التفاسير

< >
عرض

أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٦٢
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٣
أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦٤
-النمل

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }.
معنى المضطرّ
اعلم، انّ الانسان من اوّل استقرار مادّته فى مقرّها الّذى هو الرّحم جماد بالفعل، ونبات بالقوّة القريبة، وحيوان بالقوّة البعيدة، وانسان طبيعىّ ملكىّ بالقوّة الّتى هى ابعد، وانسان ملكوتىّ وجبروتىّ بالّتى هى ابعد، ولكنّه فى تلك الحال يقتضى بفطرته القرار فى الرّحم والاغتذاء بدمها وسائر رطوباتها ويتشبّث بها ويجذب من رطوباتها، ثمّ يصير نباتاً بالفعل، ثمّ حيواناً مثل حيوانيّة الخراطين حتّى يتولّد فيصير حيواناً بالفعل وانساناً ملكيّاً بالقوّة حتّى اذا بلغ الى مقام التّميز والمراهقة فيصير انساناً ضعيفاً بالفعل وكذلك شيطنته تكون ضعيفة وقوّته الشّهويّة والغضبيّة تكون قويّة بحيث تغلب الانسانيّة والشّيطانيّة، وبشهوته يطلب المشتهى ويجذبه، وبغضبه يدفع من يمانعه عنه ويغضب عليه، وبشيطانيّته الضّعيفة يحتال فى تحصيله حيلاً ضعيفةً، وبانسانيّته الضّعيفة يخجل من ظهور بعض افعاله خجلة ضعيفةً، فاذا بلغ الى مقام البلوغ والرّشد واستعدّ لتعلّق التّكليف به صار انسانيّته وشيطانيّته قويّتين كما انّ شهوته وغضبه يصيران قويّين، وبشهوته القويّة يشتدّ طلبه لمشتهياته، وبغضبه القوىّ يشتدّ دفعه وغضبه على من يمانعه، وبشيطنته القويّة يشتدّ حيلته فى طلبه، وبانسانيّته يشتدّ انزجاره وخجلته عمّا ينافى انسانيّته، فان ساعده التّوفيق ودعاه الدّاعى الآلهىّ دعوة ظاهرة او دعوة باطنة وقبل الدّعوة وبايع البيعة العامّة او البيعة الخاصّة وصار مسلماً او مؤمناً وعمل بما اخذ عليه فى بيعته صار انسانيّته فى الاشتداد وسلك الى الله وادبر عن العالم واسبابه، حتّى انّه يقطع النّظر عن الاسباب ويتوجّه بشراشره الى مسبّب الاسباب، وهذا اضطرار تكليفىّ فانّ الاضطرار هو قطع النّظر عن الوسائل والاسباب والتّوجّه الى مسبّب الاسباب والتّوسّل به واليه اشار الصّادق (ع) بقوله: فالاضطرار عين الدّين، وقد مضى تفصيل للدّعاء وطريقه فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
{ { إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [البقرة:186]، واذا لم يتمسّك بذيل نبىٍّ (ع) او وصىّ نبىٍّ (ع) ولم يبايع بيعة اسلاميّة او بيعة ايمانيّة كان قواه البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة فى الاشتداد وقوّته الانسانيّة فى الضّعف فى اغلب النّاس وفى اغلب الاوقات حتّى يختفى الانسانيّة تحت القوى الثّلاث ويكون الحكم لتلك القوى والآثار منها فقط لكن هذا الانسان قد يبتلى حتّى يعجز الشّيطنة عن الاحتيال وييأس الشّهويّة عن المشتهى والآمال ويحسر الغضبيّة عن الدّفع والبسط فانّ المدركة تدرك المشتهى والشّيطنة باستعمال المتخيّلة واظهار الواهمة والخيال الصّور والمعانى عليها تتصرّف وتحتال للوصول اليه وتحرّك العمّالة لطلبه، واذا وجدت مانعاً ودافعاً لها عن الوصول حرّكت الغضبيّة لدفعه فان تيأس عن الوصول سكنت المتخيّلة عن الحركة والتّصرّف، والواهمة والخيال عن اظهار المعانى والصّور، والعمّالة عن الطلّب، والشّهوة والغضب عن الاشتهاء والدّفع، وحينئذٍ يظهر الانسانيّة من غير حاجب ومعاوق ولمّا كان فطرتها التّضرّع والالتجاء الى الله والسّؤال منه تضرّعت بفطرتها والتجأت وسألت؛ وهذا هو الاضطرار التّكوينىّ الفطرىّ وكلا الاضطرارين لمّا كان مظهراً لانسانيّة الانسان وكان اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة لطيفة الهيّة كان لسانها لسان الله وسؤالها سؤال الله وسؤال الله من نفسه لا يردّ بل يجاب، والى هذا الاضطرار وكون لسان الدّاعى حين الاضطرار لسان الله اشار المولوىّ قدّس سرّه بقوله:

هم دعا از من روان كردى جوآب هم ثباتش بخش وكَردان ستجاب
هم تو بودى اوّل آرنده دعا هم تو باش آخر اجابت را رجا
جون خدا از خود سؤال وكدّ كند بس سؤال خويش راكى ردّ كند
هم دعا ازتو اجابت هم زتو ايمنى از تو مهابت هم ز تو

وهذا المضطرّ ان كان اضطراره تكليفيّاً غلب لا محالة على القوى الثّلاث وملكهم فى الصّغير واذا ملك فى العالم الصّغير ينتهى مالكيّته الى المالكيّة فى العالم الكبير وليست هذه المالكيّة وتلك الاجابة الاّ من الله تعالى وان كان اضطراره تكوينيّاً وبقى على اضطراره انتهى اضطراره الى الاضطرار التّكليفىّ، والاضطرار التّكليفىّ يصير سبباً للمالكيّة والاستخلاف فى العالمين { وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } اجابة لدعائه، والسّوء اعمّ من الواردات الغير الملائمة لانسانيّة الانسان وحيوانيّته ومن تبعات الذّنوب ومن النّقائص الّلازمة له من الانانيّة والحدود { وَيَجْعَلُكُمْ } التفت من الغيبة الى الخطاب للاشعار بانّ المضطرّ اذا صار اهلاً للخلافة يصير له حالة الحضور والتّخاطب وبدون حصول حالة الحضور له لم يكن له شأنيّة الخلافة { خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ } خلفاء ارض العالم الصّغير والكبير كما ذكر، وامّا التّفسير بخلافة الماضين بايراث ارضهم واموالهم فلا يناسب ذكره بعد اجابة المضطرّين وكشف السّوء عنهم خصوصاً على ما ورد عنهم انّ الواو فى القرآن للتّرتيب، عن الصّادق (ع) انّ الآية نزلت فى القائم من آل محمّد (ص) هو والله المضطرّ اذا صلّى فى المقام ركعتين ودعا الله عزّ وجلّ فأجابه ويكشف السّوء ويجعله خليفةً فى الارض { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا } اى تذكّر قليلاً او شيئاً قليلاً اىّ قليل من آلاء الله { تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } باعطاء القوى والمشاعر وانضباط الكواكب فى حركاتها { وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ } كرّر من لانّ ارسال الرّياح جنس سوى جنس الهداية { بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } بتسبيب الاسباب السّماويّة من اشعّة الكواكب وتخالف اللّيل والنّهار وتحريك السّحاب وانزال الامطار، او المراد سماء عالم الارواح ورزق الانسان من العلوم والاحوال والاخلاق والمكاشفات { وٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يعنى انّ هذه الافعال لا يجوز ان تنسب الى معبوداتكم وهذه هى افعال الله فلا يجوز ان يكون شيءٌ من معبوداتكم شريكاً له تعالى فى ذلك، واذا لم يكن شريكاً له تعالى فى ذلك لم يكن شريكاً له فى العبادة، فانّ استحقاق العبادة ليس الاّ بهذه.