التفاسير

< >
عرض

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ
٩٦
-آل عمران

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

تحقيق كون البيت اوّل بيت وضع وكونه مأمناً
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ } بالزّمان كما فى الخبر انّ موضع البيت اوّل بقعة خلقت من الارض على اختلافٍ فى مضمونها ثمّ دحيت الارض من تحتها، وكما فى الاخبار انّ الله أنزله لآدم من الجنّة وكانت درّة بيضاء فرفعه الله الى السّماء وبقى اساسه، او بالشّرف كما فى الخبر: انّ الله اختار من كلّ شيءٍ شيئاً؛ اختار من الارض موضع الكعبة، او للعبادة على ما قيل انّه لم يكن قبله موضع مخصوص للعبادة { وُضِعَ } خلق او بنى { لِلنَّاسِ } لانتفاعهم بالمكاسب فيه للكاسبين، او بغفرانهم لقاصديه، او براحتهم وامنهم عن القاصدين لملتجئيه، او بهدايتهم لناظريه وناظرى آياته، او بكفايتهم وقيامه بأمر معاشهم لساكنيه ومجاوريه ولو كانوا كافرين، او ببقائهم وعدم هلاكهم على ما روى من انّه لو هدم البيت وتركوا الحجّ لهلك اهل العالم { لَلَّذِي } للبيت الّذى { بِبَكَّةَ } بكّة ومكّة مترادفتان، او بكّة موضع البيت ومكّة تمام البلد وسمّيت بكّة لانّ النّاس يبكّون فيها يعنى يزدحمون او لبكاء النّاس حولها وفيها، او لانّها تبّك اعناق الجابرة اى تدقّها واشير الى ذلك فى الاخبار، وروى انّما سمّيت مكّة بكّة لانّه يبكّ بها الرّجال والنّساء والمرأة تصلّى بين يديك وعن يمينك وعن شمالك وعن يسارك ومعك ولا بأس بذلك لأنّه انّما يكره فى سائر البلدان { مُبَارَكاً } ذا بركة لمجاوريه حيث يرزقون من ثمرات الاشجار تماماً مع انّه لا ثمرة فى مكّة ويجلب الحبوب والاثمار اليه ولزائريه حيث يغفر الله لهم كيوم ولدتهم امّهم، وينظر اليهم بالرّحمة، ويقبل توبتهم، ويخلف ما أنفقوا فى سبيله، وللطّيور وسائر الحيوان حيث انّها مأمونة من الاصطياد ولطيور المسجد لكونها مأمونة ومرزوقة، وللاشجار والنّبات فى ارض الحرم حيث انّها مأمونة عن القطع فى الجملة، ولاهل العالم حيث انّهم باقون مرزوقون به كما سبق الاشارة اليه { وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } فى حمل المعنى على الذّات ما مرّ مراراً، وهدايته امّا بكون وجوده سبباً لهيجان النّفوس للتّوجّه والسّلوك اليه، او بكونه سبباً لقرب زائريه الى الله، او بكونه قبلة ومتعبّداً لهم من زمن ابراهيم (ع) او من زمن آدم (ع)، او بكونه ذا آياتٍ دالاّتٍ على تشريف الله ايّاه وعلى كونه فى حماية الله، وعلى صدق الانبياء (ع) الّذين امروا بتعظيمه والطّواف حوله والنّسك لديه، وصدقهم فى ذلك يدلّ على صدق رسالتهم وليس رسالتهم الاّ بالاقرار بالمبدأ والمعاد وتوحيد المبدأ وتوحيد العبادة، وتلك الآيات مثل اهلاك من قصد خرابه مثل ابرهة صاحب الفيل وجنوده، ومثل شيوع الموت فى قبائل اخذوا الحجر الاسود حتّى ردّوه اليه، ومثل تنطّق الحجر الاسود كما روى عند محاجّة محمّد الحنفيّة مع علىّ بن الحسين (ع)، ومثل انحراف الطّيور من محاذاته فى طيرانهم، وبكونه ذا آياتٍ باقيةٍ من آثار الانبياء ومعجزاتهم (ع) مثل مقام ابراهيم فانّ غوص القدم فى الحجر الصّلب آيةٌ دالّةٌ على انّ صاحبه ذو قوّةٍ خارجةٍ عن طوق البشر الهيّة، وكذا كونه محفوظاً على مدى الاعصار مع كثرة اعدائه الّذين كانوا بصدد محو مثل تلك الآثار ولذلك علّله بقوله تعالى { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ }.