التفاسير

< >
عرض

وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠٣
-آل عمران

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

تحقيق حبل الله وحبل النّاس
{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ } يطلق حبل الله على القرآن لانّه كالحبل المحسوس الممدود من الله الى الخلق طرفه الّذى هو مقام المشيئة وعلويّة علىّ (ع) بيد الله، وطرفه الآخر بيد النّاس وهو نقشه وكتابته ولفظه وعبارته ويطلق على الكامل من النّبىّ (ص) او الولىّ (ع) فانّه ايضاً حبل ممدود من الله الى الخلق طرفه المشيئة كالقرآن وطرفه الآخر بشريّته، ويطلق على الولاية التكوينيّة والولاية التّكليفيّة فانّها ايضاً حبل ممدود طرفه المشيئة لانّ الكلّ متّحدة فى المقامات العالية، والتّفرقة انّما هى فى عالم الفرق وطرفه الآخر بشريّة الكامل وصدر قابل الولاية وبشريّته، وهكذا الحال فى النّبوّة والرّسالة والشّريعة المقرّرة منهما وقوله تعالى بُعيد هذا: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ } اشارة الى الولايتين او الى القرآن والولاية التّكليفيّة كما فى الخبر انّ الحبل من الله القرآن والحبل من النّاس علىّ بن ابي طالب (ع)، ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال فى مقام وصف الكتاب والعترة:
"حبلين ممدودين طرف منهما بيد الله وطرف بايديكم وانّهما لن يفترقا" ؛ لكن بعد ما سبق فى اوّل سورة البقرة من تحقيق معنى الكتاب وتعميمه يعلم انّ الولاية التّكوينيّة كتاب من الله كما انّ الولاية التّكليفيّة ايضاً كتاب من الله والمراد به هاهنا محمّد (ص) بنبوّته او رسالته او ولايته، او المراد شريعته ودينه الّذى هو الاسلام، او المراد علىّ (ع) بولايته؛ فانّ المقصود من تلك الآيات التّعريض بالامّة فى اتّباع الولاية، وعلى تعميم الامر بالاعتصام يراد جميع معانى الحبل بالنّسبة الى مراتب الخلق فكأنّه قال: اعتصموا ايّها المسلمون بمحمّد (ص) وشريعته وكتابه واعتصموا ايّها المؤمنون بعلىّ (ع) وولايته { جَمِيعاً } اى مجتمعين على الاعتصام { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } فى الاعتصام بان تمسّك بعضكم بحبل الله وبعضكم بحبل الشّيطان من الاديان المنسوخة والباطلة ومن ولاية المنافقين، نسب الى الباقر (ع) انّه قال فى بيان انّ الآية تعريض بالامّة واختلافهم فى الولاية بعد نبيّهم (ص) انّ الله تبارك وتعالى علم انّهم سيفترقون بعد نبيّهم ويختلفون فنهاهم عن التفرّق كما نهى من كان قبلهم فامرهم ان يجتمعوا على ولاية آل محمّد (ص) ولا يتفرّقوا { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالاسلام { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } فى الدّين متحابّين متّفقين، لمّا كان العداوة بين النّاس بلاء عظيماً لهم والالفة نعمة عظيمة فى الدّنيا ومورثاً للنّعمة فى الآخرة ذكر من بين النّعم الّتى انعم الله تعالى بها عليهم دفع هذا البلاء واعطاء هذه النّعمة، قيل: كان الاوس والخزرج اخوين لابوين فوقع بين اولادهم العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتّى أطفأها الله بالاسلام والّف بينهم، وقيل: افتخر رجلان من الاوس والخزرج فقال الاوسىّ: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشّهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة، ومنّا عاصم بن ثابت حمىّ الدّين، ومنّا سعد بن معاذ الّذى اهتزّ عرش الرّحمن له ورضى الله بحكمه فى بنى قريظة، وقال الخزرجىّ: منّا اربعة احكموا القرآن؛ ابىّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابو زيدٍ، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الانصار ورئيسهم؛ فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الاوس الى الاوسىّ والخزرج الى الخزرجىّ ومعهم السّلاح فبلغ ذلك النّبىّ (ص) فركب حماراً وأتاهم فانزل الله الآيات فقرأ عليهم فاصطلحوا { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } ذكر نعمة اخرى اخرويّة هى دفع بلاء الوقوع فى النّار والنّجاة منها وبيان لما يورثه العداوة والالفة { كَذٰلِكَ } التّبيين لآياته المودعة فى البيت والمقام واحكامه المقرّرة فى باب حجّ البيت وآياته المذكورة فى مواعظكم { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } الاخر التّكليفيّة والوعظيّة والتّكوينيّة { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } الى مصالحكم ومضارّكم او الى ولاية ولىّ امركم فانّها غاية كلّ هداية وتلويح كلّ آية كما انّ قوله تعالى { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ }.