التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٥
-الحج

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ } قد مضى انّ الرّيب هو التّزلزل فى الاعتقاد الثّابت والاضطراب فيه وهو مقدّمة الشّكّ وكثيراً ما يستعمل فى الشّكّ { مِّنَ ٱلْبَعْثِ } اى بعث الاموات واحيائهم فى يوم الحساب فتفكّروا فيما سلف عليكم من الاحوال حتّى تعلموا جواز البعث فانّكم قد علمتم النّشأة الاولى فلولا تذكّرون { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } يعنى انظروا فى مادّة خلقتكم فانّ جزءها الاعظم كان التّراب الّذى هو اخسّ العناصر ثمّ استكمل ذلك التّراب فى مراتب استكماله وكلّ استكمالٍ كان موتاً لكم عن صورةٍ وبعثاً فى صورة اخرى حتّى بلغتم الى اقصى مراتب الكمال البشرىّ وموتكم عن البشريّة وبعثكم بالملكيّة مثل موتاتكم السّابقة وبعثاتكم { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } قطعة دمٍ جامدةٍ { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } قطعة لحم غير متماسك الاجزاء كاللّحم الّذى يمضغ، وادخال من على المادّة يدلّ على انّ المادّة ليست هى الانسان ولا جزءً منه بل الانسان اسم للفعليّة الاخيرة الّتى هى الرّوح وانّ النّفس الانسانيّة جسمانيّة الحدوث كما عليه الفلاسفة لا انّها قديمة او خلقت سابقةً على الابدان كما عليه جمع من المتكلّمين والفقهاء، وما ورد من خلق الارواح قبل الابدان انّما هو بحسب نشأتها المجرّدة لا بحسب نشأتها المتعلّقة وليس التّعلّق وصفاً عرضيّاً للنّفوس كما قيل بل هو مرتبة من مراتب ذواتها ونشأة من نشآت وجوداتها { مُّخَلَّقَةٍ } تامّة الخلقة ويدلّ عليه وزن التّخليق الدّالّ على المبالغة { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } غير تامّة الخلقة، او باقية الى تمام زمان خلقته فى الرّحم وهو الزّمان المعهود للجنين فى الرّحم وغير باقية بل ساقطة او خارجة سالمة قبل تسعة اشهر { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } كيفيّة بعثكم من هذا البعث المشهود لكم، وحذف المفعول ليذهب ذهن السّامع كلّ مذهبٍ ممكن كأنّه قال لنبيّن لكم حكمتنا وقدرتنا وعلمنا ورأفتنا وتوانينا فى الامور واماتاتنا واحياءاتنا وبعثكم ونشركم وجزاءكم وحسابكم { وَنُقِرُّ } قرئ بالرّفع والنّصب من باب الافعال ومن الثّلاثىّ المجرّد بالتّكلّم والغيبة وليكن الثّلاثىّ المجرّد المتكلّم مأخوذاً من قررت الماء اذا صببته، والمرفوع منه معطوف على خلقنا او حال بتقدير مبتدء او مستأنف والمنصوب معطوف على نبيّن كأنّه قال: غرضنا فى التّأنّى والتّدريج فى الخلقة بيان حكمتنا وقدرتنا على البعث وتقرير نطفكم { فِي ٱلأَرْحَامِ } مدّة ليكون دليلاً على بقائكم فى البرازخ وقيل البعث مثل بقائكم فى الارحام { مَا نَشَآءُ } اى مدّة مشيّتنا، او نقرّ الّذى نشأ من النّطف ونزيل ما نشاء من الارحام { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } اقلّه ستّة اشهر واكثره تسعة اشهر، وفى خبرٍ اذا حاضت المرءة فى حملها زاد ايّام الحمل على التّسعة بقدر اياّم الحيض، وفى خبرٍ آخر: اذا جاءت به لاكثر من سنةٍ لم تصدّق ولو ساعةً واحدةً، وعن العامّة اكثره آخر اربع سنين { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } حال عن المفعول وافراده امّا على تقدير نخرج كلّ واحدٍ منكم او بلحاظ انّه اسم جنسٍ يطلق على الواحد والاكثر، او باعتبار انّه فى الاصل مصدر مطلق على الواحد والكثير { ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ } عطف على محذوفٍ اى لتبقوا وترضعوا وتنموا ثمّ لتبلغوا، او متعلّق بمحذوفٍ اى ثمّ ننميكم ونبقيكم لتبلغوا { أَشُدَّكُمْ } كما لكم فى القوّة والعقل، قد مضى انّ الاشدّ هو وقت كمال جميع القوى البدنيّة والنّفسانيّة وهو من ثمانى عشرة سنةً او من اوّل البلوغ الى ثلاثين او اربعين وهو مفرد على لفظ الجمع، او جمع لا واحد له من لفظه، او واحده الشّدّة بالكسر كالنّعمة والانعم، او الشّدّ كالكلب والاكلب او الشّدّ كالذّئب والاذؤب لكنّه لم يسمع هذان { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ } جملة حاليّة او عطف باعتبار المعنى كأنّه تعالى قال: منكم من يقرّ بمادّته فى الارحام، ومنكم من يسقط، ومنكم من يتوفّى قبل البلوغ او حين البلوغ { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } اى ارذل اوقات العمر وهو وقت الخرافة وعدم التّفطّن بدقائق المقصود والمصنوع وهو يختلف بالنّسبة الى الاشخاص فربّ معمّرٍ لا يصير خرفاً فى المئة او اكثر، وربّ رجل يصير خرفاً فى الخمس والسّبعين ولذلك اختلف الاخبار فى بيان وقت ارذل العمر { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } الّلام للغاية لانّ عدم العلم بعد العلم من الغايات العرضيّة لا انّه علّة غائيّة لانّ العلّة الغائيّة للابقاء هى الاستكمال بالعلم والعمل، لا زوال العلم بعد الاستكمال به، او هو علّة غائيّة بمعنى انّ العلوم الدّنيويّة والادراكات البشريّة الحاصلة بالمدارك الدّنيويّة من الموذيات فى الآخرة ويبقى الله بعض عباده لان يضعف مداركه الدّنيويّة ويزول عنها مدركاتها ليكون على راحةٍ منها فى الآخرة ولذلك كان خير ابن آدم فى ان يبقى بعد البلوغ الى الشّيخوخة كما فى الخبر لانّ بقاء الادراكات الدّنيويّة موذٍ لصاحبها فى الآخرة، ونعم ما قيل:

سينه خود را برو صد جاك كن دل از اين آلود كَيها باك كن

{ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً } خالية عن النّبات والجملة خطاب لغير معيّنٍ وعطف على الجزاء، او على الشّرط والجزاء، كأنّه خاطبهم جميعاً فى مقام الاستدلال على جواز البعث فقال: وترون الارض هامدة (الآية) او الخطاب لمحمّدٍ (ص) وعطف باعتبار المعنى وتعريض بالمنكرين للبعث كأنّه قال: ترى النّطفة وتقليباتها واماتاتها واحياءاتها فكيف تنكر البعث وترى الارض هامدة؟! { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ } تحرّكت ونشطت، شبّه الارض فى استسقاء الماء وتحريك الحبوب والعروق للنّبت والنّموّ بمن شرب ونشط وتحرّك نشاطاً { وَرَبَتْ } انتفخت وارتفعت بالنّبات { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ } اى صنفٍ { بَهِيجٍ } حسن رائقٍ.