانيها الانصراف عنها وطلب الخلاص منها بالفرار وهى مقام التّوبة، وثالثُها الرّجوع فى الفرار الى خلفاء الله ووسائله بينه وبين خلقه وهى مقام الانابة؛ وهذه الثّلاثة مقدّمة على الاسلام واليها اشار تعالى بقوله حكاية عن قول بعض أنبيائه مع أممهم:
{ { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } [هود: 52]؛ وتقييد التّوبة بقوله "اليه" اشارة الى المرتبة الثالثة، واذا اسلم الانسان على يد نبىٍّ (ص) او خليفته (ع) وقبل منه احكامه القلبيَّة من أوامره ونواهيه حصل له مرتبة رابعة من التّقوى الّتى هى التحفّظ عن مخالفة قوله بامتثال اوامره ونواهيه، والخامسة الانزجار عن الوقوف على ظاهر الاوامر وطلب بواطنها وروحها وطلب من يدلّه على بواطنها، وهاتان بعد الاسلام وقبل الايمان؛ وهذه التّقوى هى تقوى العوامّ وتنقسم بوجهٍ الى تقوى العوامّ من الحرام، وتقوى الخواصّ من الشبهات، وتقوى الاخصّ من المباح، واذا وجد الطالب من يدلّه على روح الاعمال وتاب على يده توبة خاصّة وآمن بالبيعة الخاصّة الولايّة واستبصر بباطنه وبرذائله وخصائله حصل له مرتبة أخرى من التّقوى وهى التّحفّظ من الرّذائل باستكمال الخصائل، واذا تطهّر قلبه من الرّذائل وتحلّى بالخصائل تمثّل امامه ودخل بيت قلبه وحينئذٍ يشاهد فى وجوده فاعلاً الٰهيًّا وفاعلاً شيطانيّاً فيظنّ انّ فى الوجود الاهين فيقع فى ورطة الاشراك والثّنويّة ويرى وجوداً لنفسه ووجوداً لشيخه داخلاً فى مملكته فيظنّ انّه حالّ فى وجوده فيقع فى ورطة الحلول، او يرى وجوداً واحداً هو ذاته وامامه فيقع فى ورطة الاتّحاد، وان ساعده التّوفيق واتّقى نسبة الافعال الى الشّيطان ورأى الفعل مطلقاً من الرّحمن فى المظهر الالهىّ او الشّيطانىّ وحصّل ووجد معنى لا حول ولا قوّة الاّ بالله والتذّ به حصل له مرتبة أخرى من التّقوى هى التحفّظ من نسبة الافعال الى غير الله والخروج من الاشراك الفعلىّ الى التّوحيد الفعلىّ، واذا تفطّن بانّ الاوصاف الوجوديّة كالافعال نسبتها الى الله بالصّدور والوجوب والى غيره تعالى بالظّهور والقبول؛ وانّ الكلّ مظاهر اوصاف الله وحصّل ووجد معنى الحمد لله والتّذ به حصل له مرتبة أخرى من التّقوى هى التحفّظ عن رؤية نسبة الاوصاف الى غيره تعالى.
