التفاسير

< >
عرض

فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
١٩
-سبأ

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } بلسان الحال حيث عملوا بالمعاصى وكفروا النّعمة او بلسان القال والحال جميعاً بان اظهروا الملال من النّعمة والعافية وسألوا بعد المسافة فى الاسفار ليتطاولوا فيها بحمل الزّاد وما يحتاج اليه فى الاسفار على الفقراء، وقرئ ربّنا بالنّصب وبعد بصيغة الامر من التّفعيل وبُعد بصيغة الماضى من الثّلاثى المجرّد، وربّنا بالرّفع وباعد بصيغة الماضى من المفاعلة، والقراءة المشهورة ربّنا بالنّصب وباعد من المفاعلة بصيغة الامر، واذا كان بصيغة الخبر كان مقصودهم عدم الاعتداد بالنّعمة وطلباً للمزيد مع الكفران { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بكفران النّعمة { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } جمع الحديث على الشّذوذ، او جمع الاحداث جمع الحدث، او جمع الاحدوثة بمعنى الامر الغريب يعنى جعلناهم بحسب حالهم ومآلهم من غرائب الدّهر بحيث يتحدّث النّاس بهم وبحالهم { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فرّقناهم كلّ تفريقٍ حتّى لحق كلّ ببلدٍ، قيل: لحقّ غسّان منهم بالشّام، وانمار بيثرب، وجزام بتهامة والأزد بعمّان { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } دالّة على قدرتنا على الخسف واسقاط الكسف وعلى علمنا وحكمتنا وتدبيرنا لامور عبادنا، وجزاء كلٍّ منهم بحسب حاله، وعلى انّا نجزى الشّكور بالمزيد والكفور بسلب النّعمة { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } عن المعاصى وعلى الطّاعات وعلى المصائب فانّ غير الصبّار لكونه اسيراً للشّهوات والغضبات ومورداً للبلايا لا يكون له فراغ حتّى يتأمّل فى ذلك ويستدلّ بها على شيءٍ آخر { شَكُورٍ } ناظر فى النّعمة الى الانعام والى المنعم وامّا الغافل عن المنعم والانعام فلا يدرك من النّعمة وزوالها وتغيّرها تصرّف المنعم فيها حتّى يستدلّ من النّعمة وتبدّلالتها على صفات المنعم وعلمه وحكمته وقدرته.
اعلم، انّ الآيات القرآنيّة العظمى الآفاقيّة من الانبياء والاولياء (ع) لها ظواهر وبواطن الى سبعة ابطنٍ الى سبعين الى سبعين الف بطنٍ الى ما شاء الله، ولها تنزيل وتأويل ولتأويلها تأويل الى سبعة الى ما شاء الله، وتنزيل هذه الآية قد ذكر، وقد ورد عن الصّادق (ع) فى تنزيلها انّه قال: هؤلاء قومٌ كانت لهم قرىً متّصلة ينظر بعضهم الى بعض وانهارٌ جارية واموالٌ ظاهرة فكفروا نعم الله عزّ وجلّ وغيّروا ما بانفسهم من عافية الله، فغيّر الله ما بهم من نعمة و
{ { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11]، فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرّق قُراهم وخرّب ديارهم وذهب بأموالهم وابدلهم مكان جنّتيهم جنّتين ذواتى اكل خمط واثل وشيءٍ من سدرٍ قليلٍ وتأويلها بحسب الصّغير والكبير كثيرٌ؛ فانّ النّفس الحيوانيّة بعد تجلّى العقل عليها بالنّفس الانسانيّة يجعل الله بينها وبين القرى المباركة الّتى هى العقول والارواح قرىً ظاهرة من مراتب النّفس الانسانيّة ومراتب القلب فتسأل بلسان حالها بالتّولّى عن تلك القرى والتّوغّل فى المشتهيات الحيوانيّة بُعد السّفر بينها وبين القرى، او تستبعد بتوغّلها فى تلك المشتهيات السّفر الى تلك القرى فتثبّط الى الارض الحيوانيّة وتتوحّش من السّفر اليها، وايضاً افراد الانسان بعد البلوغ واستكمال النّفس الحيوانيّة بالنّفس الانسانيّة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم مشايخ الائمّة (ع) قرى ظاهرة هى شيعتهم ورواة احاديثهم ونقلة اخبارهم فيتولّون عنهم ويسألون بلسان حالهم بعد الاسفار والمشقّة والاخطار، او يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم الائمّة (ع) قرىً ظاهرة هم مشايخ الائمّة (ع) الّذين نصبهم الائمّة (ع) لهداية الخلق واخذ العهد منهم بالبيعة على ايديهم والتّوبة عندهم وعلى ايديهم او افراد الانسان بعد الاسلام والبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم مشايخ الائمّة (ع) او هم الائمّة (ع) قرى ظاهرة، او افراد الانسان بعد الايمان والبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم الائمّة (ع) مشايخ وناقلين لاخبارهم، او يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم الائمّة بنورانيّتهم وظهور ملكوتهم على نفوس بايعيهم قرىً ظاهرة من مراتب ذكرهم وفكرهم، او من مراتب نفوسهم الى مراتب قلوبهم الّتى فيها يظهر ائمّتهم بنورانيّتهم، او افراد الانسان بعدما يظهر عليهم ائمّتهم بنورانيّتهم يجعل الله لهم قرىً ظاهرة هى مراتب نورانيّة ائمّتهم بينهم وبين مقام ولاية ائمّتهم فيمزّق كلّ هؤلاء، كما يشاهد من النّاس غير المؤمنين بالبيعة الخاصّة الثّابتين على ايمانهم المسافرين على القرى الظّاهرة من تفرّقهم كلّ التّفرّق بحسب المقصد والمذهب والارادة والمشتهى بحيث يلعن بعضهم بعضاً ويبغض ويكفّر بعضهم بعضاً قلّما يتّفق منهم اثنان، وان اتّفق اتّفاقهم بالنّسبة الى بعض المؤمنين كان اتّفاقهم كاتّفاق الكلاب الواقعة على الجيف من حيث انّها يبغض كلّ للآخر ويعقر كلّ للآخر، واذا رأت انساناً من بعيدٍ انّه متأذٍّ من جيفتها تتّفق فى الحمل عليه ونهشه وقتله، اعاذنا الله من غضبه وكفران نعمه.
وقد ورد عن الباقر (ع) انّه قال: بل فينا ضرب الله الامثال فى القرآن فنحن القرى الّتى بارك الله فيها وذلك قول الله عزّ وجلّ فيمن اقرّ بفضلنا حيث امرهم ان يأتونا فقال: وجعلنا بينهم وبين القرى الّتى باركنا فيها، اى جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى الّتى باركنا فيها قرىً ظاهرة، والقرى الظّاهرة الرّسل والنّقلة عنّا الى شيعتنا وفقهاء شيعتنا وقوله سبحانه: وقدّرنا فيها السّير فالسّير مثل للعلم سير به فيها ليالى وايّاماً مثل ما يسير من العلم فى اللّيالى والايّام عنّا اليهم فى الحلال والحرام والفرائض والاحكام آمنين فيها اذا أخذوا عن معدنها الّذى امروا ان يأخذوا منه آمنين من الشّكّ والضّلال والنّقلة من الحرام الى الحلال، والاخبار فى هذا المعنى واردة منهم كثيراً.