التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ
١١
إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى
١٢
-طه

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ فَلَمَّآ أَتَاهَا } متعلّقاً قلبه بأهله وماشيته لانّه تركها بحالٍ لا يجوّز العقل تركها بتلك الحال { نُودِيَ يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ } قرئ بفتح همزة انّى وكسرها { فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } الوادى المفرج بين الجبال والتّلال والآكام وطوى قرئ منصرفاً وغير منصرفٍ باعتبار كونه علماً للوادى وعلماً للبقعة وسمّى مقدّساً لانّه بورك فيه بسعة الرّزق والخصب كما قيل، او لانّه كان مطهّراً من عصيان بنى آدم، او لانّه قدّست فيه الارواح واصطفيت فيه الملائكة وكلّم الله موسى تكليماً كما فى الخبر، وسمّى طوىً لانّه كان مطويّاً فيه العلوم، او الملائكة والبشر، او الخير والبركة، او عالم الطّبع والكثرات، او الخلق والحقّ وامره بخلع نعليه لانّ الحفاء اقرب الى التّواضع، ولان يلاصق قدمه الوادى فتتبرّك به ولانّ النّعلين كانتا كنايةً عن الاهل، او عن الاهل والمال كما يعبّران فى الرّؤيا بالمنكوحة، او لانّهما كانتا كناية عن خوف ضياع ماله واهله، او عن خوف ضياع اهله وخوف فرعون فأمره بخلع حبّ الغير او خوف الغير من قلبه، وما نقل من طرق العامّة من انّهما كانتا من اهاب الميتة فأمره الله بخلعها؛ ورد صريحاً تكذيبه من طريقنا.
اعلم، انّ الانسان من اوّل طفوليّته مبتلىً بمشتهياته الحيوانيّة ومقتضياته النّفسانيّة فهو بعد البلوغ امّا يقف عليها ولا يعرف من الدّين والملّة سوى ما اخذه واعتاده من الآباء والاقران، او يظهر فى وجوده زاجرا لهىٌّ فيزجره عن الوقوف على الحيوانيّة وهو امّا يقف على هذه الحالة ويتحيّر فى امره حتّى يدركه الموت وهو حال اغلب النّاس او يصل بهيجانه وانزجاره الى زاجرٍ الهىٍّ ظاهرىٍّ من نبىٍّ او خليفته ويسلّم نفسه له ويقبل منه الاحكام القالبيّة الظّاهرة فى اىّ دينٍ وملّة كان، وهو امّا يقف عن طلبه ويكتفى بالاتّصال بالزّاجر الالهىّ وظواهر الاحكام القالبيّة وهو حال اغلب الملّيّين، او يتهيّج لطلب بواطن الاحكام القالبيّة ويطلبها؛ وهو امّا يقف ويتحيّر حتّى يدركه الموت، او يصل الى من يدلّه على طريق معرفة بواطن الاحكام؛ وهذا امّا يكتفى بالوصلة البشريّة والبيعة الولويّة، او يزداد بذلك شوقه الى معرفة البواطن وشهود الغيب؛ وذلك امّا يقف على هذه الحال حتّى يدركه الموت او تدركه العناية الالهيّة وتوصله الى مقامٍ من النّفس يرى فيه مظاهر الله ويسمع صوت الله من مظاهره وهذا اوّل مقام الاطّلاع على الغيب والالتذاذ ببواطن الشّرع، وهذا اوّل مقامٍ يصلح العبد لان يرجعه الله الى الخلق للدّعوة والتّكميل فانّ دعوته هناك تكون على بصيرةٍ ويصير العبد من اتباع محمّدٍ (ص) الّذين اشار اليهم بقوله تعالى:
{ { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف:108]؛ سواء كان من امّة محمّدٍ (ص) او من الامم الماضية، ولمّا كان الانسان مفطور التّعلّق بالكثرات ولا يبلغ الى هذا المقام الاّ من طرح الكثرات وازال الانانيّات كان الله تعالى اذا اراد ان يبلغ عبده الى هذا المقام ابتلاه بالبلايا الواردة النّفسيّة والبدنيّة والحقّيّة والخلقيّة حتّى ينزجر غاية الزّجرة ويستوحش غاية الوحشة وينصرف من الكثرة الى الوحدة ولذلك يظهر قبل ظهور صاحب الامر الدّجّال والسّفيانىّ، وقبل خراب الدّنيا يأجوج ومأجوج، ولمّا اراد الله تعالى ان يبلّغ موسى (ع) الى هذا المقام وكان شديد الاهتمام بالكثرات وحقوقها سلّط عليه البرد وظلمة اللّيل وتفرّق الماشية ومخاض المرأة وعدم انقداح الزّندة وضلال الطّريق حتّى دهش غاية الدّهشة واستوحش غاية الوحشة، ثمّ اراه نوره بصورة النّار وبلّغه الى ذلك الوادى وذلك الوادى واقع بين جبلى انانيّة الله وانانيّة العبد ومطوىّ فيه الخيرات والبركات ومجتمع للملك والبشر والخلق والحقّ، ومطوىّ فيه انموذجات العلوم كلّها والآيات جلّها، وهذا هو طور النّفس ومرتفعها وفناء دار التّوحيد فانّ الطّور اسم للجبل ولفناء الدّار كما انّه علمٌ لجبل قرب ايلة يضاف الى سينا وسينين وعلم جبلٍ بالشّام، وقيل: هو يضاف الى سينا وسينين، وعلم جبلٍ بالقدس عن يمين المسجد، وآخر عن قبلته به قبر هارون، وجبلٌ برأس العين، وجبلٌ مشرفٌ على الطّبريّة وعلم كورة بمصر، وعلم بلد بنواحى نصيبين.