التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
٤٠
-النمل

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ } يسير { مِّنَ ٱلْكِتَابِ } القرآنىّ التّكوينىّ الّذى يتنزّل فيصير فرقاناً بصورة الكتب السّماويّة او بصورة الشّرائع الالهيّة والرّجل كان آصف بن برخيا وزير سليمان (ع) وابن اخته، وقيل: كان رجلاً اسمه بلخيا، وقيل: كان اسمه اسطوم، وقيل: كان هو الخضر (ع)، وقيل: كان الّذى عنده علمٌ من الكتاب جبرائيل، وقيل: كان سليمان (ع) نفسه { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قد حقّقنا فى مطاوى ما اسلفنا خصوصاً فى اوّل سورة بنى اسرائيل انّ الانسان ذو جزئين؛ جزء ملكىّ وجزء ملكوتىّ فاذا غلب الجزء الملكىّ كما فى اغلب النّاس استهلك الجزء الملكوتىّ وحكمه فلم يظهر منه اثر وحكم، واذا غلب الجزء الملكوتىّ صار الجزء الملكىّ مستهلكاً من غير بقاء اثرٍ وحكمٍ منه، ولمّا كان الملكوت حكمها عدم التّقيّد بالزّمان والمكان بل الاحاطة بهما والتّجرّد منهما كان جميع الزّمانيّات والازمنة عندها كالآن وجميع المكانيّات والامكنة كالنّقطة وكان من غلب عليه الملكوت يقدر على تعرّف حال الآتين والماضين، وعلى سير المشرق والمغرب فى آنٍ واحدٍ، وكان كلّ ما اتّصل به من الاجسام الثّقيلة يصير بحكمه من عدم التّقيّد بزمانٍ ومكانٍ كما انّ عباء محمّدٍ (ص) ونعليه خرجت من حكم الملك بسبب اتّصالها به وسارت بسيره فى الملكوت والجبروت بل فوق الامكان، اذا علمت ذلك، فاعلم انّ آصف (ع) علم الاسم الاعظم الّذى هو لطيفته الملكوتيّة ودعا الله تعالى بتلك اللّطيفة يعنى انّه تشأنّ بشأن تلك اللّطيفة وفعل فعله بشأن تلك اللّطيفة فصار ملكه مغلوباً لا حكم له، فلم يكن المسافة بينه وبين عرش بلقيس مانعةً من اتّصال يده الملكوتيّة به ولا الجبال والتّلال حائلة بين نظره ويده وبين العرش، وبعد اتّصال يده بالعرش صار العرش بحكم الملكوت وارتفع عن الزّمان والمكان فلم يبق له حاجة فى حركته الى مدّة ومضىّ زمانٍ ولم يكن الجبال والتّلال مانعة من حركته فوصل يده الى العرش واتى به فى آنٍ واحدٍ وهذا معنى قوله: قبل ان يرتدّ اليك طرفك يعنى فى اقصر من طرفة العين لا ما قالوه وفسّروه به { فَلَمَّا رَآهُ } يعنى مدّ يده واتى به فى اقلّ من طرفة العين فلمّا رآه سليمان (ع) { مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ } اظهاراً لانعمام الله ورؤيةً للمنعم فى الانعام { هَـٰذَا } اى اتيان وزيرى به قبل طرفة العين { مِن فَضْلِ رَبِّي } علىّ { لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } هذه النّعمة او مطلق نعمه { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } عنه وعن شكره { كَرِيمٌ } لا يمنع من كفر انعامه ويزيد من شكر افضاله، واختلف فى وجه الاتيان بعرشها؛ فقيل: انّه اعجبته صفته فاراد ان يراه واحبّ ان يملكه قبل ان تسلم فيحرم عليه اخذ مالها، وهذا شبيه باقوال العامّة، او اراد ان يختبر بذلك عقلها وفطنتها، او اراد ان يظهر معجزة عليها حين ورودها لانّها خلّفته فى دارها واوثقته ووكلت به ثقاه، وقيل كانت بلقيس محبّة لها، فاراد ان لا يكون قلبها متعلّقاً بغيره وقت الورود.