بيان سرّ ظهور بعض الشطحات من السّلاك
وفي هذه المرتبة قد يتجلّى الله على المؤمن بصفة الواحديّة فلا يرى لشيئٍ ذاتاً ولا صفة مع بقاء انانيّةٍ ما لنفسه فيقع فى ورطة الوحدة الممنوعة، ويظنّ انّ الوجود واحد والموجود واحد وبعد الافاقة يعتقد ذلك ويتفوّه به ويقع فى الاباحة والالحاد لو لم يكن له شيخ او لم يرجع الى شيخه ولا يعدّ الرّسل وشرائعهم حينئذٍ فى شيئٍ بل يستهزء بهم وبها، وقد يتجلّى بصفة الصّمديّة عليه فيظهر الانانيّة منه والاستغناء من كلّ شيئ حتّى من الله وهكذا، ففى هذه المرتبة من التّقوى والمرتبة السّابقة ورطات مهلكة وعقبات موبقة ان لم يكن المؤمن فى تربية شيخ او لم يرجع اليه واستغنى منه أعاذنا الله وجميع المؤمنين منها وفى هاتين المرتبتين يظهر جميع ما يظهر من السّلاك من الشطحات الممنوعة؛ واكثر الغالين نشأ غلوّهم من هاتين المرتبتين، واكثر المتشيّخة المغرورين من هاتين استدرجوا وهلكوا من حيث ظنّوا انّهم وصلوا واستغنوا عن الشيخ المكمّل والحال انّهم فى هذه الاحوال أشدّ احتياجاً منهم الى الشيخ فى غير هذه الاحوال، وبالجملة مهالك مراتب التّوحيد الفعلىّ والوصفىّ الى الخروج الى التّوحيد الذّاتىّ اكثر من ان يحيط بها البيان او يحصيها تحرير الاقلام، واذا تفطّن بأنّ المتحقّق بالذّات هو الحقّ الاوّل تعالى شأنه وانّ سائر مراتب الوجود اعتبارات محضّة وتعيّنات اعتباريّة ناشئة من مراتب سعة تلك الحقيقة وانقلب بصره فلا يرى فى دار الوجود الاّ الوجود الحقّ المنزّه عن كلّ تعيّن واعتبار وحصّل ووجد معنى لا الٰه الاّ الله بل معنى لا هو الاّ هو، والتّذ به حصّل له مرتبة أخرى من التّقوى وهى آخر مراتب التّقوى فانّه لا يبقى للسّالك بعد هذه عينٌ ولا اثر حتّى يتصوّر له فعل ووصف وتقوى، فان ادركته العناية الالهيّة بموهبة البقاء بعد الفناء والصّحو بعد المحو وشهود الحقّ فى الخلق والتّشبّه بالرّحمن باعطاء الله له فضيلة الاحسان لتكميل العباد وتكثير جنوده عوضاً لما اقرض الله من الجنود والاعوان فى جهاد الاعداء فى سبيله تمّ له السّلوك وصار نبيّاً او خليفته، ولمّا لم يكن مراتب التّقوى الّتى قبل الاسلام من مراتب حقيقة التّقوى لانّ الانسان ما لم يدخل فى دين الاسلام ولم يتعلّم ما يضرّه فى تحصيل كما له من عالم وقته لا يدرى اىّ شيئ يضرّه حتّى يتّقى منه، ولمّا كان المراتب الباقية منقسمة الى ثلاثة اقسام؛ التّقوى الّتى بعد الاسلام وقبل الايمان، والّتى بعد الايمان وقبل التّقوى عن نسبة الصّفات الى غير الله تعالى، والتّقوى عن رؤية صفة وذات غيره تعالى اسقط التّقوى الّتى قبل الاسلام وذكر الاقسام الثلاثة الباقية فى قوله تعالى:{ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }
تحقيق قوله تعالى { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }
{ { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 93] اى اسلموا فانّ المراد بالايمان هنا الايمان العامّ الّذى هو الاسلام كما سيجيئ تحقيقه وتفصيله، ولم يقل { ليس على الّذين اتّقوا وآمنوا } للاشارة الى انّ الّتى قبل هذا الايمان ليست من التّقوى { وعملوا الصالحات } والمراد بعمل الصالحات العمل بالاحكام الشّرعيّة القالبيّة جناحٌ فيما طعموا { اذا ما اتّقوا } اى اتّقوا بالتّقوى الّتى بعد الاسلام وقبل الايمان وآمنوا بالايمان الخاصّ الّذى يحصل بالبيعة الخاصّة الولاية ويدخل به بذر الايمان فى القلب وبه يتمسّك بالعروة الوثقى الّتى هى حبل من النّاس مضافاً الى التمسّك بالعروة التّكوينيّة الّتى هى حبل من الله { وعملوا الصالحات } الّتى هى اعمالهم القلبيّة مضافة الى اعمالهم القالبيّة { ثم اتّقوا } بمراتب التّقوى الّتى بعد الايمان وقبل التّقوى عن نسبة الصّفات الى غير الله { وآمنوا } شهوداً اى أيقنوا عين اليقين بانّ الافعال كلّها منه جارية على مظاهره اللّطفية والقهريّة ولم يقل وعملوا الصّالحات لما ذكر من انّ هذه التقوى تطهير عن الرّذائل وتحفّظ عن نسبة الافعال الى غير الله فلا يرون فعلاً لانفسهم حتّى ينسب الاعمال اليهم لكن بقى بعدُ نسبة الصّفات الى الذّوات الامكانية ونفس الذّوات الامكانيّة فى انظارهم { ثم اتّقوا } عن نسبة الصّفات الى غيره تعالى وعن رؤية الذّوات الامكانيّة فى جنب ذاته حتّى عن رؤية ذواتهم وعن رؤية اتّقائهم ويعبّر عن الاتّقاء عن رؤية التّقوى بفناء الفناء فلا يبقى حينئذٍ عنهم فعل ولا صفة ولا ذات فلا يبقى ايمان ولا عمل لهم ولذا لم يأت بهما بعد هذه التّقوى وقال { احسنوا } اشارة الى البقاء بعد الفناء فانّ الباقى بعد الفناء فعله على الاطلاق احسان لا غير، وفى الخبر: المتّقون شيعتنا؛ والمراد بالتّقوى فى الخبر التّقوى عمّا يخرج من الطّريق الانسانىّ او ينافى السّلوك عليه، وغير المؤمن بالايمان الخاصّ لمّا لم يكن على الطّريق لا يتصوّر له تقوى بهذا المعنى ولمّا لم يكن لغير الشيعة بهذا المعنى تقوىً صح حصر المتّقى فى الشيعة. ونعم ما قيل:

هرجه كَيرد علّتى علّت شود كفر كَيرد سلّتى ملّت شود

تحقيق الايمان ومراتبه
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } الايمان لغة التّصديق والاذعان واعطاء الامان وانفاذ الامان وجعله آمناً من الخوف والايتمان، وشرعاً يطلق على البيعة الاسلاميّة وقبول الدّعوة الظاهرة وعلى ما بعد التّوبة من اجزاء البيعة وعلى الحالة الحاصلة بالبيعة العامّة من كون البائع مقرّاً بالاصول الاسلاميّة قابلاً للفروع وعلى الحالة الشبيهة بالحالة الحاصلة بالبيعة الاسلاميّة من كون الانسان مقرّاً وقابلاً كالبايع حين عدم الوصول الى البيعة، ويطلق على ارادة البيعة والاشراف عليها وهذه بعينها معانى الاسلام الّذى هو مقابل الايمان الحقيقىّ ومقدّمته، ويطلق على البيعة الخاصّة الايمانيّة وقبول الدّعوة الباطنة، وعلى ما بعد التوبة من اجزاء البيعة وعلى الحالة الحاصلة بالبيعة الخاصّة الولويّة من كون البائع مقرّاً بالتّوحيد والرّسالة والولاية وقابلاً للاحكام القلبيّة مضافة الى الاحكام القالبيّة، وعلى الحالة الشبيهة بالحالة المزبورة من الاقرار والقبول المذكورين من دون بيعة حين عدم الوصول الى البيعة، ويشبه ان يكون اطلاقه على معانى الاسلام مجازاً لسلبه عنها فى قوله تعالى
{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا } [الحجرات: 14]؛ من حيث انّهم بايعوا البيعة العامّة الاسلاميّة قل لهم يا محمّد لم تؤمنوا حتّى تنبّههم على انّ الايمان امر آخر يقتضى بيعة أخرى فلم يقفوا على ظاهر الاسلام وحتّى يطلبوا ويجدوا من يدلّهم على الايمان ولكن قولوا اسلمنا لانّ البيعة العامّة والاقرار بالاصول الاسلاميّة وقبول الاحكام القالبيّة ان كانت موافقة لما فى القلب كانت اسلاماً وان لم تكن موافقة للقلب لم تكن اسلاماً ايضاً ولذا قال { قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } ولم يقل ولكن اسلمتم، { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ } اى البذر الّذى يدخل بسبب البيعة الايمانيّة فى القلوب { فِي قُلُوبِكُمْ } وما لم يدخل فى قلب الانسان بذر الايمان الّذى بسببه يصدق اسم الايمان وان لم يكن الموصوف باسم الايمان متّصفاً بحقيقته الّتى هى شأن من حقيقة الانسان لم يصدق عليه أنّه مؤمن، { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بالوفاء بالعهد الّذى أخذه رسوله (ص) فى البيعة الاسلاميّة وامتثال اوامره ونواهيه بظاهرهما لا يلتكم من اعمالكم شيئاً وهذا يدلّ على كفاية البيعة العامّة فى النّجاة ان كان البايع صادقا فى بيعته، وعلى انّ من مات فى زمان الرّسول على البيعة العامّة كان مغفوراً لا محالة، وفى قوله تعالى { { يمنّون عليك ان اسلموا قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [الحجرات:17] تصريح بانّ المسمّى بالاسلام غير الايمان وانّ الاسلام مقدّمة للايمان وبه يرى طريق الايمان وفى الاخبار تصريحات بمغايرة الاسلام للايمان وانّ الاسلام قبل الايمان وانّ الثواب على الايمان، والاسلام لا يفيد الاّ حفظ الدّماء وجواز المناكحة وصحّة التّوارث، والايمان بمعناه الشّرعىّ يناسب كّلاً من معانيه اللّغويّة والمراد به هاهنا ان كان الظّرف صلة له معنى التّصديق او الاذعان وفيما روى عن مولانا الصّادق (ع) انّ المراد بالغيب هنا ثلاثة اشياء يوم قيام القائم (ع) ويوم الكرّة ويوم القيامة من آمن بها فقد آمن بالغيب وهذا بعينه هو معنى قوله تعالى { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } [إبراهيم: 5] دلالة على كونه صلة ليؤمنون، وان كان مستقرّاً حالاً من الفاعل والمعنى الّذين يؤمنون حال كونهم فى الغياب من الله او الآخرة او متلبّساً بالغيب يمكن ان يراد معناه الشّرعىّ او كلّ واحد من معانيه اللّغويّة سوى اعطاء الامان وانفاذ الامان.
تحقيق الصّلاة ومراتبها
{ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } اعلم انّ الانسان كما مرّ ذو مراتب كثيرة وادنى مراتبه مرتبة القالب الجسمانىّ وبعدها مرتبة نفسه الّتى يعبّر عنها بالصّدر وبالقلب ايضاً وبعدها مرتبة قلبه الّتى هى بين النّفس والرّوح، وبعدها مراتب الاخر، وفى كلّ مرتبةٍ له صلاة وصلاته القالبيّة فى الشّريعة المحمديّة (ص) الافعال والاذكار والهيئات المخصوصة المعلومة لكلّ من دخل فى هذا الدّين بالضّرورة وصلاة قلبه الّذى هو صدره الذّكر المخصوص المأخوذ من صاحب الاجازة، والفكر المخصوص المأخوذ من قوّة الذّكر او من تعمّل المفكّرة، والمراد بالفكر ما هو مصطلح الصوفيّة زمن التّوجّه الى الامام كما ورد وقت تكبيرة الاحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحداً من الائمّة نصب عينيك وصلاة القلب الّذى هو بين النّفس والرّوح مشاهدة معانى اذكار الصّلاة ومشاهدة الاحوال والشؤن المشار اليها بأطوار الصّلاة وصلاة الرّوح معاينة هذه وهكذا، ومعنى اقامة الصّلاة جعل صلاة القالب متّصلة بصلاة الصدر وصلاة الصّدر متّصلة بصلاة القلب، وهكذا سواء كان الاقامة بمعنى الاقامة عن اعوجاج او عن قعود، او بمعنى اقامة حدود الصّلاة فانّ اعظم حدودهما حدودها الطّوليّة فانّها بالنّسبة الى الحدود العرضيّة كالرّوح بالنسبة الى القالب فصلاة القالب كقالب الانسان والصّلاة الذّكريّة القلبيّة الجسمانيّة كالرّوح البخار من الانسان الّذى هو مركب القوى والمدارك الحيوانيّة، والصّلوة الفكريّة الصدريّة كالبدن المثالىّ من الانسان، والصّلاة القلبية الرّوحانيّة كروح الانسان، فكما انّ الانسان بدون المراتب الباطنة ميتة عفنة تؤذى قرينها كذلك الصّلاة القالبيّة بدون مراتبها الباطنة جيفة عفنة مؤذية؛ وقد ورد
"ربّ مصلٍّ والصّلاة تلعنه " .
تحقيق استمرار الصّلاة والزّكاة للانسان تكويناً
واعلم ايضاً انّ الانسان خلق ذا قوّة وفعليّة من اوّل خلقة مادّته الى مرتبته الاخيرة الّتى هى بالفعل من كلّ جهة وليس فيها قوّة فالنّطفة لها فعليّة النّطفة وقوّة العلقة قريبة وقوّة المضغة والجنين والطّفل الانسانى وهكذا بعيدة، وما لم ينقص من فعليّة النّطفة شيئٌ لم يحصل من فعليّة العلقة شيئ ويحصل بالاتّصال والاستمرار فعليّة العلقة بقدر نقصان فعليّة النّطفة الى ان صار العلقة بالفعل من جهة كونها علقة ثمّ يصير فعليّة العلقة فى النقصان وفعليّة المضغة فى الحصول والازدياد وهكذا جميع المراتب فانّ فعليّة كلّ مرتبة موقوفة على نقصان سابقتها او فنائها، وهذا النقصان والفناء زكاة الانسان تكويناً، وذلك الحصول والازدياد صلاته تكويناً لانّ الزّكاة اعطاء فضول المال وتطهير باقيه، وهذا ايضاً كذلك والصّلاة جلب الرّحمة وطلبها والازدياد المذكور جلب للرّحمة الّتى هى كمالات الانسان واستجماعٌ لها، ولمّا كان التّكليف موافقاً للتّكوين وحسن الاعمال الاختياريّة بكونها مطابقة للافعال التّكوينيّة لم يبعث نبىّ قط الاّ بتشريع الصّلاة والزّكاة وجعلهما اصلاً وعماداً لتمام الاعمال الشّرعيّة الفرعيّة لكن وضعهما وصورتهما فى الشّرائع مختلفة غير متوافقة، وتقديم الصّلاة فى هذه الآية وفى سائر الآيات على الزّكاة امّا لتقدّمها طبعاً لانّ اسقاط ما فى اليد موقوف على وجدان غيره او طلب الافضل منه والصّلوة كما علمت وجدان او طلب للكمال المفقود بعد الاتّصاف بكمال موجود، فما لم يطلب الانسان كمالاً آخر لا يترك كمالاً حاصلاً وقيل بالفارسيّة:

تا نبيند كود كى كه سيب هست او بياز كَنده را ندهد زدست

او لانّ الصّلاة اشرف والاهتمام بها اتمّ لانّها طلب ووجدان، والزّكاة ترك وفقدان.
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } انفق من باب الافعال من نفق ماله اى نفد لكن خصّص بانفاق المال فيما ينتفع به وتقديم الظّرف للاهتمام ومراعاة رؤس الاى وللحصر كأنّه اراد ان يشير الى انّ الاموال قد تحصل بامرنا ومن الوجه الّذى قرّرناه لتحصيلها، وقد تحصل بأمر الشّيطان ومن الوجه الّذى نهينا عنه، وقد تحصل بشركة الشّيطان، وكذا العلوم والقوى والشّؤن والنّيّات والخيالات المتولّدة فى عالم الانسان وانّ المؤمن لا يوجد فى ملكه الاّ ما رزقناه لانّه لو أراد الشّيطان ان يداخله فى تحصيل ما له تذكّر فاذا هو يبصر ويتّقى فلا ينفق الاّ ما رزقناه، ولهذا الوجه عدل عن قوله يؤتون الزّكاة وكأنّك تفطّنت ممّا اسلفنا بتعميم ما رزقهم الله وتعميم الانفاق فانّ الانفاق الاختيارىّ للانسان من اوّل بلوغه بل من اوّل زمان تمرينه الى آخر مقام الاطلاق والخروج من التعيّنات، وروى عن الصّادق (ع) انّ معناه وممّا علّمناهم يبثّون، وهذا بيان لاحد وجوه المرزوق والانفاق بحسب اقتضاء المقام، وادخال من التبعيضيّة للاشعار الى التوسّط فى الانفاق وانّه لا ينبغى انفاق الجميع كما لا ينبغى التّقتير وعدم الانفاق.
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } ان كانت الباء للسّببيّة صحّ ارادة كلّ من المعانى الشّرعية واللّغويّة من الايمان وان كانت صلة للايمان فمعناه التّصديق او الاذعان والمراد بما انزل اليه جملة ما نزل اليه من القرآن والاحكام، او خصوص ما نزل فى ولاية علىّ (ع) من القرآن، او خصوص ما نزل من حقيقة الولاية على قلبه؛ هذا اذا كان ما موصولة او موصوفة، واذا كانت مصدريّة فالمعنى الايمان بنفس الوحى وانزال الكتاب من دون اعتبار المنزل.
{ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } من الشّرايع والكتب او من التنصيص على ولاية الاوصياء او من الولايات النّازلة على الانبياء من علويّة علىّ (ع) هذا ان كان ما انزل من قبلك معطوفاً على ما انزل اليك، وان كان جملة حاليّة ولفظة ما نافية او استفهاميّة فالمعنى وما أنزل، ما أنزل اليك من الشّرايع والقرآن او الولاية من قبلك، او اىّ شيئ أنزل من قبلك على معنى الانكار اى ليس ما أنزل اليهم بشيئ فى جنب ما أنزل اليك.
{ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الايقان اتقان العلم بحيث لا يعتريه شكّ وارتياب ولا يشوبه تقليد واعتياد والحصر المستفاد من تقديم الضّمير سواء كان مسنداً اليه او للفصل اشعار بانّ الايقان الّذى هو من صفات العقلاء مختصّ بهؤلاء الموصوفين بما ذكر دون غيرهم فانّهم أصحاب النّفوس الّتى ليس من شأنها الاّ الظّنّ والشّكّ والرّيبة، وعلومهم ان كانت برهانيّة فهى ظنونٌ ولا يخلو من شوب ريبة وتقليد وعادة، وتقديم الظّرف على تقدير كونه معمولاً ليوقنون لا على تقدير جعله عطفاً على بما أنزل لمراعاة رؤس الاٰى وللحصر مشاراً به الى انّ هؤلاء الموصوفين بالاوصاف السّابقة المختصّ بهم اليقين ليس علمهم وايقانهم الاّ متعلّقاً بالآخرة لانّهم جعلوا الآخرة نصب أعينهم وغاية هممهم فلا يلتفتون الى غيرها حتّى يتعلّق يقينهم به بخلاف غيرهم فانّهم جعلوا الدّنيا نصب أعينهم ونبذوا الآخرة وراء ظهورهم فلا تعلّق لعلمهم النّفسانىّ بالآخرة لانّ علومهم مقصورة على الدّنيا وعلى ما يلزم العيشَ فيها فتكون نفسانيّة غير ايقانيّة يعلمون ظاهراً من الحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ذلك مبلغهم من العلم؛ وقد قيل بالفارسيّة:

اندر اين سوراخ بنّائى كَرفت در خور سوراخ دانائى كَرفت
جون بى دانش نه بهرروشنى است همجو طالب علم دنياى دنيست
طالب علم است بهرعام وخاص نى كه تايابد ازاين عالم خلاص
همجو موشى هرطرف سوراخ كرد جونكه نورش راند ازدركَشت سرد

والآخرة تأنيث الآخر كان فى الاصل وصفاً والتّأنيث باعتبار الموصوف الّذى هى الدّار ثم غلب عليه الاسميّة، واطلاق الآخرة على عالم الغيب باعتبار انّها للانسان بعد الدّار الدّنيا ومتأخّرة عنها، فان كان المراد بالغيب المبدء والعوالم العالية فى سلسلة النّزول؛ وبالآخرة العوالم المتأخّرة فى سلسلة الصّعود يعنى المعاد فالكلام تأسيس، وان كان المراد بالغيب مطلق العوالم العالية مبدءً ومعاداً فالكلام مبتنٍ على ذكر الخاصّ بعد العامّ وكان الكلام باعتبار ذكر الايقان بعد الاسمان تأسيساً ايضاً.
{ أُوْلَـٰئِكَ } العظماء المذكورون بالاوصاف العظام { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } بحيث انّهم حاكمون على وصف الهدى لا أنّهم محكومون به فالاتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضار المسند اليه بأوصافه المذكورة ليكون كالعلّة للحكم وللاشارة الى بُعد مرتبتهم لعظمتهم، وان كان { ٱلَّذِينَ } الاولى او الثّانية مبتدأ فتكرير المبتدأ باسم الاشارة يفيد الحصر، وان كانتا تابعتين للمتّقين فكون الجملة جواباً لسؤالٍ ناشئٍ عن المقام يقتضى الحصر فانّه بعد ذكر المتّقين وكون الكتاب هادياً لهم وذكر اوصافهم الجميلة صار المقام مقام ان يقال: ما لهم من الله، وبما امتازوا من غيرهم فقال: اولئك امتازوا عن غيرهم بكونهم على هدىً اهدى اليهم من ربّهم دون غيرهم، والحصر فى القرين الثّانى قرينة للحصر هاهنا.
{ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } تكرار المبتدأ للاشارة الى امتيازهم بكلّ من الصّفتين على حيالهما لا بجمعهم بينهما، وتوسيط العاطف للاشارة الى انّ كّلاً من الوصفين غير الآخر، ولو اتى بالجملة الثّانية مجرّدة عن العاطف لتوهّم انّ الثّانية تأكيد للاولى وانّ الوصفين متّحدان او متلازمان